الجمعة، ٢٢ يوليو ٢٠١١

في النقد الذاتي: المفكرون بين رفاهية المثالية وتحقيق الاستخلاف

بسم الله الرحمن الرحيم.

أكتب ما أكتب اليوم ما يمكن أن يُصنّف كنوع من أنواع النقد الذاتي اللاذع. وقبل أن أكتب أود أن أوضح أنني من الممكن أن أفقد جزءا كبيرا من علاقاتي الاجتماعية بسبب أن البعض لم يعتد أن يتعامل مع النقد والنقد اللاذع ولكنني لن أكون أكرم على الله من أبي الأنبياء إبراهيم عليه أفضل الصلاة والسلام حينما كسّر أصنام قومه ثم حين يأس منهم اعتزلهم وما يعبدون وهاجر إلى ربه لا زاد له إلا إيمانه، وحسبي فيما سأقول أنني لا أقصد نقدا لأشخاص فإني أنزّه نفسي عن الارتباط "بالأشخاص" هجوما أو دفاعا، وإنما نقدي لبعض تصرفات وسلوكيات أشخاص أحترمهم وأختلف معهم وأرفض بعض تصرفاتهم وبعض سلوكياتهم، ولست ممن ينكرون المركّب الذاتي في الفعل أو السلوك أيضا ولكني فقط أتساءل من أكون أنا حتى أحكم على إنسان لا أعرف عنه إلا بعض ما ظهر من أفعاله؟ فالحكم على الأشخاص حكما كليا هو أمر خارج قدرة الخلق ولا يقدر عليه إلا خالق الخلق سبحانه.

إذا تناولنا وظيفة المفكر في التصور الإسلامي فلن نستطيع أن نتناولها بعيدا عن مفهومين يبدوان متضادين، المفهوم الأول هو مفهوم الاستخلاف وعمارة الأرض والمفهوم الثاني هو تأقيت الوجود في الأرض، بل وتأقيت وجود الأرض ذاتها، تأقيتا يُسقط أي تصور عن إمكانية تحقق "اليوتوبيا" أو "الفردوس الأرضي". هذان المفهومان الذان يبدوان متضادين – وهما ليسا كذلك –يحتمان على المفكر أن يكون دوره وسطا بين نقيضين، بين قعود عن العمل، وبين تعلق بنتائجه، ذلك التوسط يجعل من السعي الدائم للإصلاح، دون التعلق بالنتائج، هو الغاية. أما الوصول فلا يكون إلا في حياة أخرى. لذلك قال الله تعالى "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" اليقين الذي فسّره العلماء بالموت، والعبادة التي نفهمها بالمفهوم الشامل في إطار قوله تعالى " قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "قرآنا يمشي على قدمين"، ولذلك أيضا عندما امتدح الله رسوله – عليه الصلاة والسلام – قال تعالى " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" وذلك "الخلق" العظيم ليس إلا نتيجة تمثل فلسفة التوحيد والتحقق بها تحققا انطبع على خلق النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ذكر الله لخلق النبي عليه الصلاة والسلام رسالة لنا لأن نعلم أن وظيفة الأفكار إصلاح الأخلاق ومن ثم الأفعال.

ما أشير إليه هنا هو انقلاب بعض المنتسبين إلى الفكر الإسلامي على ما تقدم واكتفاؤهم بالتمركز حول أفكارهم وتكلف العناية بصياغتها حتى يصيبهم التكلس المانع من الحركة، ويظنون ظنا – لا أدري ما مصدره – أن معركتهم في الكتب بينما معركة العوام في الشارع. ولأن الشارع – الذي هم منفصلون عنه – هو مناط اختبار أفكارهم وأطروحاتهم، تكون تلك الأفكار منفصلة تمام الانفصال عن الواقع المجتمعي، فيغيب أصحابها في عزلة شعورية عن المجتمع، ليس ذلك فحسب، بل في بعض الأحيان لا يستطيعون تمثّل ما يدعون إليه فيقعوا في عزلة شعورية عن ذواتهم. وتصير مهمتهم في الحياة لا أن يعمّروا الأرض ولكن أن يشاهدوها من شباك القطار، ساخطين على كل شيء، دون تقديم أي بديل أو محاولة لإصلاح أي شيء، هؤلاء – في رأيي – لا يختلفون عن المثقفين العدميين العبثيين إلا في اللغة. لديهم رفاهية المثالية في التنظير، فهم غير مرتبطين بإصلاح واقع ما (صحيح أن فكرة الاتصال التاريخي وفكرة "علم ينتفع به" يُخلّفه المرء بعد وفاته فكرة وجيهة ولكن حكمة الله التي اقتضت أن يولد شخص ما في زمان ومكان معينين تقتضي أولا أن يكون إعمار الأرض في ذلك الزمان وذلك المكان مناط تكليفه، فإن استفرغ الوسع ونفذت منه الأسباب فليختر الهجرة المكانية أو العزلة الشعورية) غير أن انفصالهم عن الواقع وانغماسهم في التنظير انغماسا يتيح لهم رفاهية الحلم بالمثالية حلما مُعجزا لهم ولمجتمعهم، يُعجزهم عن الحركة. ولن أقول أنه من السهل مقاومة "رفاهية المثالية" وألعاب الصياغة اللفظية للأفكار تلك أو أنني استطعت تجاوزها ولكني أرْجِع الفضل في ذلك إلى اثنين أولهما هو أستاذي د. المصطفى حجازي الفيلسوف والمفكر الاستراتيجي الذي حين ناقشته في هذا الأمر قال لي كلمتين خفيفتين المبنى ثقيلتين المعنى، قال لي إن أعمق وأعظم فلسفة هي فلسفة التوحيد التي أرسل الله بها رسله، وهي لم تكن فلسفة نظرية بل كانت فلسفة تطبيقية تسير على الأرض. وثانيهما هو د. أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية التركي الذي أذهلتني قدرته على التعامل مع مخزونه الحضاري "القديم" – وهو يُعرّف "القديم" بأنه المتجاوز للزمن أصلا، الذي ليس له نقطة بداية – أذهلتني قدرته على الانطلاق من ذلك "القديم" إلى الواقع "الجديد" وتكييف الواقع ليتوافق مع "القديم" بأكبر درجة ممكنة.

ما دفعني إلى ذلك الحديث هو تراكم أكمل حلقاته تصريح للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية في مصر حيث قال كلاما معناه "أنه محافظ ليبرالي يميل إلى اليسار" فكان ذلك التصريح غنيمة للذين يفتشون عن فرص يومية للجدل فانبرى الجميع يعلّق على تلك الجملة ويرد على الرجل "واللي يتشدد له" على الفايس بوك. وفيما يلي أمثلة من ردود أصدقاء أحترمهم


الأخت أميرة محمد: عبدالمنعم أبو الفتوح : أنا محافظ ليبرالي أميل لليسار ،،، ده علي اتجاه القبلة طريق إسكندرية كده علي ما أعتقد


الأخ أحمد عبد الفتاح: بمناسبة عبد المنعم أبو الفتوح: قعدنا نقول سقوط الأيديولوجيا سقوط الأيديولوجيا لحد ما الأيديولوجيا دعت علينا دعوة ولية ف ساعة مغربية وربنا تقبل وقالنا خدوا .. وهتعدي علينا أيام نترحم فيها ع الأيديولوجيا ونقول ولا يوم من أيامك.. احنا أسفييييييييين يا أيديولوجيا


الأخ عبد الرحمن أبو ذكري (ردا على الأخت أميرة): أنا مُحافظ ليبرالي أميل إلى اليسار قليلاً، وذلك لأني ماركسي لينيني مُلتزم بالإسلام وبالقوميّة العضويّة للفولك المصري، وعلى هامش ذلك فأنا لا أستطيع التخلّي عن ميلي لليمين المتطرّف وليبراليتي المحافظة؛ مُحافظة القاهرة طبعاً وليس مُحافظة الإسكندريّة كما أرجفت اﻷخت أميرة محمد محمد محمد سامحها الله! باختصار أنا مُسلم مُشرك مُتأمرك شيوعي، فليس ألذ من اﻷكل على كُلّ الموائد، أنا المتطفّل، انتخبوا المتطفّل منزوع القيم!


الأخ عبد الرحمن أبو ذكري (ردا على رسالة خاصة من د. هبة رؤوف): تكرمت الدكتورة هبة رؤوف مشكورة بإرسال الرسالة التالية لشخصي المتواضع، تعليقاً على الحالة التي كتبتها على صفحتي باﻷمس، وظهرت على صفحة اﻷخت أميرة: "السلام عليكم. تعليقك على تصريح أبو الفتوح عند اميرة يحتاج منك مراجعة. خشيت عليك منه حين يوضع الميزان. تحياتي". وتعليقي هو: التصريح نُسب إليه، والحالة المكتوبة هي ردّاً على الخبر، وليس ردّاً على المرشح المحتمل. والدكتورة تعرف اكثر منا الفارق بين الخبر المنسوب لشخص، وما يقوله هو علناً، وبين الرد على كلامه، والرد على خبر منسوب له. فضلاً عن أني لم أذكر "اﻷخ" المرشح المحتمل بالاسم، ولا حتى بالإشارة، وكان الكلام على لساني أولاً وأخيرا، ولمن شاء الرجوع للحالة التي كتبتها أمس. فلماذا تُفتّش في النوايا وتُحوّل الموضوع لاختصام شرعي بشكل "لطيف"؟ وما دامت المسألة سياسية/إجرائية بحتة بعيداً عن "المحاسبة الفقهية" كما تكرمت هي في تعليقاتها عند اﻷخت أميرة محمد محمد محمد، فلماذا حولته -بشكل لطيف- إلى مُحاسبة أخروية في حالة تعليقي؟ ولماذا هذا التناقُض؟ هل لأن هذا التصريح الصحفي -أياً كان مصدره- سقطة لا يمكن تغطيتها إلا بالتهديد بالسلطة الشرعية الأخروية، أو بليّ أعناق المصطلحات والعبث في مدلولاتها التاريخية لتحمل المعاني المرادة عسفاً وقهرا؟؟!! أنا أفهم أن الدكتور المرشح المحتمل، وحتى السيدة الفاضلة الدكتورة هما من الشخصيات العامة، وهما قطعاً يعرفان أن من ارتضى العمل العام فيجب عليه تحمل لأواؤه، فلم هذه الحساسية المفرطة تجاه النقد؟؟! وإذا كانت الدكتورة الكريمة تُصنف نفسها، بأنها تتموقع بين الاشتراكية واللاسلطوية، فإن جاء مثلي ناقداً مُتعللاً بأن الاشتراكية طوباوية مُعادية للإنسان بطبيعتها، وأن اللاسلطوية لا ترفض السلطة السياسية أو "الإكليريكية" فحسب، بل ترفض فكرة المركز أصلاً، فهل ستعتبر الدكتورة هذا نيلاً من مكانتها قد يُعاقبني عليه المولى عز وجل يوم القيامة؟؟؟!! أم ستتأول لنفسها باشتراكية غير الاشتراكية التي نعرفها، وأناركية غير اﻷناركية التي نعرفها؟؟


وفي ثنايا التعليقات تجد أحد الشباب العشريني الذي لا تتعدى خبرته في الحياة المائة كتاب التي قرأها وبعض الامتحانات الجامعية أو الأنشطة الطلابية يرد على من يحاول أن يتأول للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح فيقول أن هذا التفسير أكبر بكثير من عبد المنعم أبو الفتوح ويرد عشريني آخر يقول ساخرا "هو أبو الفتوح بيعرف ينظّر ... ماكنش ده هيبقا حاله"


أنا قد أختلف مع الدكتور أبو الفتوح في تصريحه، فأنا أريد تجاوز التصنيفات جميعها، غير أني لا أجده تصريحا كارثيا باع الرجل فيه مبادءه أو شيئا من هذا القبيل، لكني أرفض التطاول وأرفض الخوض في النوايا وأرفض أن يُنصّب أحد نفسه القيّم على الحقيقة المطلقة خصوصا إن كان يفتقد الخبرة الحياتية اللازمة لذلك.


أما بالنسبة لكلام د. أبو الفتوح فهو يتحدث في مجتمع لم تفلح محاولات أدلجته أصلا فلم تدخله أيدولوجيا وتبقى فيه كما دخلت فالاشتراكية المصرية "الشعبية" – التي يقبلها الشعب وليس النخبة – ليست الاشتراكية الطوباوية الحلولية الـ.... الـ.....، هي فقط العدالة الاجتماعية، والليبرالية المصرية "الشعبية" هي التحرر المحافظ واقتصاد السوق الحر الملتزم. فالأمر أهون من بيع المبادئ وإبرام الصفقات وما إلى ذلك، بل على العكس أنتم من وضعتم الإسلام في مقابل الأيدولوجيات وكأنه في مقارنة معها لا قيما عليها كلها


نسأل الله العافية والهداية والتوفيق



باسم زكريا

22/7/2011

باحث بمركز المربع للدراسات الإنسانية والاستراتيجية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق