الثلاثاء، ٢١ سبتمبر ٢٠١٠

الدعاة الجدد بين تسليع الدين وتغريبه

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

أما بعد ،


فلقد تناولت في مقال سابق بإيجاز خلافي مع الوهابية وتأثيرهم على المجتمع المصري. واليوم أتناول بإيجاز أيضا بعضا من خلافي مع تيار آخر من تيارات الدعوة الإسلامية وهو تيار دعاة الحداثة والتجديد في الخطاب الديني، الذين كان ظهورهم وانتشارهم في رأيي استجابة لحاجة للدين عند فئات معينة في المجتمع المصري لم تسدها أفكار دعاة الوهابية؛ فتلك الفئات كانت بحاجة إلى أفكار أكثر مرونة تأتي بالدين "الجينز" إليهم لا تدعوهم إلى الهجرة إلى "جلباب" الدين.

أولا – وقبل الدخول في تفاصيل الموضوع – أود أن أؤكد أني أقر أن في كل تيارات الفكر الإسلامي خير كثير، ومن الإنصاف ألا نتغافل عن ذلك إما بدافع الكره أو الحب، وهذا للأسف ما وقعت فيه حين تكلمت عن الوهابية في المقال السابق وأحب أن أتداركه الآن فأقول أن أفكار الوهابية – وإن كانت لا تــُـصلح الأمة – فهي الطريق الآمن للنجاة الفردية فلا أيسر من أن يشغل المرء نفسه لا بشئ سوى بإصلاح وضوئه وصلاته وصيامه واتباع أحد الآراء المعتبرة دون الدخول في معمعة الأهداف الكبرى من إصلاح ونهضة الأمة وما إلى ذلك. كذلك فإن الدعاة الجدد ما يحسب لهم أنهم غيروا صورة الداعية التي ثبتت في أذهان كثير من الناس، فنزعوا عنه العباءة واللحية وصار الداعية رجلا عاديا يلبس ما يلبسه الناس ويتحدث بلسانهم وهم بذلك أوصلوا الدين إلى فئات من المجتمع لم يكن ليصلها بدونهم.

أما إن تناولنا تلك الدعوة التجديدية بقدر أعمق من التحليل سنجد بعض الملاحظات أهمها أن أغلبهم – إن لم يكن جميعهم – لم يتربوا منذ الصغر تربية "الكتاتيب" ليكونوا دعاة أو علماء، إنما طرأ عليهم الاتجاه إلى مجال الدعوة وهم في شبابهم فانتقلوا إليه يحملون خلفياتهم العملية والعلمية والتربوية والتي – في الغالب – تتمحور حول التجارة و إدارة الأعمال فكان تناولهم للدين كتناولهم للسلعة التي يحاولون تسويقها في أوساط الناس، وهذا المفهوم بدلا من أن يحض الناس على أن يرتقوا في سلم التزكية هبط بالدين من علياء قداسته وأحاطه بكثير مما ليس فيه بحجة تأليف القلوب (الزبون عايز كده) فصار محور الدعوة الفرد/الزبون ورضائه عن الدين بدلا من أن يكون محور الدعوة هو الدين ومدى اتساق ممارسات ذلك الفرد مع تعاليمه. وإن كان تسليع الدين – أي تحويله إلى سلعة – أول العناوين الرئيسية التي سأتحدث عنها اليوم سنجد متفرعا منه بعض العناوين الفرعية التي يستوجبها تطبيق مبدأ "الزبون دايما على حق"

أول تلك العناوين الحب. وهو عنوان له جاذبيته "التجارية" ولذلك نرى أن كثيرا من أفكار برامجهم التليفزيونية وأسمائها تدور حول الحب "قصة حب" و "مدرسة الحب" وما إلى ذلك. والمعاني السامية كالحب حين يتم حوسلتها – أي تحويلها لوسيلة – لجذب الجمهور يتم ابتذالها وإفقادها مصداقيتها وإفراغها من مضمونها بل – نتيجة تلك الحوسلة – يبلى تأثير ذلك المعنى كمن يسرف في ارتداء زيه المميز حتى يفقد تميزه بل ويصير معيوبا أيضا، فنحن نجد الآن من يتحدث عن رومانسية النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقصة حبه والسيدة عائشة رضى الله عنها بطريقة لا يقبلها صاحب نخوة. و نجد أيضا من يتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وكيف أنه بدأ دعوته في غار حراء الذي يشبه "الحضن" وانتهت حياته صلى الله عليه وسلم في "حضن" السيدة عائشة رضي الله عنها وهكذا تصير الرسالة رحلة في "أحضان الحبايب".

عنوان فرعي آخر وهو دائم الرواج في جميع لعصور لاعتماده على مخاطبة مشاعر الجماهير التي تتعلق دائما بالغيبيات والروحانيات وذلك العنوان هو الصوفية وأنا لا أقصد هنا الصوفية التي هي الزهد في مظاهر الدنيا والتعلق بالله وحده عز وجل والسعي من أجل الآخرة وهو نهج السلف الصالح جميعهم وإمامهم وقائدهم رسول الله محمد – صلى الله عليه وسلم –

إن الصوفية التي أقصدها هي الصوفية السلبية التي ترضي الأمريكان عنا – ولقد قرأنا في إحدى الجرائد منذ شهر تقريبا عن اجتماع بين سكرتير السفارة الأمريكية بالقاهرة ومشايخ الطرق الصوفية وجاء فيه عن سكرتير السفارة أن نموذج الإسلام الصوفي يمثل الإسلام المقبول والمرحب به في الولايات المتحدة لكونه إسلاما وسطيا ومعتدلا – الصوفية التي أقصدها هي الصوفية التي اعتزلت الحياة والسياسة وانفصلت عن الواقع وخلقت واقعا افتراضيا مَنشؤه بعض شظايا عقيدة وحدة الوجود التي – بإيجاز – هي الإيمان بأن الله موجود في كل شئ في الكون وهو ليس منفصل عن خلقه مما يؤدي إلى نبذ فكرة ثنائية الخير والشر وتحويلها إلى أحادية فالله في كل شئ فكل شئ خير حتى وإن كان ظاهره شر ففي داخله يخفي الله. أنا لا أقول أن دعاة الحداثة من المؤمنين بعقيدة وحدة الوجود فلم يصرح أحد منهم بذلك ولكن دعاواهم فيها كثير من التأثر ببعض شظايا تلك العقيدة وهي باستبعادها لثنائية الخير والشر تبطل دوافع مقاومة الشر – الذي لا يوجد أصلا – بل إنها تدعو إلى التصالح معه.

أما العنون الفرعي الآخر فهو حديث شريف للنبي صلى الله عليه وسلم وهو " الدين يسر" وللأسف استخدمه إخواننا الدعاة في غير موضعه. فبعدما شحنوا الشباب بطاقات دينية كبيرة، وحينما أرادوا الإفراج عن تلك الطاقات تحايلوا على أولويات الأمة والمجتمع واتجهوا للإفراج عن تلك الطاقات في الأعمال التنموية التي تتركز في الغالب على التنمية الاقتصادية والتنمية الذاتية بدلا من الأعمال النهضوية التي تشمل أمور الدين والدنيا جميعها من عبادات وفكر وثقافة وسياسة واقتصاد...إلخ. وللأسف قنع الشباب بأن ما يقومون به هو طريق النهضة الحقيقية وهي ليست إلا نهضة منزوعة الدسم.

أمر آخر يأتي مع "تيسير الدين" وهو كيفية التعامل مع النية التي هي مناط صحة الأعمال جميعها في الإسلام فهم يستخفون بالنية ويتعاملون معها بطريقة برامج الأطفال "هيا بنا نلعب". وفي مسألة النية الحسنة يقول الدكتور محمد راتب النابلسي: "لا تكون تقليدا وهي محصلة معرفة الله، محصلة طاعته محصلة جهاد النفس والهوى محصلة الالتزام بأمره محصلة كل أعماله تتوجها هذه النية الحسنة أما أن نقلد نية حسنة ونحن لا نملك مقوماتها هذا شئ مستحيل"

العنوان الرئيسي الآخر غير تسليع الدين هو تغريب الدين أي محاولة المواءمة بين تعاليم ومظاهر الدين الإسلامي وبين "قيم" ومظاهر الحياة الغربية المتأثرة بحلقات متتالية العلمانية الشاملة. ولعلنا إن رجعنا إلى خلفيات الدعاة – الذين اضطلعوا بهذه الدعوة – التربوية والعلمية والعملية مرة أخرى نجد المسوغ لهذا المنهج وهذه المحاولات للتقريب بين الحياة الإسلامية والحياة الغربية ، فأغلبهم أو جميعهم من الذين تلقوا تعليما أجنبيا لسنوات طوال ومن المنطقي أن يتأثروا بهذا التعليم في دعوتهم.

وكحركة وقائية – حتى لا أتهم بمعاداة الغرب وبث رسائل الكراهية – سأقتبس عبارة من مقال سابق لي بعنوان حرية أم تحرير وهي " أود أن أوضح أنني لست ضد الأخذ من الغرب ولكني ضد التقليد الأعمى فما أتي بثماره في مكان ما ووقت ما، ليس بالضرورة مثمرا في مكان آخر ووقت آخر. كم أنني ضد أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون. فنحن لا نسير – ولا يجوز أن نسيرعلى نفس طريق الغرب ولكن طرقنا تتقاطع في بعض النقاط وتلك هي نقاط التعاون المثمر وتبادل الخبرات المفيد للطرفين" وللأس فقد اتخذت كثيرا من الدعاوى للتقريب بين الحياة الإسلامية و الحياة الغربية الحياة الغربية مرجعا لها ، فصرنا نأخذ من الغرب ثم نبحث عن المسوغات الإسلامية لما أخذنا بحيث يصير ما أخذنا له صورة إسلامية ترضينا وترضي الغرب في المقام الأول وهكذا صار الغرب نقطة الانطلاق لتلك الدعاوى مما يؤدي إلى فقدان الهوية ومسخها كما نرى الآن.

والإسلام دين احتوائي ليس له هوية فهو أكبر من كل الهويات ورسول الله صلى عليه وسلم وإن كان عربيا بعثه الله في العرب منهم وبلسانهم إلا أنه "رحمة للعالمين" وأرسله الله "للناس كافة" إلا أنه في نفس الوقت يدعو لاحترام اختلاف الثقافات المختلفة والهويات المختلفة طالما ستظل في حدود الديانة ولن تخرج عنها ومن الواجب علينا نحن العرب أن ندرك ذلك ونجعل نقطة انطلاقنا هي هويتنا العربية ولا نزدري الثقافات والهويات الأخرى أيضا.

**************

إن هؤلاء الدعاة وأولئك الوهابيين – على ما بينهم من البون الشاسع في المناهج – ففكريا هما استجابة "لقيم" ما بعد الحداثة ولمنظومة العلمانية الشاملة التي تجتاح العالم الآن فالأولون اختاروا أن يوائموا بين الدين وبين تلك القيم والآخرون اختاروا أن يعتزلوا بالدين كل ذلك ويعودوا به إلى العصور الماضية. فالاثنان يتفقان في أنهما ردة فعل لما هو كائن اتخذا من الغرب مرجعا لنموذجهم الفكري والمعرفي ومقياسا له بدلا من أن ينطلق من تعاليم الدين نفسه وقيمه الأصيلة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والله أعلم

باسم زكريا السمرجي

21/9/2010