الاثنين، ١٨ يوليو ٢٠١١

الميدان ... ملك لنا

حتى الآن، التغيير الجذري الوحيد – والأهم – الذي أحدثته الثورة المصرية هو تغيير معادلة اتخاذ القرار في مصر، فقبل الثورة كانت أطراف معادلة اتخاذ القرار لا تخرج عن أسرة حاكمة، تأتمر بأوامر أمريكية إسرائيلية في قلب تلك المعادلة ومؤسسات أمنية وقوى معارضة سياسية مصنوعة تدور حول ذلك القلب، وغاب الشعب المصري مالك الوطن وموضع القرار، وصاحب المصلحة الحقيقي، من المعادلة، حيث كان يُختزل الشعب في مؤسسات تمثيلية نعرف جميعا حقيقتها وفي نُخب معارضة يسهل التلاعب بها – في الغالب – فهي نخب صنعها النظام على عينه. فكان الشعب مُرتهن بين مطرقة نظام قمعي وسندان نُخب تدّعي تمثيله ادعاء يقدح في حقيقته إما غياب الأهلية أو فساد الطوية.


ما حدث في الثورة المصرية هو أن الشعب المصري خرج معبرا عن نفسه، ثائرا على سلطة تقمعه ونخبة تدّعي تمثيله، فكان وجه الثورة الشعبوي البديع هو ضمانة استمرارها وصيانتها من التلاعب المخابراتي الذي كان يقوم به النظام باستخدام بعض النخب التي اعتاد أن يلعب معها مثل تلك اللعبة. ثم انتهت الموجة الأولى من الثورة بذلك الوجه الشعبي البديع لتعود النخب مرة أخرى تتصدر المشهد تمارس ما اعتادت على ممارسته. تفتعل خلافا أجوفا تتقاتل حوله لا علاقة له بالفعل ولا بالفكر. تختلق فزاعات مُتوهّمة ولكن الإلحاح عليها يجعلها تقوم بدورها كفزاعات حقيقية. رأينا هذا في الخلاف حول الاستفتاء على التعديلات الدستورية، رأينا هذا في الخلاف حول "الوثائق" ما فوق الدستورية، رأينا هذا في شيطنة السلفيين والإخوان، رأينا هذا في العلاقة مع المجلس العسكري نفاقا وهجوما لا علاقة لهما بالموضوعية.


والخطر في تلك الممارسات النخبوية لا يكمن في أن الشعب سيتراجع عن ممارسة دوره في عملية صناعة القرار، بالعكس فهذه هي نقطة اللارجوع التي وصل لها الشعب. غير أن الخطورة تكمن في أن الشعب – حين تختفي من أمامه المظلة الوطنية الجامعة – ستمارس كل مجموعة دورها في صناعة القرار في نطاق نفوذها وفي مجتمعها الفرعي مستقلة عن الوطن كمظلة جامعة ومقصد لتحقق الإرادة. وإن ما يقف بيننا وبين تحقق ذلك الخطر هو – في رأيي – اعتصام التحرير الذي أهم ما يميزه عدم وضوح المطالب مما يؤكد على شعبويته وانحسار دور الساسة فيه.

إن اعتصام التحرير – الخطوة التي تلحق السويس دوما – هو الضامن لتخفيف الضغط عن السويس وهو الضامن لتحفيز باقي الشعب المصري وتذكيره بفكرة "بالوطن" القائمة على التضحية أصلا. ولا أتجاوز إن قلت أن نجاح اعتصام التحرير هو الضامن لاستمرار الثورات العربية ونجاحها كما يقول أصحاب تلك الثورات أنفسهم.


إن اعتصام التحرير بوجهه الشعبوي هو الضامن أن الشعب المصري قادرٌ على تطوير ممارسته لإرادته في إطار الوطن، تلك الممارسة التي تنضج مع الوقت وتعدّل أخطائها تلقائيا، ولمن ينكر على المعتصمين تعطيل مصالح الناس أو إغلاق مجمع التحرير وما إلى ذلك أقول أن الوطن مُقدّم على الدولة وإنفاذ القصاص – ليس وفاء للشهداء ولكن تحقيقا للعدل الذي هو من مقاصد الحياة على أقل تقدير – مُقدّم على إنجاز إجراءات جواز سفر أحد المواطنين، وأقول إن عجلة الإنتاج – التي هي أصلا متراخية – لا جدوى من دورانها في أرض لا أمتلكها وإن أرضا لا يُنتصر فيها للمظلوم ولا يؤخذ فيها على يد الظالم أرض لا يمتلكها إلا من عطّل إنفاذ العدل.


ولمن ينكر على الثوار ثورتهم ويدعوهم إلى التهدئة والثقة في السلطة أقول أنني وبصفة شخصية لا مبرر لي لأن أثق في سلطة لم أخترها بنفسي، إنني حتى حين أختار سلطة سوف أستمر في مراقبتها، فكيف بسلطة لم أخترها أصلا، سأظل أراقب عليها وأضغط عليها بكل أنواع الضغط وأخطيء في الوسائل ثم أعدل المسار كجزء من رحلة تعلم ممارسة الإرادة.


لن أناشد القوى السياسية أن تحافظ على وحدة صفها ولن أناشدهم أن ينضموا لجموع الشعب فهذا من المعلوم من الثورة بالضرورة وهم ينكرونه إما عقيدة أو ممارسة، فلا أرى فيهم إلا امتدادا لاستبداد نظام المخلوع الذي وإن اتخذ أشكال أخرى، فالرابط بين كل تلك الأشكال هو غياب الثقة في قدرة الشعب على الاختيار، فنظام المخلوع كان يقول أن الشعب المصري غير مؤهل للديمقراطية وأنه وغير ناضج بما يكفي للاختيار ونتذكر جميعا "أوف كورس ... بط هوين" التي أجاب بها اللواء عمر سليمان نائب الرئيس المخلوع على كريستيان أمانبور حينما سألته عن الديمقراطية، تحول ذلك الشكل من انعدام الثقة إلى أن المصريين صوّتوا بنعم في الاستفتاء على التعديلات الدستورية لجهلهم ولعدم أهليتهم للاختيار ولسهولة التلاعب بهم مما سمح للمتاجرين بالدين أن يوجهوهم، ثم تحوّل أيضا من طرف – المدافعين عن الشرعية الشعبية – إلى اتهام المعتصمين والثوار بأنهم يتم التلاعب بهم لتحقيق المشروع الأمريكي للانقلاب على الشرعية الشعبية، فما الفرق بين نظام مبارك والنخب الحالية؟ وما الفارق بين الداعية السلفي الذي قال بأن الشعب لا يجوز أن يختار مرشحا بشكل مباشر بل لابد أن يُعرض المرشحون أولا على أهل الحل والعقد "الناس اللي بيفهموا في البلد" حتى تتم عملية تنقية المرشحين قبل عرضهم على الشعب، هل يختلف ذلك الداعية عن فقهاء القانون الذين قالوا أن الأمّي لابد أن يكون صوته في أي عملية تصويتية بنصف صوت؟ تعددت اللغات والكبر واحد.


لن أناشد القوى السياسية، لن أناشد سوى الشعب المصري في عمومه، أنا غير موافق على كل ما يحدث في الميدان وأعلم أن كثير منا كذلك ولكن الميدان ملك لنا جميعا وإن حدث فيه ما يخالف ما نحب فهو يحدث لأننا غبنا عنه، فلنعد إليه جميعا كتفا بكتف ويدا بيد نتعلم جميعا كيف نكون شعبا نمتلك وطنا، نمارس عليه ملكيتنا له وإرادتنا لإصلاحه، نحتوى بعضنا البعض، نتسامح مع اختلافاتنا ونتقوى بها، نراقب أنفسنا ونتعلم من بعضنا، شعبا عظيما يمتلك وطنا عظيما يمتلكه.




باسم زكريا السمرجي
باحث بمركز المربع للدراسات الإنسانية والاستراتيجية
17/7/2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق