الأربعاء، ٢٢ ديسمبر ٢٠١٠

الشريط - مقال تميم البرغوثي في الشروق يوم الثلاثاء 21/12/2010


بقلم:تميم البرغوثى

21 ديسمبر 2010 10:02:43 ص بتوقيت القاهرة

تعليقات: 4

الشريـط

أراه دائما، وإن تعمدت أن نسيانه ذكرنى به تعمدى، وإن صددت عنه وجهى تخيلته أمامى، وهو ليس عدوا علا أو حبيبا قلى أو رئيسا يحب الصور والنظارات الشمسية، إنما هو شاشة رفيعة على شكل شريط يدور على مبنى كبير وسط ميدان التايم فى مدينة نيويورك.

هو شريط أخبار، تمر على شاشته الأخبار مضيئة ثم تنطفئ، كذلك الشريط الذى تراه فى الفضائيات أسفل الشاشة، يمر وعليه عناوين الأحداث.

وقد تسأل لماذا يحتل خيالى هذا الشريط فى مدينة مليئة بالألوان والأصوات تَجَمَّع فيها كل لسن وأمة، وما الذى يثنى مثلى عن التملى فى تمثال قارورة الكولا العملاقة، أو ساعة سواتش العملاقة، أو الفتاة العملاقة التى تعلن عن ملابسها وتعلن ملابسها عنها، إلى غيرها من عماليق الميدان المضاءة الدوارة كالرادارات على رؤوس الأبنية.

أقول ما الذى يشد انتباهى إلى هذا الهامش الأفقى الأسود ذى الأحرف الصفراء الركاضة بلا توقف، فأقف أمامه عير مدرك موقع قدمى حتى ينبهنى أحدهم أننى واقف فى طريق السيارات.

إن موقع هذا الشريط الهامشى الضئيل دال، هو موقع الأخبار من الإعلانات، وموقع العالم من البال العام والخيال الجمعى للإمبراطورية وربما مر فى هذا الشريط، بين العمالقة المضيئة، خبر مقتل خمسة فلسطينيين، أو خمسين عراقيا، أو انقلاب فى هذا البلد أو ذاك.

نحن هامش هذا المكان، بل نحن هامش هامشه، وحين نكون فى المقدمة فنحن فى مقدمة لائحة اتهام ما.

كلما مررت بهذا الشريط الذى يختصر تواريخنا العامة والخاصة فى لمحة، فكرت أن أكبر كبير عندنا لا يعنى هنا الكثير، فلو أتيت بكرام الخلائف والإئمة والسلاطين والشعراء إلى هذا الميدان لعاملوهم أساسا على أنهم رجال غريبو الأزياء والأطوار، ثم انصرفوا عنهم إلى إعلاناتهم العملاقة.

وإن أنت جمعت الراشدين، والأمويين والعباسيين والصحابة والأئمة، والشعراء والكتاب والمغنين من عهد عاد إلى يوم الناس هذا، ثم أوقفت دونهم دليلا يشرح للناس من هم، لاجتمع عليك، ربما، عدد مساو لمن اجتمعوا على فتية سمر يرقصون الراب، أو مجموعة من الدعاة يلبسون تيجان من الورق الأصفر ويزعمون أنهم القبيلة الضائعة من أولاد يعقوب بن إسحاق.

وليس هذا فى حد ذاته مؤلما، فأن تكون غريبا هو أن تكون ضعيفا، خارج المتن فى أكثر الأحيان، لكن المؤلم فى الأمر، هو مركزية الولايات المتحدة عندنا على علاتها، فالناس عندنا منقسمون بين مقاوميها والمتعاونين معها تعتمد حياتهم وحياة بنيهم على ذلك، أما بين الجموع المارة فى ميدان التايم فنحن المارون فى الشريط لمحا، مواقفهم منا تتراوح بين مساند ومعاند، لكننا لسنا قضيتهم، إن أحبوا أو كرهوا فلأنهم استحسنوا أو استقبحوا بقدر ما علموا أو عُلِّموا، أما حياتهم فلا تعتمد على مواقفهم تلك.

ذهابهم للحرب فى العراق، كما قال رئيسهم فى القاهرة، كان اختيارا، لم يكونوا مهددين حقا، وكان الأمر تفضيلا ومفاضلة. وبالتداعى، يذكرنى هذا الشريط بحروبنا جميعا، لم نخض أيا منها تفضيلا كأن يجتمع مجلسنا ثم يقرر أن الحرب مفيدة فيدخلها، كل حرب فى القرنين السابقين، منذ دخول نابليون الأزهر فرضت علينا فرضا، حتى حين حارب بعضنا بعضا واستعان بالاستعمار، فإن خوفه من الاستعمار كان يجبره.

ثم ترى حروبنا خبرا فى شريط على بناية عندهم، وترى حروبهم ركام بنايات عندنا.

ثم يزيد الموضوع تعقيدا، أن هذه نيو يورك، وهى فى رأيى من حسان المدن، حاول أن تكرهها وستفشل، فكما يقول صديقى العزيز القصاص الكبير حسام فخر، هى أكبر مدن العالم الثالث.

ليست نيويورك مدينة الشقر المسلحين، عريضى الرقاب جامدى الوجوه، حتى تحسب أنهم يرفعون الأثقال على خدودهم، أمثال هؤلاء يرسلونهم إلينا، أما أهل نيويورك، فمثلى ومثلك، عرب وفرس وترك وصينيون ولاتينيون، وأفارقة، من شرق أوروبا، ثم من غربها ثم من سائر الولايات المتحدة.

