لا يخفى على أحد من العقلاء أننا نمر بأكثر مراحل الثورة حساسية منذ قيامها، تلك المرحلة التي أكثر ما تفرضه علينا الصراحة مع أنفسنا والاستعداد التام للنقد الذاتي بهدف اشتكشاف أخطائنا وتصحيح المسار. وفيما يلي أحاول أن أقدم رؤيتي لتلك المرحلة من الثورة أعترف فيها بأني لم أنجح في التحييد الكامل والتام لمشاعري الذاتية السلبية تجاه كل من يغتال رمزية ميدان التحرير الآن سواء من المتواجدين داخل الميدان أو خارجه.
إن عجلة التغيير في المجتمعات تدور بتراكم يؤدي إلى انفجار ثوري، يحدث ذلك التراكم عن طريق التدافع على امتلاك الحيز العام بين طرفين، الطرف الأول فيه السلطة، والطرف الثاني فيه طليعة شعبية تنازع السلطة على الحيز العام. و السواد الأعظم من الشعب يكون طرفا ثالثا خارج إطار ذلك التدافع حيث اكتفى بممارسة إرادته على حيزه الشخصي وبمشاهدة معركة الحيز العام دون أن تعنيه. تستمر تلك المباراة ويستمر ذلك التدافع حتى لحظة ما يشعر فيها الطرف الثالث – لأسباب تختلف باختلاف السياق – أن المعركة معركته وأنه لابد أن ينتقل من المشاهدة إلى المشاركة، وهنا يكون الانفجار الثوري وتضطر السلطة حينها أن تتنازل عن الحيز العام لصالح المواطنين الذين يديرونه فيما بينهم حتى يُعاد إنتاج التدافع مرة أخرى عن طريق تحول بعض المواطنين إلى سلطة أخرى، وهكذا تدور عجلة التغيير في مسار دائري لا تصل إلى نقطة التحقق إلا لتعيد إنتاج نفسها مرة أخرى، فالتغيير سنة الحياة. صحيح أن شكل الدولة الحديث القائم على التمثيل والتفويض لا التشارك ساعد على تعطيل عجلة التغيير بعض الشيء لكن هذا موضوع آخر ليس هنا مجاله.
في الثورة المصرية، حدث ذلك الانفجار الثوري حينما أصبح النظام المخلوع عدوا للشعب كله الذي كان يقف على الحياد يشاهد المباراة، وساعد في تأجيج ذلك الانفجار غباء النظام المخلوع في التعامل مع الغضب الشعبي، حيث كانت كل ردود أفعاله التي تتسم بالكبر الشديد تستفز الشعب في مجمله وتستعديه ضده، حتى أجبرت المؤسسة العسكرية نفسها على الانضمام للثورة. وتحليلنا لموقف المؤسسة العسكرية لا يمكن أن يكون تحليلا بسيطا يختزل الجيش في موقف أحادي البعد إما مع أو ضد، بل لابد حين نحلل موقف الجيش أن ننظر إليه نظرة بها قدر أعلى من التركيبية ومراعاة تعدد الأبعاد، فالجيش كأفراد هم صورة من المجتمع المصري، منهم من هو مع الثورة ومنهم من هو في صف النظام السابق إما لفائدة مادية من الفساد أو لأنه تماهى مع النظام السابق كالعبد الذي يتماهى مع سيده تماهيا يُشعره بأن الحياة بدونه غير ممكنة. غير أن ما المشترك بين أفراد الجيش المنتمين إلى المؤسسة العسكرية العقلية المحافظة التي تؤخرهم عن مربع الفعل إلى مربع رد الفعل، لذلك كان موقفهم من الثورة دائما يعتمد على حركة الشارع نفسها، وحينما كان الزخم "الشعبي" في الشارع أكبر وأضخم من أن يُطعن عليه، انحازت المؤسسة العسكرية لا للثورة، ولكن لأقل الخيارات خسائرا من وجهة النظر المادية.
