الأحد، ٢٥ سبتمبر ٢٠١١

عن الأشياء الرائعة التي لا نستطيع التعبير عنها بالكلام

أعترف بعجزي، فحينما أتأمل كم هذه الأشياء الرائعة في الوجود أُذهل وأفقد القدرة على كل شيء حتى عن التعبير عن امتناني أو عن وصف تلك الأشياء الرائعة، حينما أمعن النظر أشعر بأن طاقة الحب وطاقة الامتنان المتدفقة من روحي تعجز حواسّي عن تلقيها والتفاعل معها فتعلم أن الأمر يتخطى وسائلها للإدراك فتصاب بالشلل والذهول وتفسح مجالا للروح أن تحلّق، أن تعود إلى السماء، إلى حيث تنتمي، تتجوّل في الكون، بل في ما وراء الكون وما فوق الكون تتلمّس آثار روح الله التي هي سبب كل حياة، تنصت إلى أصوات تسبيح كل شيء، تسمعها بوضوح، فلغة الروح واحدة يعرفها كل شيء. تنصّت جيدا إلى أصوات التسبيح لعلّها تعتصرها جميعا لتسبّح بها جميعا مرة واحدة، ولكن حتى وإن كان ذلك ممكنا فهي تعرف أن كل تسبيح العالم لن يستطيع أن يحتوى ما بها من طاقة حب وامتنان.

امتنان للريح التي تحمل عبير المحبّين عبر الحدود تنثره في قلوب المحبّين، أم للشجرة التي نبتت من اللامكان تستدرجني لظلها كي تأنس بحديثي بعض الوقت، أم لكل تلك الذكريات التي لم يبق منها إلا ريح طيبة، أم لتلك النسمة الصيفية التي غافلت الحرّاس المنهكين من الحرّ وأزاحت الستار عن قلبي برفق الأطفال وخبثهم لتُدخل العالم إلى قلبي وتُدخل قلبي إلى العالم، أم لتلك الغيمة التي تمارس بدأب وظيفتها في نثر ظلّها ولا يُحزنها إلا أنها تتمنّى أن تحتوى كل الكون بظلّها، أم لسلوكي الطفولي مع تلك الغيمة مراوحة بين التدثّر ببعض ظلّها تارة ومشاهدتها من بعيد تارة أخرى تظل الآخرين كي لا يفوتني منها شيء, وكي يظل لي نصيب لا أستنفذه. أم كيف أعبّر عن امتناني لذلك القمر المتدلّي من جيد السماء الذي يتسلل نوره مخترقا الحُجب يوقظ الروح ينبهها إلي ميعاد رحلتها ويصحبها.

أم كيف يستطيع كلام البشر أن يستوعب امتناني لرب أنزل لنا كتاب قال لنا فيه: "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا ( 27 ) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْوَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ( 28 )" فتلك الآيات مكتفية بذاتها أستحي أن أضيف عليها كلمة من كلام البشر ففيها من معاني الرفق والرحمة والسعة والنور ما لا يمكن الإفصاح عنه باللسان

لا أستطيع حقا أن أصف كم أن ذلك الكون رائع، ولا أقول أني أشعر بالتقصير في حق مبدع الكون وواهب النعم، فأعلم أنني لن أستطيع أن أوفيه حقه وهو يعلم ذلك أيضا .. فقط أسأل الله أن يفيض علي بفتوح شكره حتى يزيل ما بيني وبين معرفته.

الحمد لله




باسم زكريا السمرجي
25/9/2011

السبت، ٢٤ سبتمبر ٢٠١١

عن الثورة والمجتمع ... خواطر من حي عشوائي

قديما كانت إحدى الحيل التي تستخدمها الجيوش لتخيف أعداءها كانت أن يتحرك الفرسان بخيولهم ليثيروا الغبار فيرتفع التقدير العددي للجيش في عيون العدو، ذلك التقدير الذي قد لا يكون إلا محض خيال.

وبعد مرور ثمانية أشهر على الثورة نستطيع أن ندّعي أن الغبار الثوري قد سكن الآن بم يسمح لنا أن نرى حقيقة المشهد. فقد ذهب أوان السكرة وحضر أوان الفكرة ومن التقصير أن نظل سكارى في أوان توجّب فيه حضور الفكرة.

إن أردنا تطوير الثورة أو استثمارها أو البناء عليها فلابد أن نعلم أن منبت الثورة الذي نبتت منه ومقصدها الذي يجب أن تتوجه إليه هو المجتمع المصري. وإن كان الأمر كذلك فلابد أن تبدأ فكرتنا منه "المجتمع المصري" بغية فهمه واستنطاقة بنموذجه الذي يرضاه لنفسه لا أن تبدأ من نقل نموذج مُنبتّ الصلة عن المجتمع والتمركز حوله معيارا للنجاح ومحاولة إخضاع المجتمع له. فتلك المحاولة مصيرها الفشل ولن تعود على المتصدّين لها إلا بالإحباط الذي يحوّلهم في نهاية الأمر إلى اتّهام المجتمع بالتخلف عن الحضارة بدلا من اتّهام أنفسهم بالتخلف عن المجتمع وانحراف بوصلتهم عنه.

وأجدني وأنا أحاول النظر في طبيعة السلوك الثوري المصري غير قادر على فك الارتباط بين هذا السلوك وبين فيضان النهر, النهر الذي يسري مختلطا بالدماء في عروق كل مصري نبت من طينة ذلك البلد، فالنهر يفيض في موسمه فيضانا عارما يمتزج فيه الهدير بالأهازيج بالغرق بالخصوبة بالمياه التي تغمر الأرض ثم يعود إلى سكونه، وتقصير الناس في الاستفادة من تلك المياه التي غمرت أراضيهم وتقاعسهم عن توجيهها لري أراضيهم وإنماء محاصيلهم لن يكون سببا كافيا لأن يرتد النهر إلى الفيضان في غير موعده ليجبر ذلك التقصير.

وإن كنت أتحدث عن أوان الفكرة فأنا أتحدث عن أوان ترشيد الفيضان الثوري الذي استكان وانفض زخمه ولكنه ترك المياه التي غمرت الأراضي دفقات من المجتمع اندفعت إلى شغل الحيز العام ولكنها كغمرات المياه، ساكنة في انتظار أن يحرّكها القائمون على الزراعة ترشيدا وتوجيها والقائمون على الزراعة هم النخب التي تصدّت للقيام على أمر المجتمع وإصلاحه، ولكي يحدث ذلك الترشيد لابد أن نُطوّر معرفتنا بذلك المجتمع بتنوعاته وبمنظوماته القيمية التي يرى العالم ويتفاعل معه منطلفا منها. فنهضة مجتمع ما لا تكون بأن يتابع ذلك المجتمع "المعايير العالمية" للنهضة والتقدّم فالمعايير العالمية تلك هي بالأساس معايير المتغلّب وهي خاصة به لا تُلزم غيره بل إن إلزام غيره بها هو تكريس لتغلبه، أما النهضة الحقيقية لمجتمع ما تكون باستنطاق ذلك المجتمع بخصوصيته الثقافية والحضارية كمكوّنات للهوية، الهوية التي توجّه طريق النهضة والتقدم الخاصين بذلك المجتمع.

إن الثورة كحلقة من حلقات التدافع والتنازع الأزليين بين الناس والسلطة على شغل الحيز العام، هي ثورة الناس على مؤسسات "الدولة" بغية إسقاطها واستبدالها أو تطهيرها. فمؤسسات الدولة وهي تحتكر القوة يثور الناس عليها حين يصل التدافع إلى نقطة ما قبل اختلال ميزان القوة، ويرتبط استمرار الثورة بمدى قدرة الناس على الدفع في اتجاه قلب ميزان القوة لصالحهم، ويُحكم على الثورة بالنجاح حينما تنجح في تطهير تلك المؤسسات أو إسقاطها وبناء مؤسسات بديلة، أي في بناء معادلة جديدة للقوة. وفي الحالة المصرية لم تكن الثورة على نظام مبارك ثورة على مؤسسات الدولة، فمصر في عهد مبارك كانت "لا دولة". ففكرة المؤسسية في الدولة المصرية تحتضر منذ بداية تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي التي وصف حقيقتها الأستاذ أحمد بهاء الدين حين أسماها "السداح مداح". فالسداح مداح هو عكس فكرة المؤسسية تماما التي تقوم على توحيد معايير القياس التي يُقاس عليها إنتاج الأفراد في خلال تلك المؤسسة ويُقاس عليها أيضا ترقي الأشخاص وتوزيع القوة بينهم داخل المؤسسة على معيار كفاءة ما، والمفترض أن تقترب تلك المعايير من الموضوعية وتبتعد عن الذاتية قدر الإمكان حيث أن الفكرة الأساسية في المؤسسات هي تجاوز التقلبات المزاجية للأشخاص بغية تحقيق استدامة الإنجاز المنوط بهذه المؤسسة أو تلك تحقيقه، غير أن انفتاح "السداح مداح" كان ضد ذلك كله، فمعايير قياس النجاح والترقي لم تكن إلا معيارا واحدا وهو مراكمة الثروة، وهو معيار ليس بحاجة إلى بيان فساده وتأثيره السلبي على منظومة المجتمع القيمية بأكملها، ويكفينا أن نتابع نوعية الإنتاج الفني مثلا في هذه الفترة وعلاقته بنوعية الإنتاج الفني قبلها. وهكذا فقد بدأت فكرة المؤسسات في الدولة في التهاوي منذ بداية تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي ووصل ذلك التهاوي إلى ذروته مع صعود نجم رجال الفكر الجديد في الحزب الوطني الديمقراطي وتمكّنهم من الاستئثار بمراكز القوى في "الدولة" استئثارا جعلهم على رأس المنظومة القيمية في البلاد، وكان كل ذلك يتم بالطبع برعاية ومباركة العائلة الحاكمة لمصر. والأمر لم يتوقف عند فساد المنظومة القيمية والأخلاقية لدى هؤلاء الذين استأثروا بمراكز القوى بل من البديهي أن ينسحب ذلك الفساد على كل من أراد أن يحقق نجاحا في إطار تلك المنظومة.

وحقيقة ما أنجزته الثورة في ذلك الأمر هو تفكيك تلك الكتلة الصلبة الموجودة في أعلى هرم المنظومة القيمية التي تؤول إليها المصالح والقوى. ولكن ليس هذا بكاف، فشبكات المصالح وتوازنات القوى أكثر تعقيدا من ذلك، وطول التعامل مع الفساد أدى إلى تماهي كثير من الناس معه ومع منظومته القيمية، وهؤلاء الذين تماهوا مع الفساد هم العقبة في طريق تقدّم الثورة وسيظلون كذلك حتى يتم تفكيك وإعادة بناء منظومتهم القيمية الخاصة.

ومن هذا المنطلق أتناول حالة تناقشت فيها مع أحد الأصدقاء وهو د. عمرو صلاح ودفعني لتدوينها أستاذتنا د. هبة رؤوف عزت والحالة هي حالة الأحياء الشعبية التي أسكن أحدها وهو حي "المطرية" بالقاهرة. فالحي نشأ أصلا من زحف الريف عليه، حيث يقترب جدا من القليوبية. وكان الحي قديما لا يوجد به سوى قصور الباشوات ومزراعهم، غير أن ماحدث هو زحف من الريف عليه بغية البحث عن الرزق، فتآكلت الزراعة حتى اختفت تماما وحلّت محلّها علب الكبريت الخرسانية، التي لا تشي إلا بأن من بناها يبحث فقط عن أعلى عائد مادي دون النظر لأي اعتبار آخر. وتم هجر القصور والفيلات وتم هدم بعضها واستبدال الأبراج الخرسانية بها. ولسنا في حاجة إلى أن نقول أن كل عمليات التعمير والبناء تلك (وهي في حقيقة الأمر تخريب وهدم) كانت تتم بمعزل عن القانون، القانون الذي يمثله ويقوم على تطبيقه قسم الشرطة، وتناول العلاقة بين قسم الشرطة وبين المجتمع يؤكد لنا على طبيعة مؤسسات "اللادولة" المصرية حيث نستطيع أن نرى شبكة المصالح تلك واضحة جلية في العلاقات التي كان يقيمها قسم الشرطة مع مراكز القوى في المنطقة التي تكون في الأغلب خارجة عن القانون المنوط بقسم الشرطة أن يقوم عليه، فتتحول وظيفة قسم الشرطة من تمثيل الدولة وحماية القانون إلى محاولة إيجاد مكان لنفسه داخل شبكة المصالح المجتمعية في هذه المنطقة أو تلك، ويتحول ضباط الشرطة من ممثلين للدولة قائمين على حمايتها إلى مجرد مجموعة من الأفراد لا يختلفون عن باقي أفراد المنطقة سوى في الزي، يحاولون أن (يمشّوا حالهم) بأن يوجدوا لأنفسهم مكانا في شبكة علاقات القوى في المجتمع الموجودين فيه. والتفاصيل في تجليّات ذلك المسلك كثيرة.

والتفكير التقليدي لإصلاح المناطق الشبيهة، يوجّه الفعل نحو طريقين لا ثالث لهما وهو إخلاء تلك المناطق وتسكين أهلها في تجمّعات سكنية جديدة، تجمّعات سكنية تتشابه وحداتها حد التطابق وكأننا نتعامل مع قطيع لا مع مجموعة من البشر، وهذا الطريق – إن تجاوزنا عن مسألة التنميط تلك – يغفل حقيقة مهمة جدا وهي أن هؤلاء القوم هم من صنعوا بيئتهم ولم تصنعهم البيئة فلا جدوى على الإطلاق من أن تنقلهم في بيئة أو في سياق مختلف، فالذي سيحدث هو أن هؤلاء القوم سينتقلون (هذا إن حدث) بمنظومتهم القيمية إلى المكان الجديد فلا يلبثوا إلا أن يُغيّروا بيئتهم الجديدة لتتوافق ومنظومتهم المعيارية المتجذرة في نفوسهم.

الطريق الثاني يكون بإدخال الخدمات أو تحسينها في تلك المناطق دون نقل أهل المنطقة وهو أيضا طريق يتوجّه إلى إصلاح البيئة ويتجاهل الإنسان، فلا يؤدي إلا إلى إصلاح ظاهري غير متجذّر لا ضمانة لاستدامته.

المشكل أنك إن أردت إصلاح تلك المناطق فلابد أن تُدخل إليهم مؤسسة بمعايير واضحة لقياس النجاح، غير أن هؤلاء القوم ضد المؤسسات، ولم تُفلح أي مؤسسة في الدخول بينهم بل على العكس هم يفككون المؤسسات ويُخضعونها لمعاييرهم هم (فما ينطبق على قسم الشرطة ينطبق على المدارس وباقي المؤسسات بأشكال مختلفة). الحل في أن يتبنّوا هم مؤسسة ما تخاطب بمعاييرها فطرتهم، تلك الفطرة التي لا يزالون على اتصال بها حتى مع ما بالمنظومة القيمية من فساد، فهم قوم يكرمون الضيف ويوقرّون الكبير ويعطفون على الصغير ويتعاونون فيما بينهم. لذلك فإن المؤسسة الوحيدة التي يُمكن أن يتقبلها القوم ويعتبروا بها هي مؤسسة تنبت من تلك الفطرة وتتوجه إليها. والمؤسسة التي تستطيع القيام بذلك هي مؤسسة المسجد.

مؤسسة المسجد التي تحوّلت للأسف من مؤسسة مركزية في المجتمع، إلى دكّان يُمارس فيه النشاط الروحي فقط وتنحّت تلك المؤسسة تماما عن مكانها في مركز الحيّز العام. وعن دورها في ضبطه واكتفت بكونها دكانا وتحوّل إمام المسجد من قيـّم على منظومة القيم في مجتمع المسجد إلى موظّف بساعات عمل / ورديات محددة، هو يأتي ليفتح الدكّان/المسجد. يقضي ورديّته/الصلاة ثم يغلق الدكان/المسجد وينصرف، ويكون في الغالب ذلك الشيخ ليس من سكان المنطقة، وقد يكون من سكان الريف مثلا فلا يستطيع أن يقيم كل الصلوات، فيوكل لأحد أهل المنطقة أمر إقامة الصلوات ويكتفي هو بإمامة صلاة الجمعة ويقضى بضعة شهور ثم تأتي حركة التنقلات لتنقله إلى مكان آخر وتأتي بغيره. وتوجهي الآن إلى الإسلاميين الذين ينشدون أناشيد النصر أو الشهادة وينذرون أنفسهم لمحاربة العلمانية وتطبيق الشريعة ويفدون المادة الثانية بأرواحهم ويبارزون بعضهم البعض بالتقعر بالمصطلحات، أقول لهم يا أصدقائي الأعزاء إن انسحاب مؤسسة المسجد من شغل الحيّز العام واكتفاءها بدور الدكّان يُمارس فيه النشاط الروحي هو جوهر العلمانية وحقيقتها حتى وإن لم تتسمّى بذلك، فالعبرة ليست بالمصطلح إنما العبرة بالحقيقة على الأرض.

الحل أن يعود للمسجد دوره المركزي في مثل تلك المجتمعات، وهو أمر ليس بالعسير خاصة في ظل ارتخاء القبضة الأمنية للدولة التي كان لها دور كبير في الحيلولة بين المسجد وبين ممارسة دوره الحقيقي. وبم أن الإخوان منشغلون بالانتخابات والسلفيون مشنغلون بمليونية اللحية، فالمسؤولية تقع على عاتق المجتهدين من المسلمين الذين يحملون همّ بناء المجتمع المسلم. عليهم أن يتواجدوا هم في المساجد ويعمّروها بأن يكون المسجد هو منطلق إقامة مختلف الأنشطة الطقوسية وغير الطقوسية بغية إعادة الناس للمسجد وإعادة المسجد للناس دارا للعبادة، والعلم، والتثقيف والاجتماع، والترفيه أيضا.




باسم زكريا السمرجي
24/9/2011

الثلاثاء، ١٣ سبتمبر ٢٠١١

أنا متفائل

أحسب أن اليأس والإحباط لا يغزو أي منهما قلبي إلا بعد أن يطمأن أن الإيمان فيه هزلت جنده وارتعشت دعائمه. فكيف يُحبط من آمن بالله وأسلم له؟! أليس الإسلام استسلاما لله يُسلّم المسلم فيه نفسه لخالقه الذي بيده كل شيء تسليما يحرره من كل تعلّق بمن وبما لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا؟ أليس الإسلام استسلاما لربّ هو في قدرته رحيم، وفي عدله حليم؟ أليس الإسلام استسلاما لربّ خلق فأبدع، وكلّف فأعان, وعُصي فأمهل؟ أليس الإسلام استسلاما لربّ وعد بالدفاع عن المؤمنين، وتوعّد من عادى من عباده الأولياء المحسنين؟ أليس الإسلام استسلاما يحرّر العبد من التعلّق بالأشياء والتوقف عند المباني ويطلق روحه لتحلّق في فضاء المعاني، لتنساب في عالم متجاوز للزمان والمكان، حيث لا هناك ولا هنا لا أين لا كيف لا متى, عالم المقصد فيه سعيٌ والسعيُ فيه اقتفاء لمقصد لا تكتمل حلقته إلا حين يرى الإنسان اليقين رأي العين ملائكة – نرجوها ملائكة رحمة – تصحب الروح في رحلة العودة إلى حيث تنتمي، إلى السماء.



يجتهد الأب – مستدعيا كل قوّة مستنفرا كل سلطة – في تربية ابن واحد، فكم أب سار ابنه حقا على المسار الذي رسمه له أبوه مسارا واحدا "صحيحا" واجتهد كي لا تحيد قدم ابنه عنه ولا ترى عينه سواه؟! فكيف بمن ارتضوا لأنفسهم موقع المسؤولية عن مجتمع, وليس لهم سلطان عليه إلا بقدر ما أراد ذلك المجتمع؟ إن كان عمل هؤلاء الذين احتملوا على أنفسهم مثل تلك المسؤولية للمجتمع فقد اختاروا لأنفسهم أن يسابقوا الريح والأغلال تكبّل أياديهم وأرجلهم، أما إن كان عملهم لرب المجتمع وربهم انطلقوا وحلّقوا وتخففوا، والله إما أن يُريهم نصرا دنيويا يثلج صدورهم، أو يحبس عنهم ذلك لآخرة لا يفنى فيها النعيم، ولنتذكر أن من الأنبياء من لم يؤمن به أحد ويأتي يوم القيامة وليس معه أحد، وهو نبي أي من أفضل الخلق.



كيف كانت مصر قبل الثورة؟ هل نبالغ إن قلنا أن انسداد الأفق كان حالنا وحالها؟ كنا جيلا عاش ولم يرَ سوى مبارك رئيسا، وكنا نتصوّر أننا سنموت جميعا وهو ما زال رئيسا، وكأن له مهمّة مقدّسة تتعلق بالإشراف على صعود أرواح جيل من المصريين إلى باريها. كثير منّا نحن الشباب كان يفتّش في "أهرام الجمعة" عن أي فرصة للعمل خارج البلاد. وشبكة المصالح العنكبوتية تقف حائلا بين المرء وبين الوصول إلى فرصة عمل تكفل حياة كريمة. كثير منّا كان يحاول أن يتكيّف مع فكرة أننا تحوّلنا إلى أشياء توّرث. كثير منّا كان يخجل أن يجاهر بمصريته ويضع مكان صورته الشخصية على "الفايس بوك" صورة العلم المصري والنسر فيه يتوسّط نجمتي داوود في إشارة لمواقف الدولة المصرية المخزية من القضية الفلسطينية. كثير منّا كانت تختلط عليه مشاعر الغثيان والتوجس حين المرور أمام قسم شرطة.



وأين نحن الآن؟ مبارك ونجليه محبوسان، حبيب العادلي ومعاونوه في القفص. تولّت مؤسسة القوات المسلّحة المهيبة إدارة شؤون البلاد ويكفي أن نسمع اهتزاز نبرات أصواتهم – حتى وإن بدا فيها تماسكا عسكريا مُتكلّفا – حتى نعلّم أين اتجاه ميزان القوة الحقيقي. قمنا بعمل "نمرة مصرية" بدون الدخول في التفاصيل لم تتعد "شوية لبش" عند السفارة الإسرائيلية قد أختلف مع بعض تفاصيل أحداثها غير أن نتيجتها كانت أن تسابق كبار القادة الصهاينة على إعلان أن السلام مع مصر خيار استراتيجي، ذلك التسابق الذي وإن كان قال المنبطحون أمام نظرية المؤامرة أن ذلك التسابق هو جزء من المؤامرة الكونية التي يديرها مجموعة من البشر في قبو سرّي على أضواء الشموع وأن تلك اللغة الرقيقة من الصهاينة هي محض ادعاء فنرد عليهم بكلام قال مثله د. عزمي بشارة ونقول أن في السياسة لا يوجد ادّعاء فأنت ما تدّعيه.



لم يكن يتحقق ذلك إلا حين خرجنا ممتطين أرواحنا شاهرين إيماننا بالله، بوطننا، بأنه لا نصف حياة، فالحياة إما أن تكون حياة بحرية .. بعدل .. بكرامة وإما أن تكون لا حياة.



نحن منتصرون، ومتقدّمون نسير بل نعدو صاعدين، ننكفئ على وجوههنا فتقيمنا مرة أخرى عناية الله طالما اقتفيناها، ركونا إلى قدرة خالق رحيم بعباده المقتفين ركونا غير مقعد عن العمل بل محفّزا له، متجاوزا لمحاولات القائمين على إدارة شؤون البلاد أن يغرقونا في التفاصيل إغراقا يعظم أمام أعيننا أمورا صغارا تعمينا عن رؤية صورة مجملة بديعة تحفّز على العمل على التفاصيل.



الإحباط واليأس يكون لمن تعلّق بالنتائج لا بالسعي، يكون لمن تعلّق بالدولة لا بالوطن، يكون لمن تعلّق بالوسائل لا بالمقاصد.

وأنسحب هنا لأفسح المجال لأستاذ أساتذتي علي عزت بيجوفتش وأقتبس من كلامه البديع عن التسليم لله من كتاب الإسلام بين الشرق والغرب حيث يقول رحمه الله:


" من المؤكد أن واجب الإنسان هو أن يبذل جهده لتحسين كل شيء في هذا العالم بمقدوره أن يحسّنه. ومع ذلك، فسيظل أطفال يموتون بطريقة مأساوية حتى في أكثر المجتمعات كمالا. والإنسان على أحسن الفروض قد يستطيع أن يقلل من كم المعاناة في هذا العالم. ومع ذلك، سيبقى الظلم والألم مستمرين، ومهما كانا محدودين، فلن يتوقفا عن أن يكونا سببا للتجديف والانحراف ... التسليم لله أو التمرّد – إجابتان مختلفتان للسؤال نفسه

الاعتراف بالقدر، استجابة مثيرة للقضية الإنسانية الكبيرة التي تنطوي في جوهرها على المعاناة التي لا مردّ لها .. إنه اعتراف بالحياة على ما هي عليه، وقرار واع بالتحمّل والصمود والتجمّل بالصبر.

ذلك لأن التسليم لله هو ضوء يانع يخترق التشاؤم ويتجاوزه."


قد تكون الصورة ضبابية ولا نعرف ماذا نعمل، ولكن المهم أن نعمل، وبالثقة والأمل ومن قبلهم التوكّل على الله والإخلاض له نستدلّ على ما نفعل. ونضع أمام أعيننا قول الشيخ أحمد بن عطاء الله السكندري: "من علامة الاعتماد العمل: نقصان الرجاء عند وجود الزلل"




أنا متفائل J




باسم زكريا السمرجي

13/9/2011

السبت، ١٠ سبتمبر ٢٠١١

خواطر مُحبَط

لا أحب ولا أؤمن بم يسمى بالانقطاع التاريخي، فالتراكم التاريخي حقيقة لا يُمكن الفكاك منها، ولا أقصد هنا أن يُسجن الإنسان في مسارات مستقيمة تُفضي إلى حتميات مُحددة تحددها الخبرات التاريخية السابقة، فهذا يُنافي تماما ما أومن به من إقرار لمبدأ الحرية الإنسانية التي هي مناط الاستخلاف والمسؤولية والمحاسبة. غير أنه حتى وحين يتخّذ الإنسان أكثر القرارات راديكالية ويُقرر أن يغيّر ما يُتصوّر أنه مصير حتميّ لابد أن تُفضي إليه خبراته التاريخية السابقة فإن هذه القرارات الراديكالية تنصبغ على بعض المستويات بصبغة التراكم التاريخي.

وفي رأيي، نستطيع بالنظر في التراكم التاريخي المصري أن نُفسّر السلوك "الثوري" المصري. وأنا لا أستطيع أن أتجاوز عن قصة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وما لاقاه من قومه "الشعب المصري" الذي فاق كثيرا ما لاقاه من فرعون "السلطة المصرية". ولا أستطيع أنا أتجاوز عن التشابه الذي يصل حد التطابق بين سلوك قوم موسى بعد أن نصرهم الله على فرهون وبين سلوك الشعب المصري بعد أن نصرهم الله على مبارك.

فبعد أن منّ الله على الذين استُضعفوا في الأرض ونصرهم على الذين استكبروا وأراهم آياته ومعجزاته (كما أرانا في الثورة المعجزات التي لا يملك أحد ادّعاء أنه تنبأ بها أو قادها) بعد كل ذلك، وبعد أن أذن الله لبني إسرائيل في عبور البحر وأراهم فرعون غريقا (مبارك محبوسا) – آية من الله تعالى – وصلوا للصحراء وجاعوا وعطشوا، فطلبوا من موسى عليه الصلاة والسلام أن يحضر لهم ماء، فدعا الله أن يسقيهم فأوحى له الله أن يضرب بعصاه الحجر فانفجر لهم من الحجر اثنا عشر عينا يشربوا منها كما أرسل عليهم طعاما من السماء "طيور السمّان والعسل" كانت تنزل عليهم من السماء يأكلونها دون تعب. ولكنهم سئموا فطلبوا من موسى عليه الصلاة والسلام أن يأكلوا عدسا وفولا وبصلا وثوما فاستعجب موسى أن يطلب قومه الأدنى بديلا عما هو خير وأمرهم أن ذلك في الأرض فليزرعوا وليأكلوا. ثم مرّوا على قوم مشركين يعبدون أصناما فطلبوا من موسى عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم إلها كما أن لهؤلاء القوم آلهة (ومازالت عصا موسى التي غلب بها سحرة فرعون أمامهم في يده، ومازال منظر فرعون وجنوده غريقا منطبعا في أذهانهم، ومازالت أقدامهم لم تجف من أثر البحر الذي عبروه!!) فغضب موسى عليه الصلاة والسلام من شدة جهلهم واحتدّ عليهم وبيّن لهم ما في ذلك من كفر.

ثم الطامّة الكبرى حين واعد الله موسى عليه الصلاة والسلام ليلقي إليه الألواح ويبيّن له الحلال والحرام، فذهب موسى لميقات ربه وترك قومه وأقام هارون أخيه عليه السلام فيهم. فماذا فعل بنو إسرائيل في غياب موسى عليه الصلاة والسلام؟ .. قام من بينهم رجل يُدعى "السامري" صنع عجلا من الذهب الذي خرجوا به من مصر، وكان العجل مجوّفا ووجهه تجاه الريح حيث إذا جاءت الريح أحدثت فيه صوتا يشبه صوت العجل الحقيقي، وقال لهم السامري أن هذا إلهم وإله موسى فأعجبوا به واتخذوه إلها (شوف الخيابة!!!!!) ولم يستطع هارون عليه السلام أن يردّهم وخشي أن يأخذهم بالشدة فيتفرّقوا. ثم عاد موسى عليه الصلاة والسلام فغضب أيّما غضب وأحرق العجل وألقاه في اليم وعوقب بنو إسرائيل ثم عفا الله عنهم بعد ذلك ولم يتوقفوا عند ذلك بل توالت حلقات مسلسل حمق بني إسرائيل وجهلهم على أنبيائهم وحلم الله عليهم، غير أني اخترت تلك الحكاية لأنها قريبة الشبه بما حدث في الثورة عقب تنحّي مبارك/غرق فرعون.

المشكل أن مصر لم تكن دولة، خاصة في الثلاثين سنة الأخيرة. بل كانت شبكة علاقات ومصالح بين مجموعة أفراد تتكامل علاقاتهم لتتكامل أطراف القوة التي يمتلكونها، ونستطيع أن نرى شبكة العلاقات تلك واضحة جلية في قسم الشرطة (رمز الدولة) خاصة في المناطق الشعبية والعلاقات التي يقيمها مع مراكز القوى في المنطقة حتى لو كانوا خارجين عن القانون (بل يكونون أصلا خارجين عن القانون) القانون المنوط بقسم الشرطة أن يقوم عليه، فتتحول وظيفة قسم الشرطة من تمثيل الدولة وحماية القانون إلى محاولة إيجاد مكان لنفسه داخل شبكة العلاقات المجتمعية في هذه المنطقة أو تلك، ويتحول ضباط الشرطة من ممثلين للدولة قائمين على حمايتها إلى مجرد مجموعة من الأفراد يحاولون أن (يمشّوا حالهم) بأن يوجدوا لأنفسهم مكانا في شبكة علاقات القوى في المجتمع الموجودين فيه.

ومن الطبيعي أن ينتج عن تلك الرخاوة التي كانت عليها "الدولة" المصرية أن يستشري الفساد الإنساني (ليس فقط الفساد المالي أو الإداري أو السياسي) في عروق أغلب المصريين، فنظرا لتشابك العلاقات وتشعّبها وقيامها على أساس الأفراد وليس المؤسسات، فإن الفساد لم يتوقف عند حدود مؤسسة يمكن استئصال الفاسد منها أو حتى إحلالها إحلالا تامّا وإنما كلّ منّا طاله خبث ذلك الفساد إلا من رحم الله، وصار إصلاحه إصلاحا شاملا عصيّا على طاقة البشر، والثورة وما حدث فيها من معجزات تخرج عن التخطيط البشري خير دليل. وحتى وإن تحدثنا عن عبقرية العقل الجمعي المصري وتفاعله مع الثورة فلا يجب أن نغفل أن "المليونيات" كانت حافلة بالموضات والتقليعات ومحاولات جذب الكاميرا من "الثوّار". وذلك يفسّر ما حدث بعد الثورة من الذين ارتضوا العجل إلها، وهو لم يكن عجلا واحدا بل كل مجموعة اتخذت عجلا يحدث خوارا مبهرا لهم يجعلهم يقولون هذا إلهنا وإله الثورة. فالدستور أولا، الانتخابات أولا، السفير الإسرائيلي، حد أدنى للأجور، الجيش والشعب إيد واحدة ... إلخ ويلتف كل مجموعة حول مطلب من المطالب أو رؤية مجتزأة ويدّعون أن تلك هي الثورة وأنهم هم الثوار، ولا أحد يعلم حقيقة الثورة وأنها أشمل من كل ذلك وتحتوي كل ذلك ولا تكتمل إلا باكتمال كل ذلك.

حينما أنهيت دراستي الجامعية منذ عامين تقريبا كان المجال مفتوحا للبحث عن فرصة عمل في إحدى دول الخليج غير أني أعلم عن نفسي أنني لن أستطيع أن أحيا خارج مصر، فالسمك لا يعرف أن يعيش خارج المياه حتى ولو كانت "مياه مجاري" وهذا لم يتغيّرغير أني ربما أكون وصلت الآن لتصوّر وهو أن الثورة سيُنجزها الله إلى الحد الذي أراده، وليس في طاقة أحدنا أن يحدد كيف تُنجز ويقوم على تحقيق تلك الكيفية. لذلك فمن الأفضل لي ألا أقيّد نفسي بوجوب العمل من أجل الثورة أو ما شابه، بل علي أن أعمل من أجل نفسي تحقيقا لمراد الله مني وللمدخل الذي كتبه الله علي لتحقيق الاستخلاف وإعمار الأرض، ذلك المدخل الذي إن تقاطع مع مسار الثورة فبها ونعمة، وإن لم يتقاطع فهذا قضاء الله. ذلك المسار الذي إن تطلّب سفرا خارج البلاد – دون هجرة – وإن لم يتطلّب فهذا أو ذاك أمر الله.

أحب مصر وأحب المصريين إجمالا دون تفصيل وأحمد الله أني أحيا في ذلك البلد الذي يحيا قصة الإنسان بتقلباته وتركيباته وتعقيداته، ذلك البلد الذي نظرا لما يحمله من تركيبات وتعقيدات ومضحكات مبكيات مؤهَّل لأن يكون مؤهِّلا لإنبات الشعراء والمفكرّين والمتأملّين.


رحم الله العبقري جمال حمدان



باسم زكريا

10/9/2011

الأربعاء، ٧ سبتمبر ٢٠١١

عن مركز الكون

لا أرى أننا يمكننا أن نقول أن الله هو مركز الكون لأن علاقة مركز الشيء بالشيء علاقة جزء بكل، أما علاقة الله بالكون فهي علاقة خلق وقيومية.

ولا يمكن أيضا أن نقول أن الإنسان المطلق هو مركز الكون لأن الإنسان المطلق لم يُؤت من العلم بنفسه وبالكون ما يؤهّله لأن يكون مصدرا للمعيارية فيهما

أرى أننا يمكن أن نقول أن الإنسان الربّاني هو مركز الكون، فهو الذي عرف حدود قدرته وإرادته الإنسانية، وقام بها حق قيام أداء لدور الاستخلاف المنوط به، وسلّم لله ما تجاوز حدود تلك القدرة والإرادة، بل وهو يدرك أنه لن يستطيع القيام بحقيقة الدور إلا بتوفيق من الله... والله أعلم

الثلاثاء، ٦ سبتمبر ٢٠١١

بين المجتمع والسلطة

إن التنازع على الحيّز العام لابد أن يكون بين طرفين: المجتمع والسلطة على خلفية الوطن، وأي محاولة لتوجيه ذلك التنازع بين فئات الشعب المختلفة - على خلفية الأيدولوجيا أو الدين أو الجنس أو العِرق - لا تُفضي إلا إلى خسارة الشعب في مواجهة السلطة حيث ينتج ذلك التنازع الشعبي الشعبي تباعدا يوفّر للسلطة ثغرات تخترق منها صفوف الشعب وتلتف على فئاته فرادى بأن تُوهم كل فئة بصنع تفاهمات لا تنتهي إلا بتعميق تذرير المجتمع إلى ذرات متفرقة يسهل وأدها