الخميس، ٢٩ ديسمبر ٢٠١١

عن مبادرة مصرنا

أهم إنجاز للثورة المصرية حتى الآن هو أنها فتحت آفاقا جديدة للعمل العام، فانطلقت المبادرات تباعا تحث الناس على استكمال المسيرة والمسار. وكانت أبرز المبادرات التي انطلقت مؤخرا مبادرة "مصرنا" ولأن من شارك في إطلاقها شخصيات من اتجاهات مختلفة يجمعهم فضلا – عن النوايا الحسنة – أنهم من الوجوه المألوفة للإعلام، اكتسبت المبادرة زخما إعلاميا أراه زائدا عن اللازم، فأثار حولها جدلا وانقساما "تويتريا" عنيفا كالعادة. فالظرف الوحيد الذي يجمع مجتمع تويتر هو المعركة المباشرة! وكان هذا الجدال الدائر كاشفا عن بعض الأمور التي أراها تتجاوز المبادرة وتقترب من بعض المفاهيم المتعلقة بالثورة ذاتها، وهي مفاهيم لا أدّعي إحاطتي التامة بها ولكني سأحاول فيما يلي أن أقدم اجتهادا لعل صوابه أن يكون أكثر من خطئه ولعله يضيف شيئا إلى الجدل الدائر والذي سيظل دائرا.

ثوري أم إصلاحي

كان الاعتراض الأول على المبادرة أنها مبادرة إصلاحية تعترض طريق المسار الثوري. وهذا الاعتراض أراه يحمل بعض الخلط يجعلنا نحاول إعادة تعريف ما هو ثوري وما هو إصلاحي ابتداء. رأيي ببساطة، أن الإصلاح هو محاولة ترميم النظام من داخله، وفي النظم التي لا توفر الحد الأدنى من العدالة، لا يتبنى الطريق الإصلاحي إلا المتواطئون أو المنتفعون أو الطيبون المُقيدون بقيود "إدارة الواقع" العاجزون عن الحلم. أما الثورة فتكون من خارج النظام، وقد تأخذ شكل بناء نظام موازِ بديل ثم إحلال ذلك النظام الموازي بدلا من النظام القديم، أو – كما هو الحال في ثورتنا – محاولات الضغط المستمرة المتعاقبة على النظام التي تتراكم حتى تُحدث الثورة. والخلاف أراه ينشأ من تعريفنا لحدود النظام، فمنا من يتصور أن النظام هو الأشخاص. وبمجرد إسقاط الأشخاص يسقط النظام. ومنا من يتصور أن النظام هو بعض الممارسات كالفساد المالي والإداري والقمع والتزوير مثلا وبإسقاط هذه الممارسات نكون قد أسقطنا النظام (وهؤلاء هم من يختزلون الثورة ويسمّونها "التحول الديمقراطي") ومنا من يقول بأن النظام هو البنى الاجتماعية التي تقوم عليها الدولة، وبتفكيكها وإعادة تركيبها نكون قد أسقطنا النظام (وهو قريب لطرح الاشتراكيين الثوريين) ومنّا من يقول بأن النظام هو الفكرة الفلسفية التي تقوم عليها الدولة أصلا، ولن يسقط النظام إلا بإسقاط تلك الفكرة الفلسفية واستبدال أخرى بها. وطبقا لمفهوم كل منّا عن حدود النظام يتشكل مفهوم كل منّا عن ما هو ثوري وما هو إصلاحي. وأنا وإن كنت – على المستوى الفكري – أتبنى أكثر الحلول راديكالية، إلا أنني أعلم علم اليقين أنه لابد لنا من التدرج على مستوى "الفعل"، وأن راديكالية "الفعل"وإن حققت مكاسبا على المدى القريب فالخطر منها على المدى البعيد كبير.

ووفقا لما سبق أرى أن مبادرة "مصرنا" مبادرة ثورية ولكنها ربما تتبنى مفهوم "التحول الديمقراطي" فمطلقوها – كما فهمت – يحاولون مخاطبة الغالبية التي لا يمكن مخاطبتها بخطاب راديكالي، بغية تدارك ما يروّج له إعلام العسكر من محاولة اختزال الثورة في راديكالية الفكر والفعل لتأليب الشعب على الثورة وتجييش المواطنين الشرفاء الذين يهيب بهم الإعلام للدفاع عن قواتهم المسلحة! فالمبادرة تحاول أن تقدم بديلا يقترب من الغالبية بهدف إدماج أكبر عدد ممكن من الناس في عملية الضغط الممنهج على صانعي القرار الحالين والذين نتوقع قدومهم في المستقبل. وكان تراكم محاولات مماثلة هو ما صنع ثورتنا كما أسلفت.

ورغم أني أعلم أن الأغلبية لا يمكن أن تكون ثورية، إلا أن موقع الأغلبية من الثورة كموقع "المعازيم" من الفرح. هم لا يتحملون تكاليف الفرح ولكن حضورهم هو ما يجعل الفرح فرحا

الثورة والثوار

وحتى إن كانت تلك المبادرة مبادرة إصلاحية، فثورتنا ليست بالهشاشة ولا بالسطحية التي يتصورها البعض، حتى تعطّل مسيرتها مبادرة أو حتى عدة مبادرات، فثورتنا ثورة شعبية لا يمكن لأحد أن يدّعي عليها فضلا، ولا يمكن لأحد أن يدّعي تمثيلها أو اختزالها في شخصه أو تياره الفكري، ولا حتى الذين انتخبهم الشعب بأغلبية واضحة. فالثورة أكبر من الثوار، والشعب أكبر من ممثليه.وهذا من مواطن الخلط أيضا، فترى أحد الناس يقول أن الناس قد كرهت "الثورة"وهو يقصد أن الناس كرهت شكلا معيّنا من الفعل الثوري أو فصيلا بعينه من "الثوار" و آخر يقول أن على "الثورة" أن تصلح أخطائها وهو يقصد أنه على فصائل "الثوار" التي تتناوب الأخطاء أن تصلح أخطاءها، فالثورة هي ملك الشعب كله، بل إن حتى التوفيقيون العكاشيون لا يقدرون أن يهاجموا الثورة، وإنما يدّعون أنهم يريدون أن يحافظوا على الثورة، ومن يذهبون للعباسية ينفون تماما أن يكونوا هم جماعة "آسفين يا ريس".

وكما أن الثورة أكبر من الثوار فالشعب أكبر من ممثليه، وما كان انتخاب الشعب للإخوان أو السلفيين أوغيرهم إلا اختيارا في ظرف معين بين اختيارات محدودة بحدود القدرة المالية والإعلامية، وهذا الاختيار لا يُخوّل لأي أغلبية برلمانية كانت احتكار الإرادة الشعبية والمزايدة المستمرة باسمها. فالإرادة الشعبية هي عند الشعب باستمرار والشعب هو من يحميها لا فصيل بعينه أو نخبة بعينها.

تحديات تواجه المبادرة

بالحديث عن التحديات التي تواجه المبادرة، فأرى أبرزها كالآتي:

  • أن يتصور أصحاب المبادرة أنهم المظلة التي لا بد أن تمثل الثورة، وأن من مهامهم "توحيد الجهود" كما جاء في حديث الأستاذ زياد في حلقة العاشرة مساء التي تم فيها الإعلان عن إطلاق المبادرة، ولا أدري إن كانت زلة لسان أم عقيدة يعتنقها القائمون على المبادرة أم سلوكا لن يستطيعوا مقاومته حتى وإن حاولوا؟! فخطورة ذلك – حتى وإن حسنت النوايا – المساهمة في اختزال الثورة مما يسهّل تفتيتها واحتواءها بعد ذلك، ولأن ثورتنا أعمق من ذلك فلا أخشى على الثورة وإنما أخشى على الإحباط الذي سيصيب البعض جراء فشل مسعاهم

  • أن تُدار تلك المبادرة بعقلية الـ Business فيكون نجاح المبادرة مرتبطا بالـ Mass Production سواء في عدد المنضمين أو المؤيدين أو في ارتفاع صوت المبادرة وعدد مرات ظهورها الإعلامي، ويتم التعامل مع الثورة على أنها منتج وتقع المبادرة في فخ المنافسة التسويقية مع المبادرات الأخرى

  • أن تذهب المبادرة للمفاوضات مع السلطة وتدّعي أنها تمثل الثورة. ولا أرى عيبا كبيرا في التفاوض في بعض الأوقات، ولكن العيب أراه في ادعاء تمثيل الثورة والقدرة على تحريك الشارع

  • أن تتحول المبادرة إلى مبادرة إعلامية يفوق اهتمامها بالحديث عن ما تريد فعله عن اهتمامها بفعل ما يستدعي الحديث عنه. وهذا عين ما وقعت فيه المبادرة بالفعل في الحلقة التليفزيونية التي تم فيها إطلاق المبادرة. فكان ظهور هذا العدد الكبير من الشخصيات يسبق أي فعل حقيقي، بل سبق هذا الظهور حتى بلورة رؤية يمكن تقديمها للناس، فكان الحديث في الحلقة على نمط "كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء" فوقع الناس في الحيرة، وكان النقد الأكثر واقعية والأكثر عنفا من كل المزايدات في رأيي هو إعلان كثير من الناس عن عدم الفهم، فتحولت المبادرة في أعين البعض إلى "الفنكوش" الذي لا نعرف حقيقته، ودعّم تلك الصورة ما كُتب عن المبادرة في موقعها الإلكتروني الذي كان رؤية وأهدافا ورسالة يمكن تلخيصها في جملة واحدة "احنا عايزين مصر تبقى حلوة". كان يمكن تجاوز ذلك كله والاكتفاء بفيديو قصير يتم عرضه في الفواصل بين البرامج في القنوات المختلفة يدعو الناس للانضمام إلى المبادرة والمساعدة في إنضاج الفكرة وبلورتها، بدلا من تلك الجلبة التي جلبت للمبادرة عددا من المؤيدين والمعارضين يفوق طاقتها وحقيقتها بكثير

في النهاية أرجو النجاح "الحقيقي"للجميع طالما أخلصوا النية. و أرجو من كلّ منّا أن ننتقل من مساحة "تفطيس" الأشخاص إلى مساحة "تقويم" الأفكار، فكما قلت وأكرر وسأكرر الثورة أكبر منّا جميعا، وأكثر تركيبا من أن تحيط بها أفهام أحد منّا. نحتاج لجميع المسارات وجميع الأفكار، شرط الإخلاص

(تبدو الخاتمة المنطقية لهذه الفقرة "والله الموفق والمستعان" لكن لأسباب تعلمونها جميعا سأتجنب تلك الخاتمة وأستبدل بها "والله أعلم" )



باسم زكريا السمرجي
29/12/2011

من روائع محمود السعدني

أعطيت لبعض الأصدقاء بعضا من كتب العبقري الراحل محمود السعدني على سبيل السلف (وعارف إنهم بيقروا الكلام ده فأحب أؤكد على موضوع السلف ده علشان الدنيا مابقاش فيها أمان دلوقتي :) )

دفعني التجول في مجموعته إلى تذكر عبارة له، من أعمق ما قرأت، وأحببت أن أشارككم بها.

يقول رحمه الله:

لأني حمقري (مزيج من الحمار والعبقري) فقد كنت أظن أن كل رجل ضاحك رجل هلّاس.. ولأني حمقري كنت أرفع شعارًا حمقريًّا «أنا أضحك إذن أنا سعيد»، وبعد فترة طويلة من الزمان اكتشفت أن العكس هو الصحيح، واكتشفت أن كل رجل ضاحك رجل بائس، وأنه مقابل كل ضحكة تقرقع على لسانه تقرقع مأساة داخل أحشائه، وأنه مقابل كل ضحكة ترتسم على شفتيه تنحدر دمعة داخل قلبه.. ولكن هناك حزن هلفوت، وهناك أيضًا حزن مقدس.. وصاحب الحزن الهلفوت يحمله على رأسه ويدور به على الناس.. التقطيبة على الجبين، والرعشة في أرنبة الأنف، والدمعة على الخدين.. يالاللي! وهو يدور بها على خلق الله يبيع لهم أحزانه، وهو بعد فترة يكون قد باع رصيده من الأحزان وتخفف، ويفارقه الحزن وتبقى آثاره على الوجه، اكسسوارًا يرتديه الحزين الهلفوت ويسترزق..


لكن الحزن المقدس حزن عظيم، والحزن العظيم نتيجة هموم عظيمة، والهموم العظيمة لا تسكن إلا نفوسًا أعظم.. والنفوس الأعظم تغلق نفسها على همها وتمضي.. وهي تظل إلى آخر لحظة في الحياة تأكل الحزن والحزن يأكل منها، ويمضي الإنسان صاحب الحزن العظيم - ككل شيء في الحياة - يأكل ويؤكل، ولكن مثله لا يذاع له سر، وقد يمضي بسره إلى قبره! ولذلك يقال: ما أسهل أن تبكي وما أصعب أن تضحك.


ولكن هناك أيضًا ضحك مقدس، وهناك ضحك هلفوت.. الضاحك إذا كان حزينًا في الأعماق صار عبقريًّا، وإذا كان مجدبًا من الداخل أصبح بلياتشو يستحق اللطم على قفاه! ونحن أكثر الشعوب حظًّا في إنتاج المضحكين.. مصر العظيمة كان لها في كل جيل عشرات من المضحكين، ولقد استطاع بعضهم أن يخلد ولمع بعضهم حينًا ثم فرقع كبالونة منتفخة بالهواء، بعضهم أصيل وبعضهم فالصو، بعضهم مثل الذهب البندقي وبعضهم مثل الذهب القشرة.

الثلاثاء، ٢٧ ديسمبر ٢٠١١

رسالة إلى حملات التوعية .. من "مصر العشة"

علّمني أخي سيف أبو زيد أن الحكايات هي أقصر الطرق لتوصيل المعاني، واستدعت تلك المعلومة من ذاكرتي حكاية من حكايات أطفال عزبة "أبو قرن" الذين كنت تحدثت عن إحدى حكاياتهم في تدوينة سابقة، والحكاية أهديها لللأعزاء من أبناء الطبقة الوسطى العليا، المتعلمين، المثقفين الذين يشعرون بمسؤوليتهم المجتمعية تجاه من هم دونهم في السلم الاجتماعي فيتجهون إلى توعيتهم

وفي حقيقة الأمر فإن مفهوم "التوعية" من المفاهيم التي تصيبني بالتوجس وتحتاج لمراجعة، فأنا أفهم التوعية في الإطار الفني التقني، كأن يعلّمني أحد الناس كيفية استخدام جهاز إلكتروني جديد، أو أن يقوم أحد الناس بتوعية الناس "بإجراءات" الانتخابات مثلا أما غير ذلك من التوعية الاجتماعية فلا يكون إلا توجيها، بغية تنميط الناس وتحويلهم إلى صورة واحدة ونمط واحد من البشر. وأذكر في هذا الإطار حديثا دار بيني وبين أحد الزملاء من الحزب الشيوعي المصري وكان يسخر من أحد زملائه في العمل ويبدو أنه كان أدنى منزلة منه وأقل تعليما حيث سأله "هو انت شموعي من بتوع مرقص؟" ويقصد "هو انت شيوعي من بتوع ماركس؟" وكان ردّي البسيط عليه أن العامل في المصنع لا يمكن أن يُقاس وعيه بمدى معرفته بماركس أو آدم سميث، فلماذا يحتاج أصلا لأن يعرف تلك الأسماء وتلك الأفكار؟ لماذا نقيس وعي الناس بمدى وعيهم بمعاركنا نحن؟!

أعتذر عن الإطالة في المقدمة، وإليكم القصة

كنا قد انتهينا من تجديد المدرسة الموجودة بالعزبة، وكان موعدنا مع يوم ترفيهي للأطفال. كانت إحدى فعاليات اليوم مسابقة بين الأطفال بالصلصال، حيث فرّقناهم إلى فرق، كل فريق مكون من حوالي خمسة أطفال، ويشرف على كل فريق واحد منّا. وكان الفائز بالمسابقة هو الفريق الذي ينجح في عمل نموذج بالصلصال للمدرسة في أقل وقت ممكن، وكنا نؤمّل أن نربطهم بالمدرسة وأن نعوّدهم على أن يعملوا سويا في فريق. بدأت المسابقة بأن وضعت قطعة الصلصال الكبيرة على الطاولة فتسارعت إليها الأيدي وتصارعت حتى ظفرت كل منها بما قدرت عليه، فكان من الطبيعي أن تعود يدا أحد الأطفال خالية فكان لابد لي من التدخل، في الحقيقة كان ما دار بذهني أن آخذ من أكثرهم نصيبا وأعطي ذلك الطفل. ولكني قررت أن أتدخل بشكل مختلف. أخبرتهم أننا لنفوز، لابد أن نشترك جميعا في اللعب. وأنتم لديكم مشكلة أن زميلكم لن يتمكن من المشاركة في اللعب فما العمل؟ ففكروا قليلا ثم قال أحدهم: "فليعطه كل واحد منّا قطعة صغيرة" وقد كان، وهو حل كما ترون أكثر ذكاء بكثير مما كنت أتصور، فبذلك سيتشارك الجميع فيه بمبادرة منهم ويتساوى نصيب الجميع في الحل دون أن يتوهم أحدهم أني اعتديت عليه أو أنه أكثر تضحية من غيره. لم تنتهِ القصة بعد. فلقد أبوا حين سألتهم أن يقوموا جميعا بالتشارك في بناء المدرسة، ولم يرضَ بذلك إلا اثنان منهم أما الآخرون فصاح أحدهم أنه يفضل أن يبني المقهى – الذي ربما يعمل فيه قهوجيا مع أخيه الأكبر بعد أن ينتهي من الدراسة – وصاح آخر أنه يفضل بناء نموذج لبائع الفطير، بينما صاح الثالث أن يفضل بناء منزله. فأجبت كل واحد إلى طلبه وأخبرتهم ألسنا بذلك نكون تشاركنا جميعا في بناء العزبة؟ فأجابوا بالموافقة وانطلقوا جميعا، وكان من ينتهي منهم يساعد زميله في إنجاز ما يعمل، حتى إذا انتهوا جميعا والتقطنا الصور (التي لسوء الحظ لا أعرف لها طريقا L) انطلقوا جميعا في هدم ما بنوا بمرح J

هذه القصة أيضا موجّهة لمن يبكون تشتت الجهود وينادون بالتنسيق وتوحيد الجهود وجمع كل المصريين تحت راية واحدة وتنظيم تحركاتهم بغية رفع كفاءات تلك الحركة، وهي دعاوى – رغم ثقتي في نوايا كثير من مطلقيها – إلا أنها تكريس للمركزية التي تسلب الحرية وتضيّق مساحات العمل، والأولى هو إطلاق يد الناس في العمل، حتى ولو تشتت الجهود ففي حقيقة الأمر المعارك في بلدنا أكثر من أن تحصى، وأكبر من أن تحتويها حركة واحدة، أو مجموعة واحدة، أو تيار واحد. دعوا الأزهار تتفتح، دعوا الناس لمعاركهم حتى وإن صغرت في أعينكم، فليس من حق أحد أن يحكم على معارك الناس. الناس تختار معاركها، ولا تُختار لها. واللامركزية هي الضامن الحقيقى للحرية التي تضمن بعد ذلك نضوج العمل وتطوره تطورا طبيعيا مما يضمن له الاستدامة. فالصورة الكبيرة لمصر لا تتشكل إلا إن تركنا الأزهار الصغيرة تتفتح وتفوح وتملأ الجو عبيرا




باسم زكريا السمرجي
27/12/2011

الجمعة، ٢٣ ديسمبر ٢٠١١

صور من مصر العشة

بفخر أقول، أنني من أبناء حي المطرية الشعبي، بفخر أقولها أنا من أبناء "مصر العشّة" ويزيد فخري بذلك ما أتاحه لي نشاطي في المجتمع المدني النظامي من التعرف على بعض ملامح "مصر القصر".

فخور بأني أحيا وسط الأغنياء، سكان "مصر العشة". نعم هم الأغنياء .. أليس الغني من استغنى؟ أليس من لم يمتلك الشيء أقرب للاستغناء عنه ممن امتلك الشيء حتى امتلكه الشيء؟! أليس الغني هو من يستطيع أن يقسم لقمته الوحيدة مع جاره دون أن ينتظر منه رد؟ أوليس من يتعمّد أن تكون العلامة التجارية لملابسه في مكان ظاهر منها فقير لتلك العلامة؟ أوليس من يُظهر هاتفه المحمول غالي الثمن هو الفقير إليه الذي لا تكتمل قيمته إلا به؟ لذلك أقول أن سكان مصر العشة المكتفين من الحياة بالقليل هم الأغنياء حقا

سكان مصر العشة – بعكس سكان مصر القصر – لا يعرفون الكلام عن المعاني ولا يصنعون خطبا رنانة حولها، بل إنهم يحيونها، يحيون المعاني، ولقد تبيّن لي ذلك بشدة في الثورة وبخاصة أثناء معارك محمد محمود، فلقد كان أبناء مصر العشة يصنعون الواقع في الصفوف الأولى ويجبرون المجلس العسكري على إعلان تاريخ محدد لانتخابات الرئاسة، بينما سكان مصر القصر يجتمعون ليناقشوا سبل الخروج من "الأزمة"!

يشفق بعض سكان القصر الطيبون على سكان العشة البسطاء الجهلاء ويودّون أن يمدوا لهم يد العون ليكونوا مثلهم، وفي هذه التدوينة أود أن أسوق بعضا من صور مصر العشة، لعلها تصل إلى بعض سكان مصر القصر فيعلمون أنهم هم الأولى بالشفقة لا غيرهم. ويتعامل بعض الباحثين مع هؤلاء البسطاء على أنهم فئران تجارب أو كتلة صماء تتحرك وفقا لتوجيهات "الحكماء" سكان مصر القصر، فإليه أسوق تلك الصور ليعلم أن لدية الكثير ليتعلمه


في الثورة

نزلت للشارع يوم 28 يناير إلى ميدان الجيزة ولم أظن أبدا أن ميدان المطرية ستندلع فيه المظاهرات، وعدت لأجد الحي بأكمله تفوح منه رائحة الحرية المسيلة للدموع وعلمت بعد ذلك أن معركة ميدان المطرية كانت من أهم معارك الثورة وحي المطرية كان من أكثر الأحياء الذي قدّم الشهداء. وبحسب رواية شاهد عيان، فما أجج المعركة إصابة سيدة كانت تحمل طفلتها أصابها الأمن برصاص الغدر - وكل رصاصهم غدر - فسقطت، تزامن ذلك مع وصول مسيرات تعزيز للميدان من الشوارع المؤدية إليه. وانتهت المعركة باحتجاز قوات الأمن في مسجد في الميدان – ظلوا يطلقون منه نيرانهم ويبادلهم الناس بالطوب – واقتحام قسم المطرية وتهريب العساكر الذين سلموا أنفسهم للثوار. الذين كانوا وهم يقتحمون قسم المطرية يقتحمون رمز القمع والرشوة والفساد وحامي حمى البلطجة في المنطقة.

استمعت لتلك الحكاية من شاهد العيان أيام اللجان الشعبية، التي استحالت بعد يومين إلى جلسات سمر ودورات لكرة القدم والطاولة والشطرنج. وكان أحد المُحرَرَين من حجز قسم المطرية يقوم باستخدام دراجته البخارية هو وزميل له بتفقد محيطنا السكني من آن لآخر للكشف عن أي هجمة للبلطجية.

كنا نذهب لميدان التحرير صباحا، ونعود نقضي الليل ساهرين أمام البيوت نقتسم الطعام متحفزين بأسلحتنا التي لم نُضطر لاستخدامها

محمود ضاحي

محمود ضاحي هو طفل ربما عمره الآن أربعة عشر عاما. كان تلميذا في مدرسة في عزبة "أبو قرن"، تلك المنطقة التي تعاني من الفقر المدقع حتى أن أهلها يعيشون في بيوت دون أسقف وتفصل بين بيوتهم ترع الصرف الصحي، كنا ونحن طلاب في كلية الهندسة بجامعة عين شمس نعمل من خلال نشاط طلابي اسمه "علشانك يا بلدي" على تنمية تلك المنطقة من خلال عدة برامج للتنمية، وكنت أشارك في برنامج فصول التقوية، حيث نعمل على مساعدة تلاميذ الصف الثالث الابتدائي في دراستهم.

محمود ضاحي كان الفتوة بين أقرانه، وكنا نقيم لهم احتفالا في آخر العام الدراسي ونحضر لهم من المأكولات والمشروبات ما لم يسمعوا بها بهدف الاحتفال والترويح عنهم. احتفظ محمود ضاحي بنصيبه، بعد أن انقض أقرانه كلٌّ على نصيبه فأفناه. لم يذق محمود من نصيبه شيئا وظل محتفظا به حتى خرج من المدرسة مدافعا عنه ضد هجمات أقرانه الذين كانوا قد انتهوا من أنصبتهم ويتطلعون للمزيد، علمت بعد ذلك أن محمود كان يحتفظ بنصيبه حتى يذهب به لأمه وإخوته، يُطعمهم مما طعم ويسقيهم مما شرب ... أتخشون خروج محمود ضاحي للشارع، وتسمونه بلطجيا أو ثائرا في ثورة جياع؟ هل الجائع هو من يؤثر مشاركة أهله الطعام على الاستئثار به لنفسه؟ أم أن الجائع هو من لم يكترث على رقاب من يدوس ليزيد صفرا على يمين رصيده البنكي ذو الأصفار الستة والسبعة

ولا أترك محمود ضاحي وأهله إلا بعد أن أذكر لكم أننا حينما كنا نتجول في العزبة كان أهالي تلك البيوت التي لا أسقف لها دائما ما يدعوننا بكرم بالغ للشراب أو الطعام الذي ربما يكون آخر قوت في البيت

هذا هو محمود ضاحي وهؤلاء هم أهله

بعض تلاميذ عزبة أبو قرن

سلفي لا يفهم في السياسة

قبيل الانتخابات البرلمانية، وبالأخص يوم السابع عشر من نوفمبر للعام 2011 اجتمعت مع بعض أهالي المنطقة لنتناقش في أمور الانتخابات، كان المكان هو جمعية خيرية ذات مزاج سلفي وكذلك كان الحضور. بدأ أحد الحضور كلامه – وهو سلفي ذو لحية كثة، يعمل تاجرا، وأصيب بخرطوش في يده اليسري يوم 28 يناير أدت إلى تشوه دائم في أصابعه ولكنه لم يملأ الدنيا عويلا – بدأ كلامه بـ "أنا ماليش ف السياسة ولا بافهم فيها"

وكان من ضمن ما قال موجّها خطابه لمرشحي السلفيين والإخوان: "المفترض أن يخاطب المرشحون المصريين جميعا، فهم سيكونون نواب الشعب المصري بجميع طوائفه، ولكنني أشعر من خطاب الإخوان والسلفيين – وبالذات السلفيين – أنهم يظنون أنهم سيأتون نوابا للمسلمين فقط بل وللملتزمين دينيا من المسلمين" .... يبدو فعلا أنه لا يفهم في السياسة

ثم حكى عن مشكلة حدثت مع جيرانه المسيحيين في أعقاب أحداث ماسبيرو، حيث يحكي أن بعض النساء تجلس أمام البيوت في محيط متجره، يتبادلن الأحاديث المعتادة التي لا تخلو من الضحك, وبينما كنّ يتضاحكن إذا مر بهنّ نسوة مسيحيات جيران لهنّ وكنّ لتوهنّ عائدات من تشييع جثامين الضحايا فاندلعت معركة كلامية بين الفريقين انتهت بأن ذهب الجميع إلى بيته. أتى صاحبنا السلفي بالنسوة المسلمات وذهب إلى جاره المسيحي بهن يقول له أننا موجودون معا كنا، ليس لنا إلا بعض. إن اعتدى أحد على الشارع سأحميك وأحمي أهلك وستحميني وتحمي أهلي، فوافقه الرجل على الفور وتصالحوا جميعا ... ألم أقل لكم أنه لا يفهم في السياسة!


رسالة لأمي

بينما نتناول طعام الغداء منذ أسبوع أو يزيد قليلا إذ برسالة تستقبلها أمي على هاتفها المحمول من إحدى صديقاتها التي تشترك معها في حفظ القرآن وبعض الأعمال المجتمعية، كانت الرسالة تقول "بتحلمي بإيه لمصر؟" ضحكنا من الرسالة واستخففنا بها. وكلّمتها أمي فيما بعد لتعلم أن تلك السيدة مع مجموعة أخرى من النساء تقوم بجمع أحلام المصريين ليسلموها للإخوان لأن الإخوان ربحوا في الانتخابات وسيحكمون البلد ... "يورونا بقى هيعملوا ايه" هكذا قالت السيدة البسيطة، ربة المنزل، لأمي

صورة لبعض سيدات المطرية يدلين بأصواتهم في الاستفتاء

الصورة الأخيرة

تعمل أمي موجهة بالتربية والتعليم، وفي يوم وجدتها تحكي لنا حكاية عن مدرسة إعدادية في منطقة فقيرة جدا من مناطق المطرية. قام ناظر تلك المدرسة بالتعاون مع بعض الطلبة والإخصائيين الاجتماعيين برعاية الطلبة الأيتام في المدرسة. والتعامل مع أسرهم وبحث سبل مساعدتهم، وإذ بهم يواجهون مشكلة أخرى وهي أنهم علموا أن بعض التلاميذ يتعرضون لحالات قطع طريق من بعض الأطفال المعروفين بالاسم، وحينما بحثوا وراء هؤلاء الأطفال قطاع الطرق وجدوهم ينتمون لأسر مزدحمة بالأبناء ووجدوا آباءهم إما عاطلين عن العمل أو يعملون في أعمال لا تكفيهم، فماذا فعل هذا الفريق؟ تواصلوا مع كبار القوم في تلك المنطقة من أصحاب الأعمال وحثّوهم على توفير فرص العمل لهؤلاء الأباء، وفعلا تم التشبيك وتضاءلت ظاهرة الأطفال قطاع الطرق

كانت تلك صورا بسيطة وموجزة، فلم أحكِ عن المسيرة التي خرجت من المدرسة الثانوي أيام معارك نوفمبر تهتف يسقط يسقط حكم العسكر، ولم أحكِ عن الشباب الذين كرّموا شهداء المطرية في مؤتمر شعبي، أو عن المبادرة التي قاموا بها للتعريف بمرشحي مجلس الشعب باستخدام شبكات وصلات الدش، المبادرة التي تطورت فيما بعد لتكون إعلاما محليا

لكل تلك الصور وغيرها فخور بانتمائي لهؤلاء الأحرار، المتحررون من ربق الإذعان لمظاهر اجتماعية زائفة، يتحركون ببساطة أفقيا ورأسيا، هؤلاء الأحرار ... سكان مصر العشة



باسم زكريا السمرجي
23/12/2011

الاثنين، ٢٨ نوفمبر ٢٠١١

عن الشهداء .. وعنّا

بالأمس، صادفت أحد زملاء الجامعة كتب على الفيس بوك يتندّر على شهيد اعتصام مجلس الوزراء أحمد سرور، ويتساءل مستنكرا عن مبررات التحاق أحمد بالشهداء. يعجبني في هذا الرجل، أو فلنقل هذا الشخص، أنه قد تصالح مع فساد نفسه، هو حتى لم يعد يرى البون الشاسع بينه وبين معنى الإنسانية، بل صار يتحرك بحرية في أسفل درجات سلّم الإنسانية، وأي درك أسفل من التندّر على من ماتوا وهم في الرباط؟! لقد تخفف فعلا من أثقال يحملها كل من قرر أن يعيش إنسانا في هذا الزمان، فلا مشكلة لديه.

المشكلة الحقيقية عند من مثلنا، نحن من لا نقوى على الشهادة، ولم نستطع بعد أن نتصالح مع ما فسد من نفوسنا. نضرب بأيدينا الهواء بغية التحليق، فنجد أرجلنا ملتصقة بالأرض أثقلتها الحياة الدنيا وزينتها، فلم نعد نملك إلا اعتذارا للشهداء ودموعا نذرفها على أنفسنا.

***

اختار الله لهذه الثورة شهداءها، اختارهم ممن أرادت لهم الدولة التهميش فلم يرض لهم الله إلا متن المتن مكانا، هم الجماهير التي تهتف لنجوم المنصات، الذي تطردهم الصور خارج إطاراتها لأن "أشكالهم غلط" فهم لا يشبهون "الشباب الجميل بتاع خمسة وعشرين"، هم الذين طهّرهم الله حتى عن أسمائهم التي منحتها الدنيا لهم فصاروا معانى، صاروا خناجرا، طعنات تدمي القلب، خيالات يكشف طهرها عن دنسنا. اختار الله لهذه الثورة شهداءها ممن أراد لهم الجميع أن يموتوا أحياء، فأحياهم أمواتا

الشهداء هم الذين ماتوا ولم تظهر صورهم في الجرائد مع "الورد اللي فتح في جناين مصر" فهم على ما يبدو لا يشبهون الورود، هم ملح الأرض، هم الذين ليس لهم أصدقاء يضعون صورة صديقهم على صفحات الفيس بوك، وليس لهم أصدقاء ولا أهل يقيمون على أرواحهم صدقة جارية، بل ربما كانوا هم من ينفقون على أهليهم، الشهداء هم الذين تلتقطهم عدسات الكاميرات في الصفوف الأولى وهم يواجهون ولا يعرفهم أحد منا وكأنهم من عالم آخر، أتوا من السماء لأداء مهمة ما وهم في طريق عودتهم إليها مرة أخرى.

ليس الأمر أنهم ماتوا شهداء، بل الأمر أنهم عاشوا شهداء، ربما كانت تكفيهم – ليشعروا بالسعادة – أغنية شعبية مسجلة على هواتفهم المحمولة صينية الصنع يستمعون إليها بصوت عالٍ في المترو أو الأوتوبيس. ربما كانت تكفيهم نظرة إعجاب من فتاة بسيطة ترتدي عباءة شعبية حتى يشعرون بالفخر، ربما كانت تكفيهم نظرة رضا من أمهاتهم وهم في طريقهم إلى أعمالهم الشاقة. وحين رأوا الناس يموتون هرعوا لنجدتهم، تصدّروا الصفوف لم يبالِ أحدهم بأن يرتدي قناع غازٍ أو واقي للعينين، فالمفارقة أن من كان يرتدي تلك الأشياء فعلا ليسوا هم أهل الصفوف الأولى، وكأن الرسالة التي كانوا يريدون أن يوجهونا لجنود الأمن أننا أشجع منكم، نواجهكم دونما دروع. أما أنتم فلن تستطيعون أن تخلعوا دروعكم وتواجهوننا. لم تكن الحجارة هي ما يصيب جنود الأمن. بل ذلك الإصرار، وتلك العيون الحارقة، تلك العيون التي استفزّت رجال الأمن فصوّبوا نحوها هلعا من الشرر المتطاير منها.

حينما أجلس لأستمع لحوارات بعض النخب عن الخروج من الأزمة يضحك وسط دموعي ذلك الجزء الصغير منّي الذي يشبه الشهداء، يضحك سخرية، من الانفصال الذي يظهر بين من يسمّون مكانا ما باسم الوطن ويريدون أن يدافعوا عن حدوده، ومن يواجهون الموت ولسان حالهم يقول أنا الوطن، الوطن هو الإنسان وليس حدود المكان، الوطن هو الإنسان وليس حجارة البنيان.

الشهيد هو مجموعة من الاحتمالات، وهبها لنا – أمانة – حين مات. احتمال أن يحب فتاة ما يصونها وتصونه، احتمال أن تكون له ذرية، احتمال لبعض أنفاس الهواء يستنشقها، احتمال لطَرَقات بمطرقة ما في ورشة ما، احتمال لهدية عيد أم، احتمال لوجبة في حضن عائلة. وهبنا الشهيد تلك الاحتمالات أمانة فلم نصنها. أحببنا هوى وخديعة لم نبال بمن مات وترك بين أيدينا احتمال حب صادق، استنشقنا الهواء كأنه ملك لنا لم نبال بمن مات وترك بين أيدينا احتمال أنفاس تفصل بين الحياة والموت، نمنا على الوسائد لم نبال بمن مات وترك في أيدينا احتمال لعمل ما، آثرنا أنفسنا لم نبال بمن مات وترك في أيدينا احتمال اجتماع عائلي ما. لم نبال بشيء، بل جعلنا منهم مادة لصنع التقليعات، بل ومطية للشهرة حتى من بعض أهليهم، وبطاقة رابحة للمزايدة السياسية

***

لو كان الغني الشاكر خيرا من الفقير الصابر لماذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي؟! ولماذا قال: اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين؟!

وإن كان الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن فلماذا اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم – حين خُيّر – أن يكون عبدا رسولا ولم يختر أن يكون ملكا رسولا؟!




باسم زكريا السمرجي

28/11/2011

السبت، ٢٦ نوفمبر ٢٠١١

عن الاعتصام والانتخابات

بعض النقاط أوردها على عجل في مسألة الانتخابات المُفترض إقامتها غدا:

· اظهروا بعض الاحترام لدماء الشهداء، فهي أطهر من أن تُستخدم ورقة ضغط للمزايدة على خيار سياسي دون غيره. ومن يتهم غيره بأنه يتاجر بدماء الشهداء يكون هو المتاجر بها ليمرر خياره السياسي

· الثورة المصرية ثورة عفوية، ناس ضد مؤسسات دولة، والمؤسسات نظرا لبنيتها الهيكلية تستطيع التحرك دوما وفق استراتيجيات تبدأ من أعلى لأسفل، فالتخطيط يسبق الفعل ويوجّهه، بينما الناس الذين لا تجمعهم مؤسسة واحدة لا يمكن أن يكون فعلهم إلا فعلا عفويا يسبق التخطيط الاستراتيجي، مما يستوجب على المعنيين بالنظر إلى الصورة الكبيرة أن يتحلّوا بالمرونة اللازمة لتغيير الاستراتيجيات بناء على تغير معطيات الواقع

· انتصار الثورة الكامل الذي يمكّنها من فرض أجندتها السياسية مرهون باستجابة الطرف الثالث (عموم الشعب المصري) للثوار، لذلك لابد أن تُؤخذ تفضيلات وأولويات عموم الشعب في الحسبان دونما تعالٍ، والذهاب للانتخابات يأتي على أولويات عموم الشعب المصري ولا حاجة لادعاء غير ذلك.

· التحدي الرئيسي الذي يواجه اعتصام التحرير الآن هو الحفاظ على سقف المطالب، خاصة وأن حدة المواجهات قد خفتت وقد ابتلانا الله بقادة سياسيين لم يستطيعوا أن يكونوا على قدر اللحظة، وعجزوا عن توحيد كلمتهم وبلورة الصوت الشعبي في الميدان لمطالب سياسية يفاوضون عليها السلطة، وأخشى لما سبق أن يكون الزخم الشعبي حول الاعتصام في طريقه للانحسار. وأخشى أن تُستخدم الدعوة لمقاطعة الانتخابات إعلاميا لتشويه صورة الاعتصام والقضاء على البقية المؤيدة للاعتصام.

· غير أن التحديات التي تواجه الانتخابات كبيرة أيضا، منها تحديات قديمة تتعلق بقوانين وقواعد المعركة، وتحديات جديدة كمد التصويت ليكون على يومين لكل مرحلة بدلا من يوم واحد، والتحدي الأكبر الذي يواجه الانتخابات أيضا هو أن الشرعية القانونية ما زالت ملعب المجلس العسكري الذي يجرّنا إليه، والدخول إليه يتضمّن قناعة بقواعد اللعبة ومن وضعها.



بناء على كل ما سبق فأرى الآتي:

· كنت أتمنى أن تُجرى الانتخابات تحت إشراف سلطة مدنية، ولكنّ المعارك تُفرض علينا لا نفرضها نحن، وإلا ما صارت معاركا أصلا

· الذهاب للانتخابات هو الخيار السياسي الأقرب للصواب – في رأيي – مع وجوب التعامل مع تحدّياتها بتشكيل لجان شعبية تحمي الصناديق، وتُرسل رسالة مفادها أننا لا نطمئن إلى شرعية السلطة وقدرتها على حماية الانتخابات، فهي انتخاباتنا – انتخابات الشعب – وليست انتخابات السلطة

· الضرورة الأهم للانتخابات – في رأيي – ليس الإتيان بمجلس شعب شرعي منتخب، فكلنا يعرف أن الانتخابات أصلا كفكرة وفي أحسن الأحوال لا تأتي بالضرورة بمثل ذلك المجلس، فكيف بانتخابات تُجرى في ظل سلطة نبغي الخروج عليها؟! ولكن الضرورة الأهم للانتخابات هي إرسال رسالة تطمين لعموم الشعب المصري، الطرف الثالث المرهون نجاح ثورتنا بانضمامه إليه، رسالة تطمين وعدم تعالي على أولوياته ومطالبه، وأيضا إن فشلت تكون دليلا دامغا واضحا على تآكل شرعية المجلس بشكل كامل عند عموم الشعب

· مقاطعة الانتخابات قد يكون – في رأيي – ليس الخيار السياسي الصحيح لكنه خيار أخلاقي ثوري ضروري أيضا، لمواصلة مسار الحشد الراديكالي ضد السلطة

· في النهاية أرى أنه لابد من الاحتشاد للاعتصام في الميادين مع التصعيد على مستوى المجتمع المدني، ولابد أيضا أن تصل الرسالة إلى عموم الشعب أن ميدان التحرير سيذهب للانتخابات فهو لا يتعالى عليكم، لأن ميدان التحرير ليس جمهورية منفصلة أو دولة موازية أو دولة داخل الدولة

· إن تمت الانتخابات بنجاح يتم طرح أن تُشكّل حكومة من البرلمان تُمسك هي بزمام إدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية، وإن فشلت الانتخابات نعود لطرح فكرة المجلس الرئاسي المدني، أو حكومة الإنقاذ الوطني التي يكون لها صلاحيات رئيس الجمهورية

· كلمة للقوى السياسية (أعاننا الله عليهم) ........ كونوا على قدر اللحظة ولو لمرة واحدة



باسم زكريا السمرجي
26/11/2011

الخميس، ٢٤ نوفمبر ٢٠١١

عن الموجة الثانية من الثورة المصرية

بدون مقدمات سأحاول أن أسرد بعض الخواطر عن الموجة الثانية للثورة التي نشهدها الآن في نقاط محددة مُقسمة لأربعة أقسام – يمكن أن يُقرأ كل قسم منها منفصلا – القسم الأول عن الاختلاف بين الموجة الثانية والموجة الأولى للثورة، القسم الثاني عن الثورة الثانية وكيف يمكن – في رأيي – أن تُنجز ما قامت لأجله، القسم الثالث عن الانتخابات، القسم الرابع عن ملاحظات على الهامش

· عن الفارق بين الموجة الأولى والموجة الثانية للثورة

o كان ظاهر الموجة الأولى من الثورة يوتوبيا برّاقة في ميدان التحرير، حالة نشوة صوفية، مساحة حرة يعبر المصريون فيها عن أنفسهم بالأهازيج وبالنكات، يعانقون ضباط الجيش، ويلتقطون الصور بجوار الدبابات، كانت ثورة "الشباب الجميل"، شباب الطبقة المتوسطة العليا، ثورة سعى لجني ثمارها "القوى السياسية". بينما الموجة الثانية هي ثورة الشهداء بامتياز، هي ثورة إسقاط النخب والقوى السياسية، هي ثورة إسقاط كل الخطوط الحُمر إلا الشعب الخط الأحمر، هي ثورة ملح الأرض "سائقي الدراجات البخارية الرخيصة التي تم تصنيعها في الصين" وهم يستخدمونها كآلية إسعاف شعبي لنقل المصابين من الصفوف الأمامية لسيارات الإسعاف، هي ثورة التكتيكات الميدانية، والحيل الحربية. هي ثورة، بينما كانت الموجة الأولى كرنفالا والثورات لا الكرنفالات هي ما تصنع التغيير.

o بات واضحا لي أن الثورة لم تكن ثورة شعب على نظام فاسد سياسيا واقتصاديا فقط، بل إنها صراع بين منظومتين مختلفتين للقيم لجيلين مختلفين تمام الاختلاف، جيل من الكبار الذين يبالغون في التأني ويفضلون أكثر الطرق أمانا في الحياة، فالبحث عن الأمن على قمة أولوياتهم بم يتضمّنه ذلك من إعلاء لقيمة الاحترام على كل القيم، وجيل من الشباب المتعجل المُخاطِر، الذي لا يبالي بسلوك أكثر الطرق وعورة لنيل الحرية، فقيمة الحرية هي أعلى قيمة لدى هذا الجيل الشاب. وربما يكون هذا الفارق نتيجة الاختلاف بين الظروف المجتمعية لكل جيل، فجيل أبائنا الكبار أغلبه كان من موظفي الحكومة الذين لا يميلون للمخاطرة كثيرا، بينما جيلنا خرج للحياة فوجد الطرق كلها ضبابية ففُرضت عليه المخاطرة لنيل أبسط حاجاته الأساسية. يتضح هذا الانفصال أكثر ما يتضح في موقف شباب الإخوان والسلفيين من المشاركة في تلك الموجة الثانية من الثورة. فبرغم الموقف الرسمي لجماعة الإخوان وكثير من مشايخ السلفيين المتأرجح بين السكوت والرفض إلا أن كثيرا من شباب الإخوان خرجوا عن ذلك الموقف الرسمي وكانوا في الميدان، وبعضهم أعلن رفضا صريحا قاطعا لموقف الجماعة الرسمي. وأيضا نفس الأمر حدث من الإخوة السلفيين، وهو أمر – لو تعلمون قوة التنظيم في جماعة الإخوان وقدر مشايخ السلفيين في نفوس أتباعهم – عظيم

o على صعيد آخر فإن الثورة، وبخاصة الموجة الثانية منها هي مواجهة مباشرة مع الإرادة الأمريكية في المنطقة، فرأيي المتواضع الذي أقوله باختصار هو أن المؤسسة العسكرية لم تكن مجرد مؤسسة، بل كان أفراد الجيش – بم يحصلون عليه من امتيازات لهم ولأسرهم – يمثلون طبقة كاملة في المجتمع المصري، تم تهديد مصالح تلك الطبقة بصعود طبقة رجال الأعمال المحيطة بجمال مبارك، وكان هذا جليا في الأنباء المتواترة التي كانت تشيع عن عدم رضا المؤسسة العسكرية عن التوريث. ولما اندلعت الثورة وسقطت تماما الشرعية السياسية لحكم مبارك، كانت هذه هي الفرصة لأن تسترد المؤسسة العسكرية مكانتها، فاحتلت السلطة مُمثلة في المجلس الأعلى للقوات المُسلحة. ولسنا بحاجة لبيان أن المجلس العسكري كان جزءا من النظام بل ربما كان هو النظام نفسه، والخلاف كان مجرد خلاف على المصالح، ولما كان الأمر كذلك كان المجلس العسكري هو الضامن الأخير للحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة لذلك كان الضغط الشديد لتمرير وثيقة السلمي التي تُقيم الجيش حاميا "لمدنية" الدولة، بغية تقويض أي فرصة للشعب المصري أن ينتخب سلطة تعبر عن طموحاته وتطلعاته التي هي بالضرور ضد الانبطاح لأمريكا والتعاون مع إسرائيل.

· عن الموجة الثانية من الثورة

o أرى أن وضعنا الحالي ليس وضعا سياسيا بل هو وضع ما قبل سياسي، فخريطة الواقع وموازين القوى مازالت تتشكّل على الأرض، ولن ننتقل إلى مرحلة السياسة إلا بعد أن يهدأ ذلك التشكل وتستقر تلك الموازين على معادلة واضحة لتوازنات القوى، حينها يأتي وقت الحل السياسي. فمصر الآن في مرحلة مخاض وهي في طريقها لولادة نظام سياسي جديد يُبنى على معادلة جديدة لتوزيع القوى أفقيا بدلا من الأشكال الهرمية التقليدية لتوزيع السلطة. وأخشى أن التسرع لإطلاق مبادرات للحلول السياسية – مع تقديري لمطلقيها – قد يخنق تلك الولادة ويودي بنا إلى الحصول على جنين سياسي لم يتم نضجه

o الصراع الدائر الآن هو صراع بين شرعيتين، شرعية أخلاقية وشرعية قانونية رسمية. الشرعية الأخلاقية هي في ميدان التحرير وفي باقي الميادين، أما الشرعية الرسمية فهي ما زالت في يد المجلس العسكري. وما يحسم ذلك الصراع أن تتحول إحدى الشرعيتين لشرعية سياسية بأن ينضم الطرف الثالث (عموم الشعب) لأي منها، وكان ذلك ما استغرق عقودا في ظل نظام مبارك حتى تتحول الحركات الاحتجاجية لثورة، وقد نجح المجلس العسكري في أن يختصر تلك العقود إلى شهور، ففشل المجلس العسكري في إدارة المرحلة الانتقالية، بالإضافة إلى ثبات جيل يتمسك بأمله الأخير أعزلا أمام الرصاص، عجّل بشكل ملفت من تآكل شرعية المجلس العسكري في الشارع، فتراجُع تأييد المجلس العسكري في الشارع متسارع بشكل ملفت جدا، وبقليل من الثبات ستسقط تماما شرعية المجلس العسكري في الشارع وتتحول الشرعية السياسية للثورة تماما.

o المطلب الأساسي الآن هو إسقاط شرعية المجلس العسكري وهي سقطت تماما في الميدان وباقي ميادين الثورة، وتتراجع كما أسلفت في الشارع، والحديث الآن على آليات نقل تلك الشرعية ورغم عدم اقتناعي بجدوى المبادرات السياسية الآن إلا أنها مسارا موازٍ لابد أن يسلكه أهله، بشرط أن تكتسب تلك المبادرات شرعيتها من الميدان وباقي ميادين الثورة. وليس لي اعتراض على أو تفضيل لمبادرة بعينها، فكل المبادرات تقريبا تدور في فلك نقل صلاحيات إدارة المرحلة الانتقالية إلى سلطة مدنية، وحتى إن لم يكن نقل تلك الصلاحيات بشكل كامل فالحد الأدنى الذي أقبله هو نقل صلاحيات إدارة الانتخابات وكل ما يتعلق بتفاصيل المجلس التشريعي، وإن قال قائل أن تلك السلطة المدنية لن تكون منتخبة فسنقول بكل بساطة أن السلطة العسكرية أيضا ليست منتخبة، وإن قيل أن المجلس العسكري هو السلطة الشرعية بموجب الاستفتاء نقول أن المجلس العسكري لم يلتزم بالاستفتاء وفشل في إدارة المرحلة الانتقالية فسقطت شرعيته. فالحد الأدنى الذي أقبله كحل هو نقل صلاحيات إدارة كل ما يتعلق بالمجلس التشريعي لسلطة مدنية، مع التعجيل بإجراءات الانتخابات الرئاسية لتبدأ بالتوازي مع الانتخابات البرلمانية، على أن يظل الناس في الميادين حتى بداية إجراءات الانتخابات الرئاسية، فالسلطة لا يؤمن جانبها

· عن الانتخابات

o سأقاطع الانتخابات القادمة طالما ظل المجلس العسكري محتفظا بكامل صلاحياته فرأيي أن إجراء الانتخابات في ظل احتفاظ المجلس العسكري بصلاحياته بعد أن فقد شرعيته لن يؤدي إلا إلى ترميم شرعية المجلس العسكري، فلا أتصور كيف يمكن أن يظن واحد منّا أن المجلس العسكري – بعد أن تورّط أمام الشعب في تلك المذابح – سيسلّم صلاحيات لمجلس شعب تمكّنه من محاسبته. وما يقلقني ليس عملية التصويت، بل ما يتبعها من تفاصيل وتعقيدات قانونية قد يُغرقنا فيها المجلس العسكري فتزيد فرص المجلس العسكري للالتفات على الشرعية

· ملاحظات على الهامش

o عبثية جدا فكرة أن يُبنى جدار عازل بين المتظاهرين العزّل وقوات الأمن. أجهزة الدولة غير القادرة على ضبط سلوك أفراد أجهزتها النظامية هي أجهزة فقدت شرعيتها

o لست قلقا على مصر، فما يحدث في مصر الآن هو من أفضل ما يمكن أن يكون، فأخيرا وبعد قرنين من الزمان قام المجتمع المصري ليثور على دولة محمد علي المركزية المتسلّطة، استرداد لإنسانيته واستعادة لكرامته واستقلاليته

o سلمية الثورة لا تعني عدم رد العدوان، فالدفاع عن النفس حق مشروع

o من حق الثوار التظاهر والاعتصام حتى على أبواب وزارة الداخلية، وأول خطأ يقدم عليه الثوار ويستدعي الرد من قوات الأمن، هو إلقاء أول زجاجة مولوتوف داخل أسوار الوزارة

o بالأمس كنت أستقل "التوك توك" وجاورني فيه شاب يبدو عليه موظفا، كان يتحدث عن الاستقرار وضيق الرزق ولم يكن راضيا بشكل كبير عن الثورة، فرد عليه سائق التوك توك أن من في التحرير على حق، وأن المجلس العسكري لابد أن يرحل ويسّلم السلطة لسلطة مدنية. بعد أن وصلنا وبينما أهم بالنزول لمحت مقود التوك توك مُغطى بقناع الغاز

o في الصفوف الأولى في شارع محمد محمود، وجدت سلفيين يتلقون الرصاص والغاز ويقذفون قوات الأمن بالحجارة وهم يكبّرون، وشبابا آخرين يقذفون قوات الأمن بالحجارة وهم يسبونهم "خذ يا ابن ....." وشابا آخر ينادي: "يا مايكل هات لنا طوب يا مايكل"

o إن وأدتم حلم جيلنا فلتنتظر تلك البلد عقودا كثيرا حتى تُنجب الأمهات أمثالنا مرة أخرى



باسم زكريا السمرجي
24/11/2011