الأزمة أننا ونحن نستكمل ثورتنا ونهتف "الجيش والشعب إيد واحدة" لم نفرّق بين تفاعل أفراد الجيش وحسابات المؤسسة العسكرية التي تتعلق باستمرار انحيازها لأقل الخيارات خسائرا من وجهة النظر المادية، واعتمدت في ذلك على رومانسيتنا الزائدة في التعامل مع أنفسنا التي جعلتنا نغفل أن الشعب حديث عهد باقتحام الحيز العام، فسهّلت تلك الغفلة على المؤسسة العسكرية مهمة فتح أبواب خلفية في قطار الثورة ينزل منها الشعب ويعود مرة أخرى إلى Comfort Zone اعتاد عليها وهي موقع المشاهدة، وباستمرار تغافلنا وربما تعالينا على الشعب انتقل كثير من فئات الشعب من موقع المشاهدة إلى موقع رفض الثورة أصلا، وهذا واقع لايجب أن تذهب بنا نرجسيتنا الثورية بعيدا لننكره.
ومما عمّق الأزمة أن القوى الثورية نفسها انقسمت وصارت لا ترى إلا عيوب بعضها البعض، فالثوار في الميدان تقودهم مزايداتهم الثورية إلى العديد من المواقف التي أقل ما توصف به هو الرعونة والتهور أو الخوف من المزايدات المضادة كما لو كانت الثورة مجرد "خناقة" يسعى كل طرف فيها ألا "يعلّم" عليه الطرف الآخر، والثوار خارج الميدان قادتهم مزاياداتهم الوطنية إلى التنقيب عن أخطاء الميدان وتضخيمها وجعل تلك الأخطاء هي عنوان الميدان حتى يبرروا لأنفسهم التخلي عنه.
ما يُضفي على هذا المشهد شكل من أشكال العبثية أو الكوميديا السوداء هو أن كل الحركات والأحزاب المنظمة في مصر لا تستطيع "مجتمعة" أن تكوّن كتلة حرجة مصرية، والثورة خير دليل على ذلك، فما بالك إن كانت متناحرة فيما بينها؟!
الخطورة أنه لو استمر الأمر على ماهو عليه فسيستمر تساقط الشعب من قطار الثورة وستتحول الثورة إلى صدام بين طليعة ثورية طائشة وسلطة عسكرية غاشمة صداما قد يقدم في مرحلة من مراحله ذريعة للمؤسسة العسكرية أن "تقوم بدورها في حماية البلاد من أيدي المخربين والعملاء" وسيكون دورا يحظى بتأييد شعبي خاصة وأنه يخاطب هاجسا عن المصريين مفاده أن مصر لا يصلح لها إلا العسكر.
وفي ضوء ما سبق يبدو أنه لا أمل لنا إلا أن تتوقف القوى الثورية عن النظر لبعضها البعض، أو بمعنى أدق النظر لعيوب بعضها البعض وأن تكف عن المزايدات الثورية أو الوطنية، فكلنا مصريون امتزجت دماؤنا واختلطت احتمالات استشهادنا، يجب أن نكف عن المزايدات وأن نصارح أنفسنا بحقيقة أنفسنا وبأنه لا نجاة لنا إلا بظهير شعبي من الشارع، فما يجب علينا الآن الآن وليس غدا، هو أن نتوجه للشارع كلنا بالملفات التي تمس حياتهم وهي كما أراها ثلاثة ملفات حالّة هي ملف القصاص من قتلة الشهداء، وملف الأمن، وملف العدالة الاجتماعية، ويجب أن نُحيّد تلك الملفات من تحيزاتنا الأيدولوجية والفكرية بل أن نطرحها على الشارع كأهداف للثورة أعاق التقدم فيها تعثر الثورة وليست الثورة ذاتها، بدون ذلك فـ 1954 سيكون ذكرى لطيفة مقارنة بـ 2011
لا يسعني إلا أن أعلن عن افتقادي الشديد للعبقري جمال حمدان، رحمه الله
باسم زكريا
26/7/2011
باحث في مركز المربع للدراسات الإنسانية والاستراتيجية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق