الأربعاء، ١٠ نوفمبر ٢٠١٠

تجربة البرادعي التي لابد أن تنتهي

هي محاولة مجتهد يعزيه في فوات الأجرين – إن أخطأ – تحصيل أجر المجتهد المخطئ، لا يدفعني إلى تلك المحاولة إلى حب تلك الأرض التي – ورغم كل شئ – عليها ما يستحق الحياة.

نصف قرن من الزمان – أي منذ قيام ثورة يوليو – غابت فيها الممارسة الديمقراطية عن الشعب المصري أو غاب الشعب المصري عنها، ولكن خفف من وطأة ذلك الغياب وأخفى بعضا من آثاره وجود مشروع القومي التحرري منذ قيام الثورة والذي فرض على الحكم بعض الممارسات الوطنية، وألهم أفراد الشعب التخلي قليلا عن ذواتهم و العمل من أجل قيمة الوطن. ولكن منذ بدابة خفوت صوت المشروع القومي – أي منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 – لم يبق للشعب المصري غير الاستبداد لا يردّه رادّ. وظلت أصوات الاستبداد تتعالى في مقابل خفوت الصوت القومي التحررى حتى تم اختصار إرادة مصر السياسية في حدودها الجغرافية وتحول المشروع القومي من السد العالي وبناء المصانع و تصنيع الأسلحة والمعدات الثقيلة على المستوى الداخلي، والدعوة إلى الوحدة العربية ومقاومة الصهاينة على المستوى الخارجي، تحول ذلك المشروع إلى مشروعات الطرق والكباري والصرف الصحي على المستوى الداخلي، وكيفيه مواجهة الخطر الشيعي و إرهاب حماس على المستوى الخارجي!!. وصاحب ذلك بالطبع عجز الدولة سياسيا مما استلزم تصاعد القوة الأمنية حتى صار الجهاز الأمني هو الجهاز المركزي المحرّك والمسيطر على جميع أجهزة الدولة.

كان المشهد السياسي في مصر يتكون من الحزب الوطني الحاكم، وأحزاب المعارضة التي إما كرتونية وإما نخبوية، بالإضافة إلى حزب الأغلبية الصامتة الذي لم يتوجه إليه أحد بالخطاب. لذلك كان لابد من صعود نجم حركة كفاية عام 2005 فلقد استنبتت نفسها من تربة الشارع المصري – التي لم يحوّلها تطاول الأمد عليها إلى أرض بور – وهي بذلك اكتسبت زخما كبيرا لم تكتسبه القوى المعارضة الأخرى التي لم تستطع أن تتوجه يوما إلى الشارع الذي هو ميدان العمل الحقيقي لكل السياسيين. غير أن حركة كفاية – كأي حركة رد فعل – غابت عنها الرؤية الجامعة التي تـُفضي إلى وضع خطط قصيرة وطويلة المدى يعمل الجميع وفقا لها حتى يصلوا إلى الهدف. أدي غياب تلك الرؤية أن يعمل الجميع وهم يحلمون بان النظام سيسقط غدا، ولمّا لم يحدث ذلك – وما كان ليحدث بالطبع – دخل الإحباط نفوس أفراد الحركة مما أدى إلى التخبط الذي أدى إلى انتحار التجربة. بقى أن نشهد لحركة كفاية بدورها البارز في تحريك المياه الراكدة ونشر ثقافة الاحتجاج في الشارع المصري بجوار إسهامها البارز في رفع سقف النقد حتى يصل إلى رئيس الجمهورية نفسه.

ثم بعد حركة كفاية انطلق في السماء نجم شباب 6 أبريل من الشارع أيضا ولكن هذه المرة من شارع الشباب وفضائه الإلكتروني لتنجح – بأساليبها المبدعة – أن تحشد شباب مصر عام 2008 بشكل غير مسبوق للمشاركة السياسية حتى وأن كانت تلك المشاركة بالتعاطف أو المتابعة. ثم لحق بشباب الحركة ما لحق بحركة كفاية ونضب معين الإبداع لديها وصارت تكرر نفسها مما أفقدها ميزتها النسبية – وهي الإبداع – وأدى بها إلى الفشل الذي أفضى إلى الإحباط ثم الدوران في نفس تلك الدائرة المفرغة التي دارت فيها كفاية من قبل.

هكذا كان الوضع قبيل ظهور الدكتور البرادعي
.

· جماهير أغلبها من الشباب بدأت في– على أقل تقدير- متابعة المشهد السياسي.

· نشطاء هدّهم الإحباط فتفرقوا إلى:

o فريق لجأ إلى طرق أبواب الغرب بحثا عن الحل الذي لن يأتي.

o وآخر أدمن الإحباط والألم – إما لمرض نفسي أو عيب عقلي – فاستمر في تكرار ممارساته التي أدت إلى الإحباط الأول بحثا عن إحباط جديد!!

o وهناك فريق استأنف العمل السياسي وهو فاقد للأمل، فصار يقوم بعمله كموظف الحكومة التقليدي يوقع في دفتر الحضور والانصراف، في المظاهرات أو سيارات الترحيلات.

· نشطاء ظلوا متمسكين بالحلم يسعون من أجله – على غير هدى – رغم الإحباطات متفائلين بغد أفضل.

· قبضة أمنية محكمة حلــّت تماما محل كل الحلول السياسية التي كان بإمكان النظام تقديمها لقوى الاحتجاج.

· الطرف الثالث وهم الأغلبية الصامتة التي تستميلها قوى المعارضة إلى المشاركة السياسية بخطابها، وتدفعها عن المشاركة السلطة الأمنية بقبضتها. وظلت حالة التعادل تلك بين خطاب قوى المعارضة وقوة القبضة الأمنية تفرض على ذلك الطرف الثالث أن يقف مشاهدا في انتظار الذي لن يأتي.



ثم بدأ الدكتور البرادعي في الظهور. بدأ على الساحة "الفيسبوكية" ثم أتى إعلانه عن نيته في الترشح لرئاسة الجمهورية لينقل ذلك الظهور على أرض الواقع، وتقبلت الجماعة الوطنية في مصر ذلك الظهور بترحاب شديد فالبرادعي 2010 مثل كفاية 2005 أتى ليكمل ما كان ناقصا في المشهد السياسي المصري وهو وجود البديل فلقد كادت أبواق الذين يدّعون ليل نهار أنه لا يوجد بديل عن الأب سوى الابن أو الاخوان أن تصمّ آذاننا، ولكن البرادعي أتى من حيث لم يحتسبوا ليطرح بقوة إمكانية وجود البديل من خارج ذلك المثلث (الأب – الابن – الإخوان ) بل من خارج المشهد السياسي تماما الذي تعمّد النظام تعقيمه منذ زمن طويل.

ظل ذلك الحشد في تزايد حتى وصل إلى ذروته يوم عودة الدكتور البرادعي إلى مصر يوم الجمعة 19/2/2010 وخروج المئات لاستقباله إن لم يكن الآلاف من مختلف طوائف الشعب المصري نخبته وعوامه، شيوخه وشبابه، نشطائه – الذين اعتادوا الخروج في مثل تلك التظاهرات – وشبابه العاديين – الذين كان ذلك الخروج الأول من نوعه لهم. خرجوا كلهم في مشهد مهيب كتب عنه الدكتور علاء الأسواني في مساحته الأسبوعية بجريدة الشروق يوم الثلاثاء 23/2/2010 مقالا بعنوان "مصر التي استيقظت". ومع الأمل الذي بثّته مهابة ذلك المشهد تم التجاوز عن مرور الدكتور البرادعي بسيارته مسرعا مخترقا ذلك الحشد دون أن يخرج ملوّحا لتلك المئات التي هتفت باسمه طوال النهار. فلقد كان الأمل كفيلا بغض النظر عن تلك الصغائر.

ثم بعد يوم المطار أتت حلقة العاشرة مساء يوم الأحد 21/2/2010 التي استضافت فيها منى الشاذلي الدكتور البرادعي في حلقة كانت خير دعاية لمشروع الدكتور البرادعي للتغيير، ولقد أتت ثمارها على أكمل وجه ويكفي أن نتابع معدل تزايد المنضمين لمجموعته على "الفيسبوك" بعد الحلقة، ذلك المعدل الذي بلغ 50 عضو في الثانية في بعض الأوقات. وبجوار معدل ازدياد أعضاء مجموعته على الفيسبوك ظل معدل شحن الأمل في ازدياد مضطرد حتى كتب عنه الدكتور محمد المخزنجي في جريدة الشروق يوم الخميس 11/3/2010 مقالا بعنوان "شجاعة الوداعة" يشبه فيها الدكتور البرادعي بغاندي.

ثم توجه رجال من خيرة النخبة الوطنية يوم الثلاثاء 23/2/2010 إلى منزل الدكتور البرادعي ليعلنوا من هناك تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير تحت رئاسته في تخلٍ أنيق عن الذات.

كل ذلك كان تمهيدا كفيلا بدفع مشروع الدكتور البرادعي إلى مقدمة المشهد وقد حدث ولكن لم يستثمره الدكتور البرادعي سياسيا بشكل سليم نظرا لتركيبته الشخصية كموظف مرموق لم يمارس السياسة بشكل مباشر بل ظل يعمل في أروقة الدبلوماسية الأنيقة طوال سنين عمره المديد، كما قال عنه أ. وائل قنديل في عموده بجريدة الشروق يوم الاثنين 8/11/2010

كانت كل تصرفات الرجل وتصريحاته تشي بتلك الطبيعة، غير أن سَكرة الأمل كانت دوما تُعمينا عن رؤية الحقيقة وتجعلنا نقرأ ما بين سطور الرجل ما كنا نتمنى أن يُصدِّر به سطوره نفسها. وآن الأوان الآن – بعد أن أعلن صراحة أنه لن يترشح لانتخابات الرئاسة وأن الرئيس القادم من الحزب الوطني – آن الأوان أن نعيد النظر في خسائر الدكتور البرادعي التي بدأت – في رأيي – بخسارة 6 أبريل. فشباب 6 أبريل المتـّـقد بالحماس وحب الوطن توقّع أن تكون مظاهرتهم السنوية ذلك العام مختلفة حتى وإن لم ينزل فيها الدكتور البرادعي – في قرار حكيم – فسوف يتلقون دعما معنويا منه وهو ما لم يحدث إلا على "تويتر" بجملته الشهيرة "إنه لأمر مشين" التي أصبحت مثارا للتندر والسخرية!! ليس ذلك فحسب بل إن منسق حملته الشعبية – الأستاذ الشاعر عبد الرحمن يوسف – أعانه في تحقيق تلك الخسارة الفادحة بأن كتب مقالا على الفيسبوك مهاجما لشباب 6 أبريل بعنف ونُشر المقال والشباب في الشارع يتلقون بشجاعة "مفرطة" هراوات الأمن المركزي. فكان طبيعيا أن ينفصل شباب 6 أبريل عن دعم الدكتور البرادعي وينسحبوا تماما من مشروعه مما أفقده قوى كبيرة كانت – إن تم توظيفها بشكل صحيح – ستكون رأس الحربة للتغيير في مصر.

خسارة أخرى خسرها الدكتور البرادعي بدون معونة من أحد وهي خسارة النخبة التي ارتضت أن تتخلى عن ذاتها و تعمل تحت رئاسته. واستبدل بهم الشباب. بالطبع التوجه للشباب والاتكاء عليهم محمود لكن الاستغناء بهم عن غيرهم – أمثال الدكتور حسن نافعة و الدكتور عبد الجليل مصطفى والأستاذ حمدي قنديل والدكتور علاء الأسواني والأستاذ جورج إسحق الذين ذبحوا ذواتهم على عتبات الدكتور البرادعي – مردود. وكذلك فقد الدكتور البرادعي كثيرا جدا من رصيده المعنوي الذي كان كفيلا بترسيخ مشروعه في قلوب الشعب المصري.

غير كل ذلك، فإن ما يحسب للدكتور البرادعي أنه أدخل إلى آتون المعترك السياسي فصيلا جديدا ونوعية جديدة من النشطاء