وهذه المدينة بنيت للغرباء، فشوارعها مقسمة عرضا وطولا لتشكل معا خريطة من المربعات المرقمة، فيمكن تحديد أى نقطة فى المدينة برقمين، كأن آثار أقدام أهلها آلاف من الرسوم البيانية التى تكتب وتمحى كل ساعة، فلا يحتاج الغريب فيها إلى معرفة بل يرى فيها سبيله بسهولة جمة، ثم يجد فيها من يشبهونه، ممن يأكلون طعامه ويفهمون كلامه.

لذلك، حين ترى أن موقع أهلك فيها من امرئ القيس إلى يومك هذا، مرورا بأنبيائك وعارفيك وشعرائك، ليس إلا بضعة مصابيح تلمع ثم تختفى على شريط مهمل بين الإعلانات فإنك تحزن حزنين أو ثلاثة.

فنيويورك تزعم أنها ليست منهم، أعنى من الإمبراطورية، نيويورك تزعم أنها منا، أنها للمغلوبين المتعبين، بل إن شعرا بهذا المعنى هو المكتوب على قاعدة تمثال الحرية ليحيى الداخلين إليها «أرسلوا إلى متعبيكم وفقراءكم»، وهذا الشريط يذكرك أنها لهم لا لك، وأن هذه المدينة الحية مملوكة لواشنطن الرخامية.

لست أدعو لأن تهتم بنا أمريكا أكثر، لا والله، فقد لقينا من اهتمامها ما كفى ولو اهتمت أكثر أوشك ألا يبقى منا أحد، إنما أدعو ألا تكون مرجعا، ولا نموذجا، والزيادة من كل علم خير، فلنعرفها أكثر، ولكن لنهتم بها أقل.

لأنها بخيرها وشرها أمبراطورية أخرى، ولو مثلت تاريخنا، وتاريخ جيراننا، أعنى الأمم كبيرة السن من فقراء هذا الكوكب كالهند والصين، أقول لو مثلته فى صورة ميدان، لكانت الإمبراطوريات تمر عليه مرورا كالشريط، نلقى عليها نظرة عابرة، لنعرف الأخبار، ثم نلتفت إلى أشغالنا.



http://www.shorouknews.com/Columns/Column.aspx?id=358422

الثلاثاء، ١٤ ديسمبر ٢٠١٠

كل سنة وانا طيب

اليوم أتمّ عامي الثالث والعشرين على هذه الأرض. اعتدت أن يمر هذا مثل هذا اليوم من كل عام مثل باقي أيام العام، دون صخب أو ضجيج. فالحمد لله لقد نشأت في أسرة بعيدة عن ثقافة "حفلات" أعياد الميلاد ولا تقام عندنا تلك "الحفلات" إلا لمن هم دون الثامنة أو العاشرة وهي حين تقام لا تقام بانتظام أيضا فلا أذكر أنني احتفلت بعيد ميلاد سوى مرتين تقريبا أو ثلاث مرات. وبعد أن يتخطى المرء مرحلة الطفولة يصبح يوم عيد الميلاد يوما خفيض الصوت لا يميّزه إلا "كل سنة وانت طيب" الصادقة التي يتبادلها أفراد أسرتي الرائعين.

وعيد الميلاد في جوهره – الذي سأتحدث عنه بعد قليل – مناسبة طيبة، أمّا تحويلها لمناسبة اجتماعية "مَظـَاهـِـرية" يضيفها إلى أخواتها من المناسبات الاجتماعية التي يندثر معناها الحقيقي "الجوّاني" تحت غبار المظاهر المادية "البرّانية" حتى تصير عبئا على الناس، فتفرّق بدلا من أن تجمّع، وتبغّض بدلا من أن تحبّب. كنت أرى أيضا في احتفالات أعياد الميلاد تكريس للنرجسية فلم أكن أرى أي مبرر لتهنئة المرء على ما لم يتدخل فيه (أي وجوده) وكنت أرى أنه من الأفضل لي أن أتلقى التهاني على ما أنجزته يداي من نجاحات مادية ملموسة.

أما الآن وقد أدركت تلك المساحة – المُتجاهلة – التي تفصل بين الإنسان وبين إنجازاته المادية، تلك المساحة التي تؤكد تجاوز الجوهر الإنساني لعالم المادة. ذلك الجوهر الإنساني الذي يتجاهله الكثيرون حين يصرّون على الهروب منه ويلجؤون إلى الالتصاق بإنجازاتهم وأعمالهم المادية حتى يتم استيعاب جوهرهم الإنساني تماما في تلك الإنجازات التي مهما بلغ اتساعها يستحيل عليها استيعاب ذلك الجوهر الإنساني فتقيّده وتمنعه من التحقق الكامل. أما وقد أدركت ذلك المعنى فسوف أحتفل اليوم بعيد ميلادي على طريقتي وأعيد النظر في مدي تحققي الإنساني وأقول لنفسي "كل سنة وانا طيب"



باسم زكريا السمرجي

14/12/2010

جمال حمدان: درس في عشق مصر

الاهرام المصرية


السبت 3 فبراير 2007

‏سناء البيسي


خرست تماما وبلا تعليق علي المشهد القصير المرير الذي دارت أحداثه أمامي بعد النكسة عندما دخل الزميل الكاتب فهمي هويدي مدير تحرير عدد الجمعة وقتها يزف لمسئول التحرير بشري موافقة الدكتور جمال حمدان علي نشر مقال عن الأخطار التي تهدد قناة السويس في العدد القادم‏,‏ فهز المسئول رأسه لينهي ما لا يرغب في الاسترسال حوله‏:‏ إنشاء الله إنشاء الله التي استشعرت في طياتها نيته بمعني ابقي قابلني لو نشر‏,‏ وبعد خروج الزميل التفت المسئول ناحيتي مشوحا بعصبية من بيده الكشح والنشر‏:‏ جمال حمدان‏.‏ جمال جمدان‏.‏ تلاقيه يا ستي الدكتور اللي بيعالج أولاده وعايز يجامله علي حسابنا‏..‏

ومن المؤكد أن ردي البليغ بالصمت كان أكثر حصافة مما يجيش به صدري من غليان‏,‏ فقد كنت علي الجانب الآخر من بعد شهور انتظار علي أحر من الجمر قد بلغت المني أخيرا وحظيت بلقاء الدكتور حمدان في بيته‏25‏ شارع أمين الرافعي بالدقي بعدما عرفت كلمة السر بدق الباب مرتين والثالثة بعدهما بثوان فانفتحت صومعة الناسك تحت السلم إلي اليمين التي فوجئت بتقشفها وكأنها حجرة كشف في مستوصف بالأرياف فالكماليات لا وجود لها بل والضروريات أيضا والأرض خاصمت بساطها والستائر مسدلة معنويا والأثاث لشقة نوم العازب أو الطالب الريفي المغترب من أجل العلم‏,‏ بفراش راهب هندي مرقده المسامير‏..‏

الدوائر الكهربائية لا تصل بسلك تليفون أو شاشة تليفزيون أو حتي مروحة كهربائية‏,‏ ولكن وفقط ولا غير جهاز راديو لابد وأن يستعيد لقبه العتيق‏..‏ المذياع و‏..‏ وعينا بوتاجاز إنتاج المصانع الحربية لا يعرف فرن الصواني تطلان علينا من المطبخ الكئيب‏,‏ وكرة أرضية يتتبع فيلسوف الجغرافيا علي خرائطها الباهتة نبض نظرياته العبقرية في علوم الكون‏,‏ وحقيبة سفر لم تعرف الامتلاء أو السفر‏..‏ تلك كانت مفرداته المعيشية أما مفرداته الفكرية التي لا قاني بها الدكتور مرتديا الروب المهترئ وفي يده براد الشاي المشوه بالسناج كانت باتساع العالم كله‏..‏

جلست إلي صاحب موسوعة شخصية مصر بمجلداتها الأربعة التي يقف وراءها‏245‏ مرجعا عربيا و‏791‏مرجعا أجنبيا انصهرت جميعها في بوتقته لتخرج مقطرة تقطيرا‏,‏ مقدرة تقديرا‏,‏ بالغة الدقة والفطنة‏,‏ مشغولة ومطرزة خيطا خيطا علي الطريقة الحمدانية ليأتي طرحها خارقا بكل المقاييس‏,‏ ودائما ما تكون الفكرة مجرد بارقة قد لمعت في الذهن يجلس العالم المستنير يدونها ويمد منها الهوامش‏,‏ وتستطيل الهوامش وتتفهرس الصفحات لتغدو موضوع كتاب جديد‏,‏ وهو ما حدث مع كتابه الخالد شخصية مصر الذي مر بثلاث مراحل‏:‏ الصغير والوسيط والكبير‏,‏ وتبعه‏17‏ كتابا بالعربية وكتابين بالإنجليزية‏..‏ وعشرات بل مئات من المقالات والدراسات التي كان يعطي لنفسه أجازة بينها قد تمتد لعام كامل‏.‏

جلست إلي المستغني عن كل المغريات الذي كان يكافئ نفسه كل خميس بطبق مكرونة اسباكيتي علي ترابيزة متوارية بكازينو قصر النيل ويحلي بحتة جاتوه ويحبس بزجاجة كوكا كولا‏..‏ التقيت المتحفظ جدا الذي تسكن في حياته مأساة حب أو خيانة قد تكون سببا رئيسيا في تقوقعه وخصامه للجميع‏,‏ فقد ذكر في تلخيصها جملة عجفاء لا تشبع نهم أذن شهوتها الاستقصاء من أنه عاش يوما عصيبا كبر فيه فجأة أربعين عاما‏..‏ المتابع رغم عزلته لكل كلمة في خبر أو قصة أو مقال تنشرها الصحف‏,‏

وسعدت بقوله لي إنني أكتب كما نسيج التريكو الذي لو سقطت منه سهوا غرزة لتداعي السطر كله‏..‏ صاحب الميول الفنية الهاوي لسماع الموسيقي وأصوات أم كلثوم وعبدالوهاب ونجاة قال إنه تفوق يوما علي عبدالحليم حافظ‏,‏ ويشهد علي ذلك جمهور له في حفل قديم بفرع جامعة القاهرة بالخرطوم‏,‏ وكان أمهر لاعب كرة قدم في مدرسة التوفيقية‏,‏ وكان في تذوقه للفن حريصا في بعثته بانجلترا علي الذهاب لجميع المعارض الفنية‏,‏ فموهبته في الرسم قد زاملته منذ طفولته ليظل يرسم بها لوحات شخصية له ولمطربيه المفضلين يقتني بعضها الزميل حلمي النمنم ومنها بورتريه له ولنجاة وعبدالوهاب‏,‏ وكان يرسم أغلفة جميع مؤلفاته بل وخرائطها المعقدة التي يعلو بجبالها ويهبط لوديانها حتي يغيب عن الوعي وتسقط رأسه فوق غابات السافانا أو خليج في محيط‏,‏ ومضي يحكي لي عن صاحبة البنسيون التي كانت توقظه بندائها المميز مستر هامادان لكي يلحق بموعد الأوبرا المقدس لسماع الموسيقي الكلاسيكية‏.‏

غادرته بلا اكتفاء منه وذهبت يملؤني العجب من صاحب شخصية مصرية لم تعرف الحياة الفكرية والثقافية في مصر والعالم العربي في عصرنا الحديث مثلها‏,‏ من توافرت لديه مثل تلك الطاقة العقلية الهائلة التي تضعها في مصاف أكبر العلماء والمبدعين العالميين‏,‏ لكنه يقرر في لحظة صدق مع النفس ومع الآخرين تقديم استقالته من المجتمع والناس بعد أن قدم استقالته من منصب الأستاذ الجامعي وعاش لأبحاثه لا يريد أن يكون طرفا في عالم تغلب فيه قيم النفاق‏.‏ ولو لم يكن حمدان مستكفيا راضيا بعزلته وعما يقوم به لما نام علي سرير الشوك يحيطه صدأ الجدران بينما شريان الحياة الذي يمده بقوت العقل والجسد بواب عجوز قارب المائة لا يلبي النداء إلا من بعد أن ينبح الصوت ليأتي بجراية العيش والفول والجرنال‏…‏ ويقول جمال حمدان‏:‏ هناك أشياء كثيرة دفعتني لهذه العزلة التي فرضتها علي نفسي ولن أخرج حتي ينصلح حال المجتمع وإن كنت أتصور أنه لن يحدث أبدا‏!.‏

وأذكره كما اللحظة ذلك المساء التعس في الساعة الخامسة والنصف من عصر السبت الموافق‏17‏ من أبريل عام‏1993‏ عندما اتصل أحد جيران العالم الكبير بالأهرام ليخبرنا بالنبأ الأليم‏.‏ الدكتور جمال حمدان اتحرق في شقته بالدقي‏..‏ ومات‏!!..‏ أيوه‏..‏ مات من ساعتين والإسعاف رفضت تشيله‏,‏ وأهيب بأبنائي أصحاب الأقلام في نصف الدنيا محمد البرغوثي وجمال غيطاس وفنان الصورة محمد حجازي سرعة التغطية الصحفية للحادث المؤلم علي مسرح المشهد المأساوي‏,‏ وتصدر المجلة وبها الحقائق كاملة مدعمة بالصور النادرة لتغدو مرجعا لحياة وممات عاشق مصر الكبير الذي قال بنفسه‏:‏ إن بلادنا قد تخصصت في إهالة التراب علي عباقرتها وهم أحياء وتمجيدهم وهم أموات

وليس مشهد جنازته الصغيرة إلا دليل فاجع علي صحة ما قاله‏,‏ فلقد خرجت إحدي الصحف بخبر وفاته في ركن منزو يقول‏:‏ انفجار أنبوبة بوتاجاز في دكتور جغرافيا وكان الخبر مليئا بالأخطاء المطبعية والعلمية أيضا‏,‏ وبدون صورة فوتوغرافية واحدة‏,‏ والسبب في منتهي البساطة أن المحرر الذي كتبه مثل المسئول الذي أشرت إليه سابقا لا يعرفان قدر الرجل الذي مات ولا أصلا من هو‏,‏ هذا بينما التفت في جنازته صديق من المشيعين إلي جاره بعد زفرة ألم قائلا‏:‏ والله هذه جنازة تليق بمواطن شريف‏..‏ فلا مسئول‏,‏ ولا كاميرات‏,‏ ولا أضواء‏..‏ ولا يحزنون‏!!‏

المبدع المتخفي في ثوب الجغرافي ذهبت أفتش عنه في أحاديث أسرته‏..‏ فوزية المفتشة بوزارة التربية والتعليم‏,‏ وفايزة الشقيقة الصغري‏,‏ ود‏.‏ عبدالحميد أستاذ التاريخ بجامعة السوربون‏,‏ واللواء عبدالعظيم بطل أكتوبر‏,‏ والأديب محمد حمدان المنافس لجمال في شراء الكتب‏:‏ من شدة نبوغه حصل علي منحة تعليم بالمجان رغم عدم وجود المجانية وقتها‏.‏ كان يقول أنا عندي اللي يجعلني أغني منكم كلكم وسعيد جدا بهذا والأستاذ هيكل عرض عليه عقد بـ‏25‏ألف دولار شهريا لو قبل الكتابة فرفض‏,‏ وعندما تولي الدكتور عبدالعزيز كامل منصب وزير الأوقاف بالكويت عرض عليه التدريس في جامعتها مع تلبية جميع شروطه‏,‏

لكن رده الدائم كان‏:‏ إنه يسعي للشيء إذا أراده ولا ينتظر الشيء حتي يجئ‏,‏ وأخبره عبدالسلام جلود أن القذافي يطلبك بالاسم لتمسك أعلي مركز بجامعة طرابلس مع تلبية جميع طلباتك‏,‏ لكنه رفض وفضل حياته بعيدا عن الرفاهية والناس والشهرة بكامل إرادته‏..‏ شفافية لا حد لها‏.‏ ظرف وكوميديا من الدرجة الأولي‏.‏ أخلاق جدا‏.‏ حساس جدا جدا‏.‏ يفهم في الموسيقي أحسن من موسيقار عالمي‏.‏ يرسم‏.‏ يكتب الشعر‏.‏ خطه جميل‏.‏ يسمع عبدالوهاب ويحرص علي حفل أم كلثوم وينصت لنجاة ويردد أغنيتها أسألك الرحيلا

وكان يسمع شهرزاد ويصف محمد قنديل بأنه من أقوي الأصوات وأقدرها‏,‏ لكنه لم يأخذ فرصته التي يستحقها‏.‏ الأبناء علاء ونجوي ونهي علاقتهم بخالهم جيدة والبنات تحكي له مشكلاتهن‏.‏ كان كريما يعطي ما يأتيه للناس لإخواته البنات خذي اشتري عربية لبنت منهن‏.‏ لا أتذكر أن والده عاقبه مرة بالعكس كان دائما يفخر به‏,‏ لأنه متفوق‏..‏ حبيبي وأخويا ومثلي الأعلي‏.‏ كان ترتيبه الثالث في الأولاد وكنا أربع بنات بقيت منهن فايزة وبيني وبين الدكتور‏10‏ سنين عشنا مع بعض أحلي طفولة وكان دايما يقول لي يا فوزية أنا مبسوط كده‏,‏

وعمره ما كان انعزالي بالعكس كان بيجمعنا واحنا أطفال ويعمل لنا مسابقات في الشعر والرسم ويمنحنا الجوائز ويقعد معانا علي الغداء يحكي لنا الحواديت ــ الخمسينيات ــ ونتلم كل خميس نسمع الست‏,‏ وكنت في الأول أساعده في تبييض كتاباته‏,‏ ويوم ما استقال زعلنا وناقشناه لكنه أفحمنا بحجته‏,‏ وحاولت أزوجه لأجل نفرح بأولاده قال إنه خلاص اتجوز العلم‏..‏ جمال اتولد في بلدنا ناي بمركز قليوب وتبعد عن القاهرة بحوالي‏40‏ كيلو وأمي تعودت أن تلد كل أولادها هناك بجوار جدتي‏,‏ وكنا ننادي جمال كلنا باسمه الشهير بين أفراد أسرته وهو لولو‏,‏ ومن مدرسة شبرا بعدما استقر بنا الحال أخذ الابتدائية وكان ترتيبه السادس علي الجمهورية‏,‏

والتوجيهية أخذها من التوفيقية ومنها لقسم الجغرافيا بكلية آداب جامعة القاهرة وكان من أساتذته الأفذاذ الدكتور محمد عوض والدكتور سليمان حزين‏,‏ وبعد حصوله علي الامتياز في جميع السنوات سافر في بعثة لإنجلترا ودرس في جامعة ريدنج وأخذ الدكتوراه وموضوعها سكان وسط الدلتا‏,‏ وفي انجلترا كان إنسانا آخر يلتهم متع الحياة بعشق وحب‏.‏ قرأ كل ما وقع تحت يديه من روائع الأدب والشعر ودرس الموسيقي الكلاسيك حتي أصبح الخبير وكان عاشقا لتشيكوفسكي‏,‏

وفي انجلترا عاش قصة حب تحول فيها إلي عاشق مرهف‏,‏ ولقد رأيتهما معا جمال ومحبوبته الإنجليزية الباحثة في علم المصريات ــ كما يقول شقيقه عبدالحميد ــ كانا يقرآن معا ويسهران معا ويمضيان الأجازات معا‏,‏ وكانت الإنجليزية مفتونة بعبقريته وإبحاره المتعمق في المعارف العديدة‏..‏ وفجأة عاد جمال من انجلترا‏.‏ عاد صامتا ولم يفلح في إخراجه عن هذا الصمت أحد‏,‏ وعاش قادرا أن يحيا بجرحه‏,‏ واكتملت الضربة عندما تجاوزته الجامعة وقامت بترقية أستاذ مساحة آخر إلي درجة الأستاذية قبله‏,‏

وكانت هناك في الستينيات باحثة فرنسية التقت به لتولع بالحديث معه وندرك أنها وقعت في حبه‏,‏ وحاولنا إقناعه بمراجعة موقفه من الزواج والتفكير في من ترغبه‏,‏ لكنه رفض وأتي رفضه بإصرار غريب وعجيب‏..‏ رجع لمصر بعد الثورة ليفاجأ بالتغيير الذي تفاءل له لكنه للأسف وقع ضحية أهل الثقة فقدم استقالته بعد معركة نفسية ــ زاد من حدتها موقف زميلته الجامعية التي جمعت بينهما قصة حب أدارت لها الحبيبة ظهرها تخوفا علي مكانتها الجامعية ــ أثرت علي صحته وأصابته بمرض في الأمعاء الغليظة وفضل يتعالج في عيادة الدكتور أنور المفتي‏,‏

وكانت الاستقالة نقطة تحول في حياة جمال فبعدها اعتزل العالم ونظم حياته بصرامة وتغلب علي مرضه بتنظيم الغذاء والرياضة‏,‏ ولم يستسلم للإحباط فواصل عمله الرائد شخصية مصر‏,‏ وعندما منحته الدولة وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي عام‏1988‏ لم يتسلمه بنفسه وأتي الوسام إليه مع مندوب عند تشييع جنازته‏,‏ ومازلت أذكر بعد الثورة عندما سألته عن الوظيفة التي يرغب في شغلها فجاءتني إجابته الفورية‏:‏ وزير ولو مرة واحدة للشئون البلدية والقروية‏,‏ فمن يتولي هذه الوزارة يملك في يده نهضة مصر أو تخلفها‏,‏ فالشئون البلدية هي البنية الأساسية التي بدونها لا تستقيم حياة الناس في المدن‏,‏ والشئون القروية هي العمود الفقري الذي بدونه ينقسم ظهر مصر‏…‏

في حياته يذهب محمد حسنين هيكل إليه ويدق بابه مع مصطفي نبيل رئيس تحرير مجلة الهلال السابق فيدعوهما للدخول فهو أشد المعجبين بهيكل ولغته‏,‏ ويستأذن منهما لحلق لحيته التي توغلت لكنه يعود مسرعا كي لا يضيع وقتا بدون هيكل الذي طلب منه أن يخرج معهما للهواء الطلق فيعتذر حمدان لمرضه فيدعوه هيكل لمنزله للكشف عليه طبيا فيتشبث المستكفي بعدم الخروج مبادرا هيكل بسؤاله‏:‏
‏*‏ كيف تسكت علي ما يجري في مصر؟
‏-‏ وماذا تريد أن أفعل؟‏!‏

قال فارس بن حمدان‏:‏ لا تقل لي إن من يحترف الكتابة عادة لا يتقن الحديث‏,‏ ولكنك تتقن الكتابة الراقية والحديث المقنع أيضا‏,‏ أو أنه عادة لا يعرف التفاصيل من هو غارق في الكليات‏,‏ ولكنك تجمع بين المعرفة الدقيقة بالتفاصيل والكليات معا‏..‏ عادة لا يعرف الفيلسوف المسائل العلمية ولا يتقنها وأنت تعرف الفلسفة ولديك قدرة علمية كبيرة‏,‏ وعادة ما يكون المفكر السياسي غير محترف السياسة وممارسها‏,‏ ولكنك مفكر وسياسي في ذات الوقت فلماذا لا تقود أهل مصر في طريق الخلاص؟‏!‏

ويستمع هيكل بإنصات ثم يرد قائلا‏:‏ لقد جئت إليك حتي أسمع منك وأنت صاحب كتاب شخصية مصر لكي تفسر ما يجري‏,‏ وما تفسيرك لتدهور موقف مصر السياسي‏,‏ ولماذا رحب البعض بهذه الاتفاقية ــ كامب ديفيد ــ وهل تفسيرك حول المجتمع النهري والسيطرة المركزية للسلطة يكفي تفسيرا لما نشاهده؟

ويرد جمال حمدان في كلمات كالطلقات‏:‏ الطغيان هو الذي أوصلنا إلي هذه الحالة مما جعل قبول الرأي الواحد عادة ذميمة‏,‏ فالطغيان هو المعزوفة الحزينة للتاريخ المصري مما خنق كل مبادرة‏,‏ وتاريخنا يعتبر الحاكم إلها حتي يسقط‏,‏ وتاريخنا يضع الحاكم فيه نفسه فوق النقد حتي يرحل‏,‏ وهو التاريخ والجغرافيا حتي يأتي غيره‏..‏ ويضيف حمدان‏:‏ ومازلنا بعيدين عن التعليم الحقيقي الذي يجعل الشعب كله خلية متحركة ولا يرغب أحد رغبة حقيقية في أن يتعلم الشعب وعندئذ سيعرف حقوقه ويتعلم كيف يطالب بها وكيف يحصل عليها‏..‏ ولكن دعني هنا أسألك يا أستاذ هيكل‏:‏ ما هذا الذي خلفته وراءك في الأهرام؟‏!‏ وما هذا الذي يكتبه كبار الكتاب وكأنهم يحملون المباخر لكل قرارات السادات؟‏!..‏ ويرد هيكل‏:‏ لست مسيئا ولا أنا دكتور حسين فوزي أو الحكيم أو نجيب محفوظ‏.‏

ويكتب هيكل بعدها خطابا لجمال حمدان في‏28‏ من مايو‏1979‏ يقول فيه‏:‏ لم أتجاسر هذه المرة أن أطرق بابك علي غير موعد‏,‏ وهكذا فإني أكتب إليك لأقول إننا عدنا إلي القاهرة بعد غياب عدة أسابيع وكما اتفقنا قبل أن أسافر فإني أترك لك اختيار الوقت الذي تراه مناسبا لكي نلتقي مرة أخري ولست أعرف ما المواعيد المناسبة لك في الأسبوع القادم الذي يبدأ من السبت الأول من يونيو؟ لكنه يسعدني إلي أبعد حد أن أسمع منك‏…‏

ويظل اللقاء بينهما ممتدا والعلاقة بينهما حميمة والمناقشات خصبة وعبدالناصر فوق المنصة ليكون محمد حسنين هيكل أول من يدخل سرادق العزاء في العالم الجليل‏..‏ و‏..‏ تصل إلي الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين حكاية حرمان جمال محمود صالح حمدان من المعاش بسبب الروتين الذي لا تسمح لوائحه بمعاش إلا لمن قضي عشر سنوات فأكثر في الجامعة وكانت شئون العاملين بالجامعة قد أبلغت الدكتور بأنه لم يستوف المدة القانونية لذا لزم انقطاع المعاش‏,‏

فانبري الصديق بهاء يكتب مطالبا له بمعاش استثنائي فثار حمدان وغضب وخاصم بهاء حتي النهاية‏,‏ بينما كانت علاقتهما قبل ذلك ذات أواصر عميقة حتي أن حمدان كان يأتي لبهاء في أول وعكة صحية شديدة أصابته ومنع عنه الأطباء الزيارة‏,‏ كان يأتي إليه يوميا للسؤال عنه في ساعة محددة‏,‏ ونقلت السيدة ديزي زوجة بهاء له أمر الزائر المستديم ببذلته ذات الطراز القديم والذي تظنه أحد الموظفين القدامي فسألها عن اسمه فقالت‏:‏ جمال حمدان‏..‏ فهتف‏:‏ الدكتور جمال حمدان يا خبر أبيض أرجوك أول ما يحضر أدخليه علي الفور علي الأقل ليستريح‏,‏

وأتي بعدها الدكتور جمال واعتذر عن الدخول طالبا إبلاغ سلامه للأستاذ بهاء‏,‏ وكان من بين أوراق حمدان الحميمة خطاب من بهاء يقول له فيه‏:‏ لا تبخل بالزيارة حتي بدون سبب ولا أحتاج أن أؤكد لك هذا أبدا‏.‏ فما بالك إذا كان هناك سبب وإذا ما كان مكتبي بعيدا فبيتي قريب‏:11‏ ش هارون ــ الدور الخامس ــ شقة‏4(‏ ت‏:982463),‏ وكانت في أوراق العالم الراحل خطابات أخري ظل يحتفظ بها منها ما كتبه يحيي حقي في‏1981/12/2‏ يقول‏:‏ أنت كالنجم القطبي لا تتحول عن مبادئك وأصدقائك ليتنا نفلح في أن نسترشد بك ولكن هيهات‏,‏

ويكتب له أنيس منصور في‏1970/3/1:‏ أين أنت وحشتنا جدا ولكنك لست بعيدا في المكان فأنت في العقل والقلب معا‏..‏ هذا بينما الآخرون يحتفظون بخطابات وكتابات جمال حمدان لهم التي تشع تواضعا وتلهث بفرط المديح‏.‏ كتب لناشر كتبه الأستاذ يوسف عبدالرحمن زوج الدكتورة نعمات أحمد فؤاد الذي استمرت علاقتهما‏22‏ عاما يلتقيان فيها كل أحد وقام فيها بالنيابة عنه بتسلم جائزة التقدم العلمي في الكويت وقيمتها ما يوازي‏10‏ آلاف دولار قام بتفريقها علي أفراد أسرته‏..‏

كتب الدكتور جمال حمدان‏:‏ لظرف طارئ للغاية وبكل الأسف وكل الحرج هل يمكن أن أطمع في مائة جنيه‏(100‏ جنيه فقط‏)‏ مع حامله‏,‏ والتفسير يوم نتقابل وأكرر الأسف والاعتذار وفي خطاب آخر من بعد الديباجة والتحيات العطرة والسلام والسؤال‏:‏ معذرة عن المضايقة علي غير انتظار‏,‏ ولكن نظرا لظرف طارئ عاجل‏,‏ وإذا لم يكن في ذلك إحراج أو إرهاق‏,‏ وإذا كان لي أي استحقاقات طرفكم‏,‏ فهل أطمع وأستأذن في أن تتكرم مشكورا بإرسالها في أقرب فرصة‏,‏ ولو مع الأسطي فكري منعا لتعبك وإرهاقك‏..‏ أما إذا لم يكن لي استحقاقات فأرجو إهمال الأمر تماما واعتباره كأن شيئا لم يكن‏..‏ ولك الشكر ــ ثق ــ في الحالين علي السواء‏..‏ وأكرر الأسف للإحراج الطارئ راجيا لك وللجميع كل صحة وتوفيق وشكرا‏..‏ المخلص جمال حمدان‏.‏

الدكتور جمال حمدان لاعب الكرة الشراب في زمن الطفولة وبطل كرة القدم في الثانوية‏:‏ كان يمكن أن يصل بي الأمر إلي الاحتراف بصورة حقيقية‏,‏ ولكن هناك ظروف كثيرة أبعدتني‏,‏ جمال حمدان المستكفي الذي كتب تلميذه وصديقه محمود بسيوني في‏25‏ أبريل‏1993:‏ أخبرني أنه إلي جانب ما عرضته عليه ليبيا من العمل أستاذا في جامعة طرابلس فإن الرئيس العراقي أرسل إليه يطلب منه قبول العمل كوزير في الحكومة العراقية‏..‏ ولكنه رفض بحسم‏,‏ وقال إنه لن يغادر مصر وحتي لو عارض بعض سياسات حكامها فلن يكون ذلك إلا داخل مصر التي يعشقها بنضج وصدق وإيمان عميق‏.‏

ويكتب جمال حمدان عشرات الصفحات من خواطره أتوقف أمام كل منها لا لأنتقي حاشا لله وإنما لكي تأتي النهاية بما خف وزنه وغلا ثمنه من بدائع حمدان الذي يقول‏:‏ العرب بغير مصر كهاملت بغير الأمير‏..‏ سيناء ليست مجرد صندوق من الرمال كما يتوهم البعض وإنما صندوق من الذهب الأسود‏..‏ مصر كانت دائما شعبا محاربا‏,‏ ولكن دون أن تكون دولة محترفة حرب‏,‏ لأنها محارب مدافع أساسا لا محارب معتد‏..‏ إسرائيل ليست عنكبوتا‏,‏ ولكنها بناء ملئ بالثقوب يقوم علي أرض أكثر امتلاء بالحفر‏,‏ والعلل الأصيلة في مجتمعها هي نقاط قوة لنا في صراعنا ضدها‏,‏ ونقاط ضعف محققة لها‏,‏

ولكن إسرائيل لن تهزم بالنقاط كما يقولون في الرياضة‏,‏ وإنما تهزم بالضربة القاضية‏..‏ علي المسلم الذي يكتب عن العالم الإسلامي أن يضع نفسه في مكان غير المسلم‏,‏ خاصة الأوروبي المسيحي‏,‏ ليس فقط ليكون موضوعيا‏,‏ ولكن أيضا ليستوعب وجهة نظر الآخر‏..‏ نحن والأقباط شركاء وإنهم أقرب المسيحيين في العالم إلي الإسلام بمعني أو بآخر‏..‏ وكما أن مصر فلتة جغرافية فالأقباط فلتة طائفية‏..‏ انقذوا مصر من القاهرة والقاهرة من نفسها‏.‏

العالم الجليل عندما طلب قبل وفاته بشهر معلومة مهمة ليضيفها لكتابه عن الصهيونية ودولة إسرائيل جلبت له من واشنطن بجهاز الفاكس لترسل إليه في نفس اليوم فكتب يسأل عن كيفية حدوث المعجزة وعندما شرح له الأمر التكنولوجي المتداول بالأزرار قال وكأنه عباس بن فرناس الذي تحقق حلمه في أن يطير الآدمي بجناحين‏:‏ هي حصلت خلاص‏!!.‏

رحل جمال حمدان وحيدا وقد احترقت أطرافه بآثار إصابات من الدرجة الثالثة ليحق قول حافظ إبراهيم‏:‏ فما أنت يا مصر بلد الأديب‏,‏ ولا أنت البلد الطيب‏.

الثلاثاء، ٧ ديسمبر ٢٠١٠

رحلة القمر

يتوسّد القمر غيمة وينام. يهنأ باكتماله بعض الوقت قبل أن يبدأ من جديد رحلته لينثر أجزاءه على العشاق؛ يرعى سهرهم، يدافع وحدتهم، يحمل حكاياهم إلى السماء فيسرّ بها إلى الطير كي تشدو بها أغانٍ تتراقص على أنغامها أكف الشمس الممتدة بأشعة الدفء وسر الحياة


باسم زكريا السمرجي

27/11/2010

ف المنام - مقطوعة شعرية بالعامية المصرية

لو شئ يزيد عن حدّه يترد بملل عكسه
وان زاد هوى عن حدّه يتأكد عليك حبسه
قـُصر الكلام...
أنا أصلي شفتِك ف المنام...
ماشية ف مظاهرة ويّا سرب من الحمام...
راسمين علم وإدين بتدعي ربها وخيال أميرة...
يبان عليها الحزن في كسرة عنيها
عازز عليها الذل...
لو تعرف طريقه تستريّح
حكم الزمان
مهما يداروها بتراب
ترسم جماعات الحمام صورتها في قلب السما
علشان ما تنساش أصلها






باسم زكريا السمرجي

2/12/2010

فيروز

فيروز...ذلك الصوت الذي قَبِل بالتدنّي من سماوات الحلم العلى ريحا طيبة تمر على المحبين تحمل أرواحهم على أجنحتها عائدة إلى حيث جاءت، إلى السماء. فتتخفف الأرواح من أحمالها الأرضية وتغتسل من أدرانها الدنيوية لتعود إلى الأرض أرواحا خفيفة نقية.

تتجاوز فيروز الحدود فتندك أمامها حصون الزمان والمكان. تنتزعني من صحراء الحقيقة الجرداء وتحلِّق بي في مروج الخيال حيث نقطة التلاشي فلا شيءَ إلا كل شئٍ. إنها احتيال الحلم على الحقيقة وظفـْر الخيال من الواقع


باسم زكريا السمرجي

17/11/2010

اللقاء الثاني

بالأمس كان اللقاء وكأن الأيام بيننا قد توقفت عن ممارسة ما اعتادت عليه من استئصال العشق من قلوب العشاق بمهارة وهدوء. بالأمس كان اللقاء وقد تداعت على عتبات نظراتها كل احتمالات الصمود. لم يقدر عليها الزمن. مازالت هي تلك الإشراقة العفوية لشمس رقيقة تحملها جناح الريح الحانية لتطوّف بها فتقتبس كل الموجودات من سناها الأبدي. مازالت هي تلك الطلـّة الخجول لذلك القمر المتدثر بأوراق الشجر حتى يزيد غموضُ ما اختفى منه جمالَ ما انكشف. إنها مازالت تلك التي إن تجلـّـت في الشمس كان منها الإشراق لا الإحراق وإن تجلـّـت في القمر كان منه الاختباء لا الاختفاء. وأنا مازلت أنا، أو ربما لم أزل، تغير فيّ كل شئ سواها. أسرع فيّ كل شئ لأحكام الزمان بالخضوع إلا قلبي الذي تحصن بالضلوع.

ثم ماذا بعد؟ كما كان قبل. يتطاول الزمان حتى يكاد يداني قطاف انتصاره، حانت منها التفاتة تعيد الزمان مسرعا إلى جحوره يجر أذيال انكساره



باسم زكريا السمرجي
19/11/2010

لماذا أكتب

لماذا أكتب؟ لا أدري حقا. هل هي حالة التوحّد التي تنشأ بين الكاتب والمكتوب حيث يقيد التجربة بقيد الأوراق ليطلقها من شاطئ الواقع إلى عباب الخيال تحملها سفن اللغة؟ هل هو صوت صرير القلم الشجي الذي يكاد يبزّ -إذ يبث شكواه نغما بين الناس - صوت نزف الناي ؟ أم تلك الحالة من النشوة التي يعتلي صهوتها الفؤاد فينطلق في فضاء الفتوحات الربانية يكتشف أسرار اللغة التي اصطفاها الله، يعيد بحرية ترتيب الأشياء، فالشمس يفصل بينها وبين التوقف عن الإحراق بعض الحروف والقمر يتمنّع على التناقص بلمحة من القلم؟ أم أن اصطياد التجارب المحلقة في سماء الذاكرة الضبابية واستدراكها لشراك الأوراق يُسهّل استدعاءها فيما بعد إن طلبها حنيني للذكريات؟ فرغم سنين عمري الثلاثة والعشرين أتـّقي برد الواقع بدثار من خيوط الحنين إلى ذكريات عشتها حتى إذا نفذت الذكريات والحقيقة لا تزال تلفح الفؤاد ببردها لجأت إلى خيوط الشوق إلى ذكريات لم أعشها، ويظل قلبي هكذا في مخضة الذكريات تراوحه دفعة حانية من كف فلاحة سمراء بسيطة بين الشوق والحنين، حتى يصعّد في ركام الحاضر إلى أن يرتقي إلى سماء الأحلام التي تقف قيود التوقيت على أبوابها خاشعة لا تقدر على التقدم وإلا احترقت. أم أن ما مايدفعني إلى الكتابة هو الالتزام الذي تفرضه الكتابة على الكاتب بالانتباه لكل ما حوله من الموجودات وتجاوز كياناتها المادية البرّانية والغوص في مكنوناتها الجوّانية للظفر بأسرارها الربانية؟ أم هو كل ذلك؟ أم هو لا شئ من ذلك؟ لا أدري. وعلى العموم لا يهم المهم أنني الآن أكتب



باسم زكريا السمرجي

15-11-2010