الأربعاء، ١٧ أكتوبر ٢٠١٢

"احنا" التي يبحثون عنها في الدستور

يبدو من الجدل الدائر الآن حول ما يتم الكشف عنه من نتاج عمل اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور – مع ربط ذلك الجدل بمسار الثورة منذ اندلاعها وحتى الآن – أننا نعاني من أزمة هوية. وعلى ما يبدو فإن تلك الأزمة ضاربة في جذور مجتمعنا إلى الحد الذي لا يمكن معه ادّعاء أن مجرد الرغبة في تجاوزها تكفي لتحقيق ذلك التجاوز، بل إن الطريق لتجاوزها هو الاشتباك معها ومحاولة فهمها ليس كقضية نظرية مستقلة بذاتها تعمل في الفراغ بل كإشكالية تتخلّق من تفاعل غيرها من القضايا في واقعنا الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي. فرغم أن كثير من المفكرين يقولون بأن الهوية ليست إلا وهما، إلا أنها أكثر الأوهام حقيقة، بل قد تصل إلى أن تكون أكثر حقيقية من الحياة ذاتها فهي لكثير من البشر علّة الوجود ومصدر المعيارية، وفي سبيلها ضحوا بحياتهم في حروب كانت في كثير من الأحيان تقوم لأسباب مختلفة. لذلك فمن التبسيط أن نتصور أن الهوية ليست إلا وهما لا حقيقة فيه.

أول ما يتبادر إلى الذهن حين التعرّض لسؤال الهوية أن المقصود هي الهوية القومية، أي وعي جماعة من الناس بموقعهم من التاريخ والجغرافيا وبالتالي حركة تلك الجماعة في العالم انطلاقا من ذلك الوعي. غير أن التفاعل الحقيقي مع سؤال الهوية يكون بمحاولة استكشاف طبقات أكثر عمقا يتجلى فيها مفهوم الهوية على الفرد والمجتمع. ومثل أن هوياتنا القومية الحديثة تشكّلت في خضم مشروع الحداثة الذي رغم تعدد مدخلاته ظلت اليد الطولى فيه للهيمنة الكولونيالية الغربية، فإن هويّاتنا داخل المجتمع في تلك الفترة تشكّلت تحت سطوة هيمنة أصحاب النفوذ في نظام تخلّت فيه الدولة عن أدوارها الواحد تلو الآخر حتى سلّمت نفسها تماما لأصحاب النفوذ في المجتمع المهيمنين على شبكات المصالح في النظام يسوقونها حيث أرادوا، ولأن الإنسان لا يولد ولديه ذلك الوعي الذاتي بهويته، بل يتشكّل وعيه بهويته في إطار تفاعله داخل المجتمع، لذلك فمن البديهي أن يتأثر وعينا بذواتنا بطبيعة العلاقات المجتمعية في ذلك النظام الذي كان لقلّة من أصحاب النفوذ والسيطرة اليد الطولى في صياغة فلسفته وتفعيلها.

لأن فلسفة النظام تحوّلت من الحشد الجماهيري على الشعارات القومية بهدف توجيه وإدارة الحيز العام، إلى خصخصة الحيز العام كان لذلك التحول تأثير على شكل العلاقات المجتمعية وبالتالي على وعينا بهويّاتنا. فلا يمكن لسياسات النيوليبرالية وفي القلب منها الخصخصة أن تقتصر على الاقتصاد، بل لابد أن تتسرب إلى المجتمع لتفتته وتخلق في مساحاته العامة تصدّعات وشروخ ينفذ منها أصحاب النفوذ ليشملوا بنفوذهم الحيز العام ويحوّلوه إلى مجموعة من المساحات الخاصة، فيتحول بذلك المجتمع إلى مجموعة من الأفراد. ليس ذلك فحسب، بل إن النظام يتسرّب إلى عقولنا ليكمل مهمته ويخلق لكل منا أوهاما بعضها فوق بعض ويدفعنا للتمترس خلفها كهوياتنا الفردية التي ننظر من خلالها لباقي البشر على أنهم "آخر" نتعامل معه اضطرارا على خلفية تعاقدية أو نتسامح معه اتقاء لشرّه، وربما في هذا الإطار نستطيع أن نفهم توجه أصحاب النوايا الطيبة من سكان "المجتمعات المغلقة Gated Compounds" للفقراء بالإحسان خوفا من ثورة الجياع، وهم يظنون أنهم يقومون بواجبهم تجاه المجتمع غير أنهم في حقيقة الأمر يقومون بواجبهم تجاه النظام.

ورغم أن "المصالح بتتصالح" ورأينا أن من رجال الأعمال الملتفين حول الرئيس مرسي المصاحبين له في رحلاته الخارجية من هم سبق وأن التفوا حول مبارك من قبل. ورغم أن الثورة حتى الآن لم تنجح في خلق هيمنة مضادة تحل محل هيمنة أصحاب النفوذ في النظام القديم بتعبير المفكر الماركسي أنطونيو جرامشي، إلا أننا نستطيع أن نجد بعض من يقتربون من الفكر الثوري بشكل أو بآخر أو بعض من ليس لهم صلة مباشرة بأصحاب النفوذ القدامى أعضاء في الجمعية التأسيسية. وربما يكون ذلك هو ما عطّل إنجاز الجمعية لمهمتها، وربما يكون ذلك السبب أيضا في دفع سؤال الهوية إلى الجمعية التأسيسية والذي نلحظه في الهوس بحماية تصور ما عن هوية الدولة. ورغم أن الدستور في نهاية الأمر لا يعدو كونه مجموعة من الأوراق التي لا تكفل حقا ولا تمنع جورا، فالدستور المصري لم يكفل حق الثورة الشعب ولم يبح التعذيب للشرطة إلا أن فهم الديناميكيات المصاحبة لآلية إنتاجه يساعدنا بشكل ما على تطوير فهمنا لبعض جوانب المجتمع.

غير أن الدستور الحقيقي هو الذي لا يُكتب، بل يخلقه الناس ويحيونه بإعادة امتلاك الحيز العام وكسر احتكار أصحاب النفوذ له، وإعادة صياغات العلاقات لتكون أكثر إنسانية نعرف فيها بعضنا البعض ونكتشف فيها مساحة المشترك، فنعرف "أنا" و"هو" في إطار الـ"نحن". ولنذكر نصيحة حسن أرابيسك لنا حين قال: "إنما المهم، المهم أوي، نعرف احنا مين وأصلنا ايه. ساعة ما نعرف احنا مين، هنعرف احنا عايزين ايه ونبدأ ونتَكّل على الله" .. "احنا" وليس "أنا"



باسم زكريا السمرجي

الخميس، ١١ أكتوبر ٢٠١٢

عايزين تنفيضة

بالأمس صدرت أحكام بتبرئة متهمي موقعة الجمل، ورغم انفعالي بالجو العام الذي يغلب عليه الحزن وخيبة الأمل إلا أن انفعالي الشخصي كان على العكس من ذلك. فما حدث بالأمس هو هدم صارخ وصريح لأسطورة إمكانية تحقيق الانعتاق في الإطار المؤسسي القائم، تلك الأسطورة التي كانت آخذة في التوغل والسيطرة على إدراكنا وكانت تكاد تقودنا إلى التكلّس الفكري والحركي والوظيفي، فكنّا نقترب من أن يتموضع كل منّا في زاوية ما – من الصورة الأكبر – يرسم حدودها ويستمد من احتلاله لها شرعية وجوده كمكوّن من مكونات تلك الصورة الأكبر، وكانت الصورة الأكبر آخذة في ترسيخ نفسها ترسيخا عصيا على التغيير يدعم تمترس مكوناتها في زاويته الأصغر.

فجماعة الإخوان المسلمين التي كانت تبني شرعية وجودها على ظلم مبارك لها، ظلت تبني شرعيتها على مواجهة فلول الحزب الوطني في الانتخابات، ثم إزاحة العسكر، ثم ظلم الإعلام، ثم ظلم المزايدين من النخب السياسية والعلمانيين أعداء الوطن والدين كارهي الرئيس مرسي المؤيد من رب العالمين. فهم حتى بعد أن وصلوا إلى السلطة على المظلومية قائمون، يستمدون شرعيتهم من مواجهة "غول" ما.

ومعارضة الإخوان انقسمت لثلاثة أقسام. المعارضة "البنّاءة" وهي تلك المعارضة التي تسعى لتقويم المسار بدافع الحفاظ على مصلحة الوطن والنظام العام وهي معارضة "محايدة" تستمد شرعيتها من كونها "صوت العقل" عند الإخوان وعند الجمهور فنجد مثلا من يشغل منصب مستشار رئيس الجمهورية ثم ينتقد "بمنتهى الأدب" قرارات وتوجهات الرئيس عبر حسابه على تويتر !!. وهناك المعارضة "الشعاراتية" التي ترفع شعارات التنوير والحرية والدولة المدنية في مواجهة حكم الإسلاميين الرجعيين الظلاميين المتخلفين، وهم يستمدون شرعيتهم عند الجمهور من اللعب على وتر الفزع، خاصة وأن بذور الفزع مزروعة لدى قطاعات كثيرة واسعة من المجتمع المصري، فتجد هذه المعارضة مثلا تقيم الدنيا ولا تقعدها عند أي ظهور لعبود الزمر "الإرهابي" ويصمتون عن عن عشر سنوات قضّاها ظلما في السجن بعد أن كان قضى مدته، فهي ليست معارضة مبادئية متسقة مع نفسها بل معارضة شعاراتية ديماجوجية تخاطب في كثير من الأحيان قطاعات معينة من المجتمع. أما المعارضة الثورية فهي الوحيدة التي لا تستمد شرعيتها من مواجهة طرف ما، فهي تواجه السلطة أيا كان من يحتلها ومن تلك المواجهة واستعدادها للتضحية في سبيل مشروع الانعتاق تستمد شرعيتها.

الأزمة أننا كنا نقترب من الوصول إلى القناعة بأن تلك التركيبة هي التركيبة الأمثل لكل الفئات. فالإخوان يحكمون "بعذر"، والمعارضة البناءة تعارض "بعقل"، والمعارضة الشعاراتية تعارض "بعنف"، والمعارضة الثورية تضحي "بصدق". فصار كل منا يبذل الوسع في أن يجري في المكان بكل جدية ومثابرة، صار لكل منا دور يجتهد في أن يؤديه ببراعة حتى يحافظ على وجوده في تلك المسرحية العبثية التي تنتهي من حيث تبدأ كل ليلة. كنا بحاجة إلى "تنفيضة"، هزّة عنيفة تدفع كل منا للخروج عن النص، لمحاولة تغيير المسار الذي يجري عليه ليربك المشهد ويغير الصورة الكبرى. بالطبع لم نكن بحاجة إلى لعبة كراسي موسيقية نبدّل فيها الأدوار، بل كنا بحاجة إلى أن يتحدّى كل منّا حدود دوره، فيحكم الإخوان بحق (وقد كنت أتمنى أن يأتي خيرت الشاطر رئيسا للوزراء وأن نرى مشروع النهضة بحق) وتطوّر المعارضة الشعاراتية شعاراتها إلى برامج وتنظيمات وأحزاب، وأن يوجّه الثوار تضحياتهم إلى مكانها الصحيح، إلى العدو الحقيقي، إلى الدولة. لم أذكر المعارضة البناءة/المؤدبة/الأليفة فهؤلاء سيدور الكون وسيتغير كل شيء وسيظلّون مقيمين على ما يفعلون، فهم مثقفوا الدولة "أصحاب الضمائر" !!!!!!

كنا نحتاج إلى "تنفيضة" تدفع كل منّا لاختبار حدود دوره وتجاوزها لإرباك المشهد العام، فهل تكون موقعة الجمل هي تلك التنفيضة، كما كانت قبل ذلك هي العلامة الفارقة في مسار إسقاط مبارك؟!


باسم زكريا السمرجي
11/10/2012

الاثنين، ٨ أكتوبر ٢٠١٢

عن "نجوم المايكات" .. والدولة .. والإخوان


استضافت قناة "أون تي في لايف" على شاشتها في رمضان الماضي أوكا – أورتيجا – سوستة – شعوذة – وزة – شحتة كاريكا وهم مجموعة "فريق الـ8%" من نجوم "المهرجانات". والمهرجانات هو لون من ألوان الغناء الشعبي يشبه "الهيب هوب"، وتمتزج فيه إيقاعات الراب والهيب هوب بكلمات في كثير من الأحيان تكون "غير مناسبة"، وهو اللون السائد في أوساط سائقي التوكتوك الآن.

ما أثارني في هذه الحلقة التليفزيونية التي امتدت لنصف ساعة هو العلاقة بين هؤلاء الشباب ممثلين لفئة من المجتمع خارجة عن المألوف والمناسب، وبين "المؤسسة" – وأقصد بالمؤسسة هنا التفكير السائد في المجتمع – مُمثلة في القناة وبالذات في شخصية المذيعة التي لا أعرف اسمها مع الأسف. حتى نستطيع أن نرى تلك العلاقة، لابد أن نعود بالخيال إلى الوراء قليلا لنتصور أن قناة تليفزيونية دعت هؤلاء الشباب لكي يكونوا ضيوفها في إحدى برامج رمضان. أتصور أنهم حينها كانوا سيحرصون على التأنق، وسيحرصون على اختيار ألفاظهم وأسلوب حديثهم حتى يكون متماشيا مع "الذوق العام" ويكون أكثر اتساقا مع المؤسسة. غير أن ما حدث في تلك الحلقة المشار إليها كان العكس تماما، فهم لم "يعدّلوا" لا هندامهم ولا طريقتهم في الحديث، بل إن المذيعة صارت تحاول تقليدهم، فصارت المؤسسة هي التي تحاول أن تتمثّل هؤلاء الخارجين عنها وليس العكس ! وهكذا فإن إنتاج ثقافة وهوية خارج المؤسسة لم يعد فقط ممكنا، بل صارت لتلك الثقافة وتلك الهوية القدرة على إخضاع المؤسسة لها. ولكن لا أريد أن يبدو الأمر وكأن في هذا النوع من الفن الخلاص الأكيد من المؤسسة فقد شاهدنا بعض الحالات تستطيع فيها المؤسسة التلاعب بمثل تلك المحاولات الخارجة عنها وتدجينها، كما حدث مع بعض الفرق الأخرى التي تقوم بأداء المهرجانات أيضا حيث قاموا بأداء بعض المهرجانات في مسلسلات رمضان واضطروا لتغيير بعض الكلمات "غير المناسبة" ليستطيعوا الظهور على شاشة التليفزيون.

وبالانتقال من "نجوم المايكات" إلى المشهد السياسي والمجتمعي الأوسع، نجد أن إنتاج سرديات خارج المؤسسة ليس فقط بالأمر الممكن بل بات أمرا ضروريا. فالنمط الاجتماعي الاقتصادي الذي نحياه والذي يتسم بالعشوائية الشديدة حيث أن السلعة الرئيسية فيه – المعلومات – لا يتطلّب إنتاجها أي قدر من المركزية، وبالتالي صارت المعلومات – بشكل ما – متاحة للجميع فأصبح من المستحيل على الدولة أن تتحكم في نوع وكم المعلومات التي يستطيع أن يصل إليها المجتمع بالقدر الذي يمكّنها من إنتاج سرديّتها كسرديّة وحيدة تخضع بها المواطنين عن طريق التلاعب بالعقول بدلا من الجلد بالسياط، والدولة المصرية خير دليل على ذلك، فلم يكن اختزال أدوارها في الدور القمعي إلا لعجزها عن إنتاج سردية تكفيها تكلفة ذلك القمع.

وبالتالي، فإن معركة الدولة بانتخاباتها بدستورها لا تشغلني، ولا أعتبر فوز جماعة الإخوان في الانتخابات البرلمانية أو قدرتها على فرض أجندتها في كتابة الدستور انتصارا. فأقصى ما يمكن أن تفعله بالدولة المصرية أن (تبوسها وتحطها جنب الحيط علشان ماحدش يدوس عليها). لكن ما أخشاه، أن تنجرف التيارات الراديكالية المعارضة للإخوان لنفس المعركة الوهمية، وتستنفذ الوقت والجهد فيها فتكون أقصى أمانيها هزيمة الإخوان في البرلمان ! ... نحتاج قليلا من الخيال




رابط الحلقة المشار إليها http://www.youtube.com/watch?v=wpmrJuMc0gM




باسم زكريا السمرجي
8/10/2012