الثلاثاء، ٢٥ أكتوبر ٢٠١١

خواطر من البحر

"اللي قضّى العمر هذار، واللي قضّى العمر بجد ... شد لحاف الشتا م البرد" هي جملة من أغنية "الشتا" لمحمد منير والتي تتحدث عن الموت "لحاف الشتا". ذكرني بها أخي أحمد عادل ونحن في القطار عائدين من الإسكندرية مساء الأحد الماضي. حيث قضينا اليوم هناك، كان هو يقوم بإنجاز بعض الأمور المهمة كعادته وأقوم أنا بمراقبة البحر.

ليس المهم كيف بدأ اليوم، ولا مغامرات اللحاق بالقطار التي انتهت بي مُكوّما في "ميكروباص" في وضع أشبه بوضع الجنين لخمس ساعات كاملة. المهم أن في ذلك اليوم كان البحر شتائيا به عنفوان، وكانت الريح تقلّبه بيد وباليد الأخرى تضرب جسدي الذي لم يكن يمنعه منها سوى قميص صيفي خفيف. في هذا اليوم تركت نفسي للبحر وللريح. اعتليت إحدى القوالب الخرسانية التي تقف على خط المواجهة مع جيوش الأمواج، لم أحاول أن أتّق بخطوة خلفية مثلا بقايا جيوش الأمواج التي استطاعت تجاوز خطوط الدفاع الخرسانية الأولى. بل كنت أفسح لها الطريق لجسدي فتقتحمه، والريح مازالت يدها تدفعني حتى خارت مقاومتي وصرت وسطا شفّافا تخترقه يد الريح اختراقا. وهكذا بعد حوالي ساعتين من المعركة تم اختراق كل مسام روحي واضطررت أن أنسحب من الميدان حتى لا يتحول "البنطلون" من مصاب إلى شهيد! فالمثل القائل "البلد اللي مالكش حد فيها شلّح واجري فيها" لا يجب أن يُطبّق بالمعنى الحرفي على أية حال.

انسحبت من تلك المعركة ولم يبق لي من نفسي شيء فلقد انفتحت روحي تماما للكون. ألقيت على البحر نظرة أخيرة أحاول أن أفهم مقدار التشابه بيني وبينه وابتسمت رغما عني ابتسامة ذات مغزى وانصرفت لألتقي بأخي أحمد عادل لنقضي ساعة أو يزيد قبل ميعاد قطار العودة. حدّثته عن الحالة النفسية التي أمر بها الآن وكيف أني أقف على الحياد التام بين كل المشاعر، فلا أنا متفائل ولا أنا متشائم. ولا أنا حزين ولا أنا سعيد، غير أني أشعر بالإشفاق. أشفق على حال الإنسان الذي صار من كثرة انشغاله بتفاصيل الحياة كالحية التي تأكل ذيلها، وينمو ذيلها كل يوم بمقدار ما تأكل فتستمر معاناتها، فلا هي تمتنع ولا هي تنتهي حياتها، بل تظل تعذب نفسها، وأشعر بالرضا أيضا. الرضا لأني غير قادر على أن أكون أسير تلك الحلقة، فأنا أذهب لعملي كل يوم مرتديا ربطة العنق، ولكني أحرص على أن أركب "التوكتوك". فأنا أستقل "التوكتوك" في طريقي إلى الـ"corporate" التي أعمل بها، ثم أعود من عملي غالبا وقت أذان العشاء فأصعد إلى المنزل أبدّل ملابسي وأرتدي إحدى عباءاتي الأثيرة التي تكرهها أمي لأنها "مش منظر!" وأنزل لصلاة العشاء حريصا على أن أحيي كل من في طريقي (ليس من باب السلام على الغرباء، ففي الحيّ الذي أسكنه لا يوجد غرباء). أحيي كل من أقابله وكأنني أشد على يديه وأحيي فيه تمسّكه بفطرة إنسانية هي حائرة تسعى في صحراء المادية المقفرة تنتظر أن تتفجر زمزم من مكان ما.

***

كنت أفكر في سيدنا الحسين بن علي عليه السلام، إمام الثائرين وسيد شباب أهل الجنة، حيث زرت قبره منذ أسبوع أو يزيد وخرجت بسؤال: هل انتصر سيدنا الحسين في ثورته أم انهزم وانتصر يزيد؟ الجواب بديهي وهو أن الحسين انتصر، ولكن المقاييس المادية تقول أنه انهزم وانتصر يزيد، فالسؤال إذن وما المعيار الذي نقيس عليه النجاح والفشل والنصر والهزيمة؟ ليس الجواب مهما لكن المهم أن نتساءل عن هذا الأمر، عن المعيار. تذكّرت الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله ورضي عنه، وخطبته عن استشهاد الحسين، وآه من الشيخ كشك. ينفر منه بعض أبناء جيلي لأنه "بيزعّق"! ولكني أطرب لهذا "الزعيق" حقا أطرب، فصوته صوت حق ينبت من قلبه ويُروى بإخلاصه فينشر ظلاله على قلوب مستمعيه، يكفيني أن أستمع له يقول "يا أكرم الأكرمين يااااااااارب" رحمه الله سأل الله من على المنبر أن يقبضه إليه وهو ساجد ومات رحمه الله ورضي عنه وهو ساجد يوم الجمعة قبل صلاة الجمعة، وهو يؤدي صلاة الضحى.

كنت أتحدّث مع أخي أحمد عن الشيخ كشك، في القطار وأحاول أن أقارن – على استحياء – بينه وبين ما يتسمّون بالعلماء الذين يحيون بيننا الآن، وكنا نحاول أن نتخيّل ما كان يفعل لو كان بيننا الآن. إن مثل الشيخ كشك في الحياة كمثل العلامات الإرشادية التي يدلّنا الله به على حقيقة الدنيا، وعلى الحجم الحقيقي لهمومنا، همومنا التي تدفعنا للتفاؤل أو للتشاؤم، فهذا الرجل كفيف البصر مُنوّر البصيرة مع ما تعرّض له من تنكيل وعذاب لم يكن يهدأ عن الجهر بم يراه حقا، ولم يكن مع ذلك عابسا مزمجرا متوعّدا، بل لا تكاد تخلو له خطبة من طرفة يحكيها، بل كان يتندّر على المُخبرين وعناصر الأمن من على المنبر. فيُحكى عنه أنه في مرة قال ما معناه، الإخوة المُخبرين في الصف الأول يتقدّموا قليلا حتى يفسحوا مكانا للمصلّين خارج المسجد.

***

كنت أشعر بشيء من الإحباط واليأس. لم يكونا إحباطا ويأسا مُقعدين عن العمل، بل إن الأمر أنني وفجأة لا أجد لنفسي مشروعا يحتويني، فأنتدب نفسي له، وأنفق في سبيله الجهد، لا أجد "قضية حياة" أسعى في ظلالها، فكل ما في الحياة لا قيمه له سيأكله الموت يوما. أحلامي تساقطت أمامي كأوراق شجيرة غضة يجتاحها خريف واقع قاسٍ. ولا مانع عندي من الحياة بلا أحلام ولا أهداف تتحقق فيها، فالمعيار الذي نعرف به الصواب والخطأ ونفرق به بين النصر والهزيمة هو أصلا معيار متجاوز للحياة غير حالّ فيها. ولا أرى ثابتا يصح الركون إليه والتسليم له سوى الله، التسليم لله الذي قال عنه الأستاذ علي عزت بيجوفتش رحمه الله ورضي عنه أنه "ضوء يانع يخترق التشاؤم ويتجاوزه"، التسليم لله ذلك الضوء الخافت في نهاية نفق النفس المظلم، ذلك الضوء الخافت الذي ترشدنا إليه مصابيح خافتة على جانبي ذلك النفق هي العبادات التي أمرنا الله بها، والتي ما علينا إلا الامتثال لها حتى وإن لم توافق هوانا، فنحن نعبد الله لا هوانا.

***

لم ينته اليوم بعد، فلقد أرسل الله لي هدية في القطار في طريق العودة، حيث كان يجلس أمامنا عائلة أجنبية تبدو أمريكية من لهجتها وكان لديهم أطفال وكانت إحدى تلك الأطفال لم تبلغ العامين، التفتت إلي فداعبتها وداعبتني حتى صارت تبادلني ألعابها وكانت عبارة عن سيارة صغيرة ودمية ظللنا نقذفها على بعضنا البعض في مرح وصرنا صديقين، وحينما فتحت لها ذراعي كادت تقفز علي لولا أن محاولاتها للنفاذ من المساحة الضيقة بين الكرسيين فشلت لضيق المساحة فحاولت اعتلاء الكرسي ولكنها مع الأسف لم تفلح أيضا. الأطفال هم الأقرب للفطرة، هم بهجة الحياة وإشراقها، وكانت تكفيني إشراقة تلك الطفلة في وجهي كهدية من الله تخفف عنّي حدة الفكر وهمّه

***

"علّق حلمه على الشماعة"

"علّق حلمه على الشماعة"




باسم زكريا السمرجي

25/10/2011

الأربعاء، ١٩ أكتوبر ٢٠١١

الثورة ... "الفن المصراوي بجد" الذي بحث عنه حسن أرابيسك

قد أقرأ كلمة فلا تتجاوز عيني صورة حروفها، وقد يستحسن عقلي بعض المعاني فيها، غير أنها قليلة تلك المرات التي أجدني أتجاوز حروف الكلمة ومعانيها إلى روحها، وتتجاوز هي عيني وعقلي إلى روحي. وهذا ما حدث معي منذ يومين عندما صادفت الحلقة الأخيرة من مسلسل "أرابيسك" للكاتب المبدع أسامة أنور عكاشة، تُذاع على التليفزيون المصري .. ربما وافق السؤال الذي أرّق روح الكاتب المبدع رحمه الله وهو يكتب تلك الحلقة السؤال الذي كان يؤرّق روحي وأنا أشاهدها.


والمسلسل لمن لا يعرفه يحكي باختصار مخلّ عن "حسن أرابيسك" فنان الأرابيسك الشعبي الذي يتولى مسؤولية تنفيذ أعمال التشطيبات الخاصة بفيلا الدكتور برهان العالم المصري الذي عاد لتوّه من الولايات المتحدة ويريد أن يبني فيلا أراد لها أن تكون تحفة فنية بأن تمثل تاريخ مصر كله، وهذا ما حيّر حسن ثم اعترض عليه بعد ذلك وكانت وسيلة اعتراضه هي القيام بأعمال تخريبية في الفيلا حتى وهن أساسها ولم تستطع أن تصمد لأحد توابع الزلزال الشهير فانهارت.


والمشهد الذي أعنيه هو لحسن في السجن – بعد أن اتُهم واعترف بتعمّده هدم الفيلا – يخطب في المساجين مفسّرا حتمية انهيار الفيلا باستحالة تنفيذ رغبة صاحب الفيلا لأن "الترقيع ما ينفعش، البزرميط ماينفعش، والفن الحقيقي مش طبيخ" وأننا لكي نمثل تاريخ مصر الحقيقي الطويل الحائر بين الفرعوني والروماني والقبطي والإسلامي ... إلخ لابد أن نعرف متى كانت مصر هي "مصر بذات نفسها"، "مصر بحق وحقيق"، وحين نعرف ذلك سنعرف من نحن "ولمّا نعرف احنا مين هنعرف احنا عايزين ايه". ثم يستطرد ويصل إلى الجملة التي استوقفتني وهي "مفيش حاجة جت عَجَنت ده كله في بعضه وطلعت فن نقدر نقول عليه هو ده الفن المصراوي اللي بجد" ثم ينهي خطابه بـ "إنما المهم، المهم أوي، نعرف احنا مين وأصلنا ايه. ساعة ما نعرف احنا مين، هنعرف احنا عايزين ايه ونبدأ ونتَكّل على الله"


وددت لو أن الكاتب الراحل حيّ بيننا الآن ليشهد الثورة، فلربما وجد فيها ضالته، ربما وجد "الفن المصراوي اللي بجد" في لوحة الموزاييك التحريرية التي كان الكل فيها متديّنون، فوقت الصلاة ينقسم الناس إلى مصلّين أو حماة لهم، والكل فيها اشتراكيون يتشاركون الخيام والطعام دون تمييز أو تصنيف، والكل فيها ليبراليون لا يبحث أحد لأحد عن تصنيف أو عنوان فالسيدة القبطية تصب ماء الوضوء للشيخ الملتحي، والشاب السلفي يشارك في حلقة للغناء مع الفتاة السافرة .. ذلك هو الفن المصراوي اللي بجد الذي كان يبحث عنه الراحل أسامة أنور عكاشة فنا يحتوي كل العناصر التي تاه بينها الدكتور برهّان وحيّر معه حسن أرابيسك، فنا يحتوي كل تلك العناصر دون أن يضطر أن يكون واحدا منها.


وننتقل من حكاية حسن أرابيسك، أو ننتقل بها إلى الثورة وننتقل بالثورة إلى الدولة بل وإلى أصل فكرة "العلوم الاجتماعية" والتي أعترض عليها ابتداء وأحب أن أسميها "دراسات" بدلا من "علوم"، لأن العلم لكي يكون علما لابد أن يتسم بأكبر قدر من الموضوعية والحياد، وأقول "أكبر قدر" لأن الحياد التام والموضوعية الكاملة هي محض خرافات كما تعلّمنا من أستاذنا د. عبد الوهاب المسيري، وأكبر قدر من الحياد أقصد به ما يتوّفر في قاعدة أن الماء يغلي عند درجة حرارة 100 دون اعتبار للموطن الذي اكُتشف فيه ذلك الاكتشاف، ولا للغة التي كُتب بها أول مرة. ولا يهم إن كان ذلك الماء في كوب من الحديد أو من الزجاج أو من الورق المقوى، ما إن تصل درجة حرارة الماء إلى 100 سيتحول إلى بخار. وذلك القدر من الحياد والموضوعية لا يتوافر في الدراسات الاجتماعية، فلا يُمكن تجريد أي نظرية وُضعت في هذا المجال من واضعها ولغته وجنسيته، ففي الغالب كانت تلك النظرية جوابا لسؤال مُجتمعي مخصوص بمجتمع ما في ظرف مكاني وزماني ما، ويصعب بل يستحيل تجريد النظرية من كل تلك التحيّزات المتشابكة، فتلك التحيّزات المجتمعية هي التي تُنشئ النظرية بالأساس وتفريغ النظرية منها لا يبقي في أيدينا إلا جسدا أجوفا لا أكثر. وكلامي ليس بهدف التقليل من شأن العلوم الاجتماعية وإنزالها من مرتبة العلم إلى مرتبة أدنى منها بل على العكس فالتأكيد على الجانب الذاتي في الدراسات الاجتماعية هو للتأكيد على عبقرية منظّروا ذلك المجال وتفرّدهم عن أقرانهم، وذلك التأكيد أيضا هو ما يُمكننا من الاعتراف بحاجتنا لإنتاج أفكار جديدة وهو ما يحول بيننا وبين السقوط في فخ استهلاك الأفكار والانسحاب من ميدان إنتاجها.


والثورة المصرية خير دليل على ذلك، فهي كما أراها لم تكن ثورة سياسية اقتصادية فقط كما يبدو لنا من الوهلة الأولى، بل هي تحمل بداخلها ثورة معرفية على نسق معرفي حداثي عالمي حاكم منذ قرون، ثار المصريون عليه وأعلنوا حاجتهم لنسق جديد، فكرة جديدة، تحل محل الفراغ المعرفي الذي ولّدته الثورة، ونقطة البداية لإنتاج الأفكار أو النماذج هي الرجوع إلى المقاصد. وإن كنا بصدد الحديث عن إنتاج الأفكار عن شكل الدولة فلابد أن نتذكر مقصد الدولة وسبب نشأتها وهو في أبسط صوره إدارة العلاقات المجتمعية على الوجه الذي يحقق استدامة العدل والحرية والكرامة لكل أفراد المجتمع. كان ذلك مقصد الدولة على مر العصور كما أراه، مهما تطوّرت وسائل اقتفائه بداية من القبيلة انتهاء بالدولة القومية الحديثة وكان ذلك التطور من نموذج لآخر يُنشئه تطوّر المجتمعات واختلاف حاجاتها، وإن كان قديما يُسمح بتواجد عدة نماذج للدولة في نفس الوقت إلا أن التقدم التقني في مجال الاتصال الذي حوّل العالم إلى قرية صغيرة سهّل عولمة الدولة القومية الحديثة كنموذج وحيد مُعترف به عالميا لإدارة شؤون المجتمع. ودون الخوض في التفاصيل، فالدولة القومية الحديثة وما يرتبط بها من مفاهيم كالمواطنة والديمقراطية والأيدولوجيا هي مُنتج غربي بالأساس أنشأته طبيعة المجتمع الغربي، وفي الحقيقة لا يهمني كونه غربيا أم غير ذلك، فالشاهد أنه مجتمع مخصوص له طبيعة مخصوصة وحاجات مخصوصة أنشأت نموذجا مخصوصا لإدارة العلاقات لا يجوز تعميمه على مجتمعات أخرى مخصوصة بخصوصيات أخرى، فذلك التعميم للنماذج المخصوصة واتخاذها مصدرا للمعايير هو مدخل تغلّب مجتمع على آخر, فالذي أنشأ تلك المعايير هو الوحيد القادر على الوفاء بها. والآخرون مهما لهثوا وراءها لن يقتربوا من استيفاء استحقاقاتها إلا بقدر اقتراب الظمآن من السراب.


والمجتمع المصري الحديث لم يُعط فرصة لأن يُتم تفاعله ويُنتج نموذجه الخاص المخاطب لحاجاته المستجيب لتساؤلاته إنتاجا قاعديا، بل كانت النماذج تُفرض عليه فرضا من أعلى، حيث أن المصريين لم يكادوا يفيقون من احتلال عسكري حتى وقعوا أسر احتلال معرفي لم يتحرروا منه بشكل كامل حتى الآن، وانسحب المثقفون من ميدان إنتاج الأفكار واكتفوا – إلا من رحم ربي – بدور المستهلك لأفكار أنتجها الغرب أو الشرق. فلجأ المصريون إلى مقاومة تلك النماذج المفروضة عليه بالمراوغة والحيلة أحيانا والنكتة أحيانا أخرى، حتى أتت الثورة فخرج المصريون يعبّروا عن تلك المقاومة وذلك الرفض تعبيرا صريحا، خرج المصريون يثورون لا على سلطة تنفيذية غاشمة مستبدة فقط، بل خرجوا يثورون على سلطة معرفية تفرض تصورا معيّنا لما هو صحيح وما هو غير ذلك، خرج المصريون يعيدون التعريفات ويصيغون المفاهيم لما يرونه صحيحا وما يرونه غير ذلك ممارسة لا تنظيرا، فقد سبق الفعل في هذه الثورة الفكر. وإن كان المثقفون والنخب فاتهم استشراف الثورة والتنظير لها، وهو ليس عيبا – فعوام المصريون دائما مدهشون – أقول إن كان فات المثقفين استشراف الثورة والتنظير لها فلا أقل من أن يقوموا بدورهم الآن في صياغتها، صياغة، تجمع تلك القطع من الموزاييك في لوحة واحدة متكاملة تمثل "الفن المصراوي اللي بجد" الذي حيّر حسن أرابيسك.


ولا أدّعي لنفسي الإحاطة بأطراف الصياغة الصحيحة للنموذج الصحيح الأكثر اقترابا من التعبير عن حقيقة الثورة، غير أني على الأقل أعرف أن نقطة البداية هي الناس، آحاد الناس، وليس المؤسسات، ففكرة المؤسسية في مصر خاصة في السياسة من الأفكار التي لم تثبت نجاحا، وذلك ليس لعيب في المجتمع المصري ولكن لأنها ببساطة أفكار غريبة عنه يرفض الانصياع لها قد تحتاج بعد التعديل قبل أن يتبنّاها، وخير دليل على ذلك ما حدث من توقيع بعض الأحزاب على بيان تأييد المجلس العسكري منذ أسابيع قليلة، فمن المفترض أن الموقعون هم ممثلون عن الأحزاب، لكننا شهدنا كوميديا مؤسسية بالغة في العبث، فتوقيع، ثم تراجع، ثم إنكار، ثم تراجع عن التراجع، ثم اعتذار عن التراجع، ثم انسحاب عن الاعتذار ... إلخ دون أدنى انضباط مؤسسي يُذكر.


وأذكر هنا محادثة دارت بيني وبين أحد أصدقائي حيث كان يقول لي أنه يقف على مسافة واحدة من كل الآراء السياسية ولا يعرف ماذا يفعل، وكان ردّي عليه أنه على حق، فالقليل الذي عرفته من السياسة دلّني على أن كل الخيارات السياسية يمكن أن تكون صحيحة وكلها يمكن أن تكون خاطئة، فمعيار الحكم ليس في الخيار السياسي نفسه لكن في طريق الوصول إليه، وإن الطريق الذي يمر بالناس هو الطريق الذي يُفضي بالضرورة إلى الخيار السياسي الأكثر شرعية، حيث سيستمد شرعيته من مشاركة الناس في صياغته.


أعود إلى مشهد "أرابيسك" حيث كنت جالسا بين أمي وأبي، وقلت لأمي أتعلمين انهيار فيلا برهان يشبه ماذا؟ قالت لي الثورة. ثم بعد ذلك المشهد، المشهد الأخير وفيه مجذوب الحي كان يجري في الشوارع يهتف "حسن رااااااااجع ... حسن رااااااااجع" فالتفت لي أبي قائلا: حسن هو مصر ... مصر راجعة.



باسم زكريا السمرجي
16/10/2011

الأربعاء، ١٢ أكتوبر ٢٠١١

(عنوان هذه الخاطرة محجوب من الرقابة)

الساعة الثالثة إلا ربع فجرا والليل في منزلنا لا يقطع سكونه إلا صوت موتور الثلاجة الرتيب، ونباح بعض الكلاب في الشارع التي تعبر عن استيائها من مشاهدة بعض الشياطين، وصياح الديك الساكن سطوح المنزل المقابل لمنزلنا الذي يبدو إن اضطراره للإسراف في استنشاق دخان الحشيش والبانجو خرّب ساعته البيولوجية.

الظلام في غرفتي كاد أن ينام مطمئنا على أنه احتوى كل شيء في عباءته السوداء، غير أن الإشعاع المضيء المنبعث من شاشة "اللاب توب" أرّقه، ولولا أن الظلام علم تفضيلي أن أدوّن خواطري الآن على أن أراعي شعوره وأن هذا هو الوقت الوحيد الذي يستطيع أن يلمّ شتاته وينام جسدا كاملا بجواري لما استسلم للنوم بعينين نصف مفتوحتين.

كل شيء يبدو في غرفتي تحت الظلال مرتّبا، نعم كل شيء مرتبا بعناية بل وخاضع لنظام محكم حتى وإن اعتقد أبي غير ذلك واتهمّني بالعشوائية وأصر على ألا يجعل خروجه من غرفتي في كل مرة يدخل فيها خاليا من "أنا مش فاهم انت ازاي مستحمل تعيش كده". المشكل أنني أعتبر أن الغرفة غرفتي، وما بها ملك لي، وطالما أني أعرف مكان كل شيء فيها فإذن كل شيء يخضع لنظام مُحكم حتى وإن لم يفكّ شفرة ذلك النظام أحد سواي، حتى وإن تاهت مني بعض أغراضي وأمضيت ساعات أبحث عنها، فربما يكون ذلك جزءا من النظام، فحقيقة الأمر أنا لا أعلم كيف يحتمل المرء ملل أن يعيش في مكان مرتّب لا يقضي بعض الوقت في البحث عن أشيائه التائهة فيه.

الحمّى هي رفيقتي في تلك الليلة، وأنا لا تقلقني الحمّى، فالمرض عموما يجعلني أشاهد الحياة بالتصوير البطيء فأتمكن من رؤية أشياء لا أستطيع أن أراها وهي في حال حركتها العادية التي ليست سريعة على أية حال، أشياء لا تقل أهمية عن معرفة حقيقة الهدف الثاني لإنبي الذي أدخل السرور على قلبي حيث اقتنص به الفريق البترولي كأس مصر (الذي أصبح كأس فودافون) من الزمالك وهل كان ذلك الهدف تسلل أم لا. بالمناسبة .. أنا أهلاوي لأنني أحب أن أحيا "مكبّر دماغي" فتشجيع الأهلي مُريح، والشماتة في "الزمالكاوية" مسليّة أيضا وهذه ملاحظة هامشية لا أهمية لها ولكن كل ذلك النص لا أهمية له أصلا وطالما تحمّلت عناء القراءة فلا أظن أنك ستشعر بالضجر من قراءة تلك الملاحظة، غير أني أجزم أنك ستشعر بالضجر من ذلك الاستطراد، ولكن لا يهم فأنا بصراحة لا أعلم عن نفسي أني من الأشخاص "المسليين" أو الذين تحلو صحبتهم، فأنا شخص ثقيل الظل، "كـِـشـِـر" في بعض الأوقات، "واخد في نفسي قلم أونطة" في أغلب الأوقات.

الحمّى تلك المرة تأتي بعد أيام من يوم السبت الماضي، وما هو الشيء المميز في يوم السبت الماضي؟ هذا سؤال وجيه. الشيء المميز هو أني سافرت إلى الاسكندرية في قطار الساعة الثامنة صباحا وعدت في قطار الساعة العاشرة مساء، وأنا لم أسافر إلى الإسكندرية منذ كان عمري 10 سنوات تقريبا، أي منذ 14 عاما. سافرت وحدي وقضيت فترة عشرة ساعات كاملة أمام البحر وفقط، ولم أقم طوال تلك الفترة بأي نشاط آخر سوى أني أدّيت الصلاة على إحدى المكعبات الخرسانية التي تعمل كمصدّات للأمواج أمام البحر. وفي خلال تلك العشر ساعات تعلّمت قدسية كلمة "طـُـز"

ما هذا؟! هل قلت طـُـز فعلا؟! ألا تعلم أنها كلمة عيب؟ طـُـز في مين؟ ... هكذا يحدثني ضميري فأرد عليه: يا عم اهمد أنا أقول طـُـز في نفسي ولنفسي. وهذا أمر شخصي بيني وبين نفسي لا شأن لك به، الزم حدودك. يرد عقلي: كيف تُهين نفسك بتلك الطريقة ألم تعلم أن الله خلـ.... . فأقاطعه قائلا: أعلم أن الله خلقني إنسانا وكرّمني بأن اختارني إنسانا وكرّمني و ... و ... و .... . أعلم كل ذلك وأعلم أنك تعلم أني أعلم فكفّ عن توجيه النصائح فأنت تعلم أنها غير مجدية، وأقول لك مرة أخرى هذا أمر شخصي بيني وبين نفسي لا شأن لك به، فالزم حدودك. يبدو أنني لم أقض الوقت الكافي لتربية عقلي وضميري وتلك الأشياء التي تدّعي انتماءها للمرء وهي في حقيقة الأمر تفصل نفسها عنه وتتصوّر لنفسها دور القوامة عليه ولا ترضى بدور المُنغص بديلا, عليّ بعد ذلك أن أعلّم تلك الأشياء أن تلزم حدودها وتعرف مساحات نفوذها ولا تتجاوزها.

"فخلف كل قيصر يموت ... قيصر جديد" ... لا تسألني ما مناسبة تلك الجملة من قصيدة "كلمات سبارتكوس الأخيرة" لأمل دنقل، لأني سأجيب على سؤالك بسؤال وما مناسبة سؤالك أصلا؟ فأنا من أكتب ذلك النص وأظن أن من أبسط حقوقي أن أحتفظ لنفسي بحق كتابة ما أراه مناسبا متى أراه مناسبا دون أخذ الإذن من سيادتك.

***

أذكر أنني في يوم ما وحينما كنت في الصف الثاني الإعدادي، كنت ممددا بين النائم واليقظان ووجدتني أقوم مفزوعا تنهمر الدموع من عينيّ أقول لأمي: "معقول يا ماما يبقى كل اللي احنا فيه ده كدب؟!" فردت مفزوعة: في ايه؟ فأكملت: "يعني معقول نكون عايشين في حلم مثلا وبعد كده هنفوق منه نلاقي إننا كل اللي احنا عارفينه مش حقيقي؟ ونلاقي إن الجنة والنار دول حاجات تاني غير اللي احنا كنا عارفينها؟ معقول يعني سيدنا عُمر مش حقيقي؟" وكان سيدنا عُمر بن الخطاب هو الجواب المباشر على سؤال من هو مثلك الأعلى وقتها مثلما كان "ضابط شرطة" الجواب المباشر لسؤال "نفسك تطلع ايه؟". وبعد ما علمت ما علمت، فلو رجع بي الزمن لكان "ضابط شرطة" جواب سؤال: "نفسك تنزل لحد فين؟"، وبالمناسبة .. فجواب سؤال "نفسك تطلع ايه؟" تطوّر بعد عام إلى "رئيس جمهورية". كنت في ذلك الحين في السعودية، قضيت فيها عاما واحدا ولم أكن لأحتمل أكثر من ذلك ولم يكونوا هم ليحتملوا أيضا، وكنت وقتها في المدرسة أقضي الصف الثالث الإعدادي أو المتوسط كما يسمّونه، وكانت تلك إجابتي "رئيس جمهورية" وكان لي أحد الأصدقاء السوريين يهزأ مني حين أجيب تلك الإجابة ويقول لي سيورّث مبارك البلد لابنه كما فعل حافظ الأسد عندنا ... سبحان مغيّر الأحوال! تطوّر بعد ذلك جوابي على سؤال "نفسك تطلع ايه؟" الآن إلى "السطوح" وبم أن في الحي الذي أعيش فيه لا نتمتلك ثقافة "الرووف جاردن" ولا نعرف عن "السطوح" إلا أنه مستودع الكراكيب فأنا سعيد بمكاني في غرفتي ولا أريد أن أطلع.

ممممم أتصوّر أنك قد تتساءل الآن عن مصير السؤال الذي سألته لأمي ... أقول لك أنه تاه وسط كراكيب السطوح، فلا أذكر الجواب الذي أجابتني به، ويبدو أنه لم يكن مقنعا، ولا أذكر أنني سألت السؤال مرة أخرى أصلا، فكان لديّ وقتها من تفاصيل الحياة ما يشغلني عن الغرق في مثل تلك التساؤلات، فمصير خناقة شلّتنا مع الشلّة الأخرى في الفصل لم يُحسم بعد، وربما تحدده المعركة التي ستدور بيني وبين أضعف عضو في الشلّة الأخرى (فقد كنت أضعف أعضاء شلّتنا بالمناسبة)، وحلقة أخرى من حلقات تفاعل التوأم الظريف المشاغب مع المدرّسين، وحكاية أخرى من حكايات تلك البنت الشهيرة، وطلابها الكُثر الذين لم أكن واحدا منهم ولكني كنت صديقا لكثير منهم، ومحاولة تخيّل بعض الحيل التي من الممكن أن أقوم بها في لعبة "الفيديو جيم" حتى يتمكن اللاعب الذي ألعب به من القيام ببعض الحركات الجديدة .. فربما أجرب أن أضغط على الزر الأزرق والأصفر معا مع حركة نصف دائرية خلفية للـ"دراع" قد تجعله ينجح في عمل "الكومبو" ويوجّه ضربات متلاحقة للخصم "تخلّص" عليه ... ألم أقل لك يا صديقي (نعم أنت إن استطعت أن تتحمّل قراءة ذلك الهراء حتى تلك المرحلة دون أن تندم على ذلك فأنت حقا صديقي) ألم أقل لك أنها كانت تفاصيل حقا مرهقة وحقا تشغلني عن الانشغال بحقية الحياة وجدوى الوجود ووهم المصير ... إلخ

***

لا أدري حقا من هو ذلك الذي شغلنا بتغيير العالم، لا أدري حقا من علّمنا أن نتبّع قلوبنا وأن نطارد أحلامنا الطائرة أو الطائشة في فضاء المجهول، لا أعلم حقا من ذلك الذي زرع مثل تلك الفيروس في عقولنا فأعمى عيوننا عن رؤية الحقيقة أملا في مجهول استتر في سحب الغيب. ما يكون موقف القلب إن علم أن كل الناس تتحدث عنها وتقول لنا أن نتبع إرشاداته؟ هل هو يعلم ذلك؟ هل توقّفنا لنسأله ما رأيك في هذا الأمر؟ ربما يندهش ويصرخ فينا أنه لا يعلم لنفسه وظيفة سوى إصدار بعض الأصوات الرتيبة التي تصاحبها حركة رتيبة يتم فيها بشكل رتيب ضخ الدم للأعضاء الموزعة في أنحاء الجسم بشكل رتيب كي تحافظ على حركتها الرتيبة.

القلب طالب مجتهد يرتدي منظاره الطبي المُقعّر، يرتدي قميصه المدرسي ويقفل "الزرار اللي فوق"، يحمل حقيبته المدرسية الثقيلة، يواظب على حضور كل الحصص، يأكل "سندوتشات الجبنة والحلاوة" التي تصنعها له ماما كل صباح، يجلس في الصف الأول، محبب لأساتذته مطيع لهم حتى وإن ظلموه وأرادوا به ضربا يفتح يديه لتلقي اللسعات الظالمة سريعا دون تذمّر. وربما يفزعه أن يعلم أننا حين نريد أن نراوغ الحارس لنهرب من المدرسة، أو نحتدّ على مدرّسينا إن لم يعجبونا، أو نتخلّص من "سندوتشات الجبنة والحلاوة". أننا نلصق كل ذلك به، هو يفزع جدا من احتمال أن يغضب عليه مدرّسوه. هو يفزع جدا أن ينشغل عن القيام بأعماله اليومية الرتيبة فيفشل في أن يكون الأول على الفصل.

***

"وخلف كل ثائر يموت: أحزان بلا جدوى" ... أظن أنك من الذكاء بمكان أنك لن تعيد السؤال لأنك في الغالب لن تتلقى إجابة مختلفة

لماذا خلقني الله هنا والآن؟ وهل أنا حقا أنا؟ وما هي حقيقة وجودي؟ وما هي مساحة وجودي؟ وعلّة وجودي؟ ولماذا علّمني الله الأحلام؟ ولماذا لم أكتف بالأحلام العادية؟ لأن الحلم إن كان عاديا فهو ليس بحلم ... يا لحماقتي.

حقيقة وجودي ... ومساحة وجودي ... مفتاحا اللغز الذان لم يكن كافيا للكشف عنهما 10 ساعات أمام البحر وحمّى.

مممم يبدو أنني سأنتهي هنا ... فلا أظن أن قارئا أيا كان سيتحمّل قراءة المزيد من ذلك الهراء (وبالمناسبة .. أنا أعلم أنه ليس بهراء غير أن تصنّع بعض التواضع يبدو أنه عادة فرعونية قديمة أو ما شابه وهو لا يضير أحدا على أية حال)، ففي حقيقة الأمر سأكون كاذبا إن قلت أني أكتب لنفسي فقط، فما أكتبه لنفسي أحتفظ به لنفسي أما ما أطلقه في الفضاء العام فهو بهدف التفاعل مع ذلك الفضاء، والموضوع لم ينته بل على العكس فقد كنت أود أن أحدثكم عن أشياء أخرى ويبدو أني سأنسحب قليلا من مساحة الأفكار التي اعتدت أن أكتب فيها وعنها، وسأكتفي بتكرار ذلك الهراء بعض الوقت. الآن سأقوم لأرتدي منظاري الطبي المقعّر، وأجهّز حقيبتي المدرسية، سأخرج منها كل تلك الأوراق المبعثرة وألقيها في سلة المهملات العمومية، وسأضع مكانها كتبي المدرسية الجديدة بعد أن انتهيت من "تجليدهم" بالألوان التي أمرنا المدرسون بالالتزام بها. صحيح أن تلك الألوان ليس من بينها اللون الأحمر المحبب لي لكن طـُـز في ما لم يأمر به المدرسون حتى لو كان مُحببا لي ... هم عارفين مصلحتي


ملحوظة: أظن أنك الآن تعرف العنوان الذي قررت أن أحجبه ولمَ حجبته



باسم زكريا
12/10/2011

الثلاثاء، ١١ أكتوبر ٢٠١١

ملاحظات على هامش جريمة ماسبيرو

قبل أن أبدأ أود أن أؤكد على أمر هام. وهو أن الجنة والنار في علم الله، وإن كان كشف الله لأحد عن مصائر العباد .. هذا إلى الجنة وهذا إلى النار فهذا الأحد ليس أنا، ولن أشغل نفسي بما هو خارج نطاق قدرتي وإدراكي، ولكن هذا لا يمنعني من اعتبار الذين دُهسوا وقتلوا يوم الأحد الماضي في ماسبيرو شهداء، مثل "الشباب الجميل اللي نزل يوم 25" هم شهداء، مثل الذين صرخوا في وجه سلطة القمع المتمثلة في قسم الشرطة هم شهداء لا يهم إن كانوا يرتدون "بولو شيرت" أو "فانلة حمّالات مقطّعة". قُتلوا دفاعا عن حقوقهم، قُتلوا وهم يستردّون حريّتهم، قُتلوا وهم عُزّل من سلطة تمتلك من القوة والعتاد ما يفوق ما يملكون. هم شهداء، والله أعلم بهم

****************************************************************************************************************************************

لا يمكن – إن أردنا فهم ما حدث – أن نتوقف عنده دون ربطه بسياقه المجتمعي، فما حدث له دوافع وآثار مباشرة وغير مباشرة على المدى القريب والبعيد.

إن نظرنا إلى المدى القريب أو السبب المباشر لما حدث فسنجد الآتي :

  • أن الأمر ليس حادثا ولا فتنة ولا أزمة، الأمر جريمة يتحمّل الجزء الأكبر منها الجيش، فالقاعدة البديهية تقول أن المحاسبة تكون على قدر المسؤولية والمسؤولية على قدر القدرة، وبم أن الجيش هو الطرف الأقدر فإذن هو الطرف الذي يتحمّل الجزء الأكبر من المسؤولية عن الجريمة، وبالنظر للطبيعة الهيكلية للجيش وأسلوب اتخاذ القرار في إطاره فلا يُتصور أن يأخذ مجند قرار دهس المدنيين بمدرعته (حتى لو بدؤوه بالهجوم) أو رميهم بالرصاص الحي دون الرجوع لرؤسائه الكبار، فلابد أن يُحاسب الجميع.
  • أن من أخطر ما يُمكن فعله أن يُصور الحادث على أنه حادث طائفي – حتى وإن كان له دوافع طائفية – ففي ذلك تكرّيس للطائفية وإغراق للمجتمع فيها. فالذي دهس المتظاهرين "المصريين" لم يكن جيشا إسلاميا، بل جيشا مصريا "وطنيا". والذين استُشهدوا هم شهداء مصريون لا يهمني أن أعرف تصنيفا لهم غير ذلك.

أما إن نظرنا إلى المدى البعيد وحاولنا ربط الحادث بالسياق فربما ينكشف لنا الآتي:

  • دور الإعلام الرسمي بات واضحا جليا في دفع عجلة الثورة المضادة، فالتغطية لا يُمكن أن تتصف إلا بالمشينة، فأن يكون العنوان الأساسي هو أن المتظاهرين "الأقباط" قتلوا جنودا من الجيش المصري، وأن يُذاع تسجيلا لمجند يسب المسيحيين، وأن يناشد المذيعون الشعب المصري أن يحمي الجيش، لا يُمكن أن تكون مصادفة أو "انفعال مذيعين" بل هو أمر مُدبّر بليل. وأظن أن الضالعون في التدبير أطراف متعددة إما بالتخطيط والتدبير المباشر أو بالحمق والجهل.
  • ونحن مقبلون على انتخابات لا يعلم إلا الله ما ستخلّفه من انقسامات، أخشى أن ينزل حلبة الصراع السياسي فصيل "مسيحي" يطالب بتمثيل سياسي مسيحي أو ما شابه، فالتمثيل السياسي على أساس طائفي هو أول خطوة على منحدر سحيق يودي بمشروع الوطن المصري – ولا أقول الدولة المصرية – إلى الهاوية، فلقد علمت أن القنوات الفضائية المسيحية كانت تدعو لمظاهرات حاشدة يوم الأحد (اليوم الذي وقعت فيه الجريمة) وإن كان هذا صحيحا فهذا خطير خطير خطييييييييير، مسيحيا كان أم إسلاميا. الحشد الطائفي خطييييييير. الحقوق المهدورة هي حقوق مصرية، حقوق مصريين، يدافع عنها المصريون جميعهم في إطار الوطن. الطائفية بئر مظلم لا يجب أن نسقط فيه وإلا فقد حكمنا على أنفسنا بعدم رؤية النور مرة أخرى.

والعمل:

  • أولا: لابد من محاسبة المتورّطين المباشرين في الجريمة من أفراد الجيش محاسبة يعرف الناس نتائجها.
  • ثانيا: لابد أن يتوقّف المسلمون عن تقديم الاعتذارات أو محاولة التضامن مع "الإخوة المسيحيين" شركاء الوطن فالمسلمون والمسيحيون ليسوا شركاء يُمكن في يوم من الأيام أن ينفصل كل منهم بنصيبه، بل إن الدم واحد والروح واحدة والوطن واحد.
  • ثالثا: لابد للقانون أن يُطبّق، لابد للعدل أن تُرسى دعائمه، لابد للمخطئ أن يُحاسب، لابد لمن خالف القانون أن يُعاقب.
  • رابعا: لابد لأصوات العقل المسيحي أن تتصدّى لمحاولات بعض القيادات المسيحية التلاعب بمشاعر الشباب المسيحي المتحمّس والغيور على دينه بغية تمرير بعض المشاريع السياسية، فأنا أكرر أن إدارة السياسة على أساس طائفي أخطر ما يُمكن أن نفعله بأنفسنا مسلمين ومسيحيين.
  • خامسا: لعلماء المسلمين اجتهادات قيّمة في مسألة التعامل مع المسيحيين في مصر، لابد من إعادة تصدير تلك الاجتهادات وتناولها بالبحث والدراسة والنشر على أوسع نطاق.
  • سادسا: الإعلام الإعلام ... الإعلام الإعلام .. الإعلام الإعلام. لابد من تطهير الإعلام، ولا يجوز أن يُكتفي بشبكة الإنترنت مساحة للتعبير، فمن حديثي العشوائي مع الناس في الشارع (ومنهم من شارك في الثورة) فوجئت أن الناس ينصتون إلى أحاديث التليفزيون الرسمي وأحاديث بعض الإعلاميين على بعض القنوات الفضائية عن أن الثورة كانت مؤامرة أمريكية صهيونية ماسونية. فلابد من تطهير الإعلام الرسمي، ولابد لأحد الفاعلين القادرين أن يجعل من مبادرة تطهير الإعلام شغلا شاغلا له، وأرى أننا إن استطعنا حشد الغاضبين من أداء التليفزيون من داخله ستكون بداية جيدة جدا لطريق التطهير ذلك.



باسم زكريا
11-10-2011

الأربعاء، ٥ أكتوبر ٢٠١١

الكورة في الملعب ... الثورة في الشارع

أنا فرحان فرحان فرحان ... الأحداث المتوالية منذ عدة أيام لا تبعث على شيء إلا الفرح

1. توقيع الأحزاب على بيان العار مع المجلس العسكري والتراجعات والمراجعات التي حدثت بعدها وآخرها بيان الإخوان الذي صدر اليوم تحت تأثير الضغط الشعبي

2. ما حدث من ائتلاف لمرشحي الرئاسة وما صدر عنهم اليوم من بيان يؤكد على المطالب الشعبية ويلزم المجلس العسكري بجدول زمني لتسليم السلطة, وانسحاب د. البرادعي من الائتلاف (لا أدرس لماذا)، وانسحاب عمرو موسى اعتراضا على إلزام المجلس العسكري بجدول زمني محدد

3. احتجاب بعض كتاب الأعمدة اليوم عن الكتابة اعتراضا على الرقيب العسكري


النتيجة:

1. يميز الله الخبيث من الطيب

2. الشعب هو الخط الأحمر لا أي مؤسسة مهما عظمت

3. الثورة لا قائد لها ولا رمز تقف عنده، بل مرجعيتها الناس والناس لم يفوّضوا أحدا بل ويدركون قوتهم ويستخدمونها عند الحاجة

4. المجلس العسكري "عطشان شرعية" وهو في الموقف الأضعف

5. الكورة لسة في الملعب والثورة لسة في الشارع


اللي هيقول لي الثورة فشلت أو اتسرقت مننا مش هردّ عليه .. احتمال يصعب عليا لكن مش هردّ عليه

الأحد، ٢ أكتوبر ٢٠١١

في حضرة الأطفال

في طريقي إلى العمل كل يوم أمر على حديقة للأطفال بإحدى المدارس ولا أستطيع أن أصف بالكلام الطاقة التي تجتاحني في حضرة الأطفال وهم يلعبون. هي طاقة مُرهقة أجدني في بعض الأحيان غير قادر على احتمالها فيتسرّب بعضها في عَبَرات تتسرّب من القلب والروح إلى المُقل تتسلل منها إلى الكون تخاطبه بلغته وتصير جزءا منه. ولا أدري ما مصدر تلك الطاقة حقا، ربما تلك البراءة في أرواحهم، مع ذلك الشغف المطل من عيونهم يفضح كل زيف، ويُسقط كل حجاب يحول بين المرء وبين قلبه، ويحرر القلب من أسر العقل، فيفصح القلب بالعَبَرات عن حقيقة ألم وأمل تجاوزهما العقل ادعاءً ووهما وآه من كم الأوهام التي ينسجها العقل شباكا عنكبوتية يظن أنه يستطيع أن يصطاد بها الحقيقة ويلتهمها إحاطة وإدراكا. وأنى ذلك وقد اتخذ العقل أوهن البيوت بيتا له ومأوى. تظل الحقيقة متجاوزة للعقل، مستقرّة في القلب. ويظل القلب في زمرة القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. ويظل الأطفال هم في بعدهم عن العقل الأقرب للقلب، الأقرب للفطرة، الأقرب للحق.

السبت، ١ أكتوبر ٢٠١١

عن جمعة استرداد الثورة ومسجد الفتح وأشياء أخرى

كتبت هذه الخاطرة أمام ساحة مسجد الفتح برمسيس بالقاهرة، الساعة الثالثة من فجر الأول من أكتوبر لعام 2011. وكنت عائدا من ميدان التحرير بعد انقضاء فعاليات جمعة "استرداد الثورة" والتي كان فيها من الخبرات الشخصية ما هو أعمق من الخبرات العامة بكثير، فذكريات دراسة حملها لي أصدقاء الجامعة الذين التقيت بهم على غير موعد، ومسارات تتبدى وسط غيوم تنقشع، ورجال ينبتون من وسط الصخور نبتا وإن بدا رقيق الثمر والزهر والأوراق فهو عزيز الجذور. وإن بدا نابتا من وسط الصخر فتحت الصخر ماء.

أفترش الأرض في رحاب مسجد الفتح، وكنت قطعت الطريق ماشيا من ميدان التحرير وحتى ميدان رمسيس. ولا أدري حقا ما أشعر به. فمكونات الزمان والمكان حولي تتحرّك بسرعة هادئة تستطيع من خلالها أن تميّز تفاصيل تلك الحركة وكيف يتركّب المشهد الكلي من التفاصيل الصغيرة. أصوات منادي الميكروباص وهم ينادون (دويقة - دراسة - دائري - الجبل ...إلخ) تمتزج بأصوات محركّات السيارات التي تعبر الميدان. الباعة الجائلون يمارسون نشاطهم في الساحة يعلّقون بضاعتهم على أسوار المسجد ولا أظن أنهم يفعلون ذلك بهدف البيع ولكن يبدو أن البضائع ظلت على سور المسجد حتى تعلّقت به وأبت أن تتركه. مجموعات من الناس تروح جيئة وذهابا في الساحة في حركة رتيبة، مجموعات أخرى افترشت المساحات الخضراء الصغيرة يبدو أن كلا منها في انتظار قطار ما يعيده من حيث أتى أو يحمله إلى حيث يقصد. بقايا الطعام وأعقاب السجائر تتناثر حولي على الأرض في سكون يشي بثقةِ مَن حرر لتوّه حيّزا من الأرض كان له وتحدِ من يعلم ألا أحد يقدر أن يردّه عنه ذلك الحيّز. صوت محرّك الميكروباص الرتيب يصنع موسيقى تصويرية وكأنها صُنعت خصيصا لذلك المشهد. تشعر وكأن كل شيء في حركته أو في سكونه مُثقل بهموم يوم طويل أقعده في انتظار مُمل أو جعله في حركته كالميّت الحي يتحرّك وكأنه في مهمة ما ذاهلا عما سواها.

تستطيع أن ترى في تفاصيل المشهد بعض أناس يتحركون حركة عشوائية حتى تُدخل مئذنة المسجد في المشهد فتراه مشهدا كونيا يتحرّك فيه كل كوكب في مداره حركة منتظمة حول نجم ثابت. المئذنة


باسم زكريا
1/10/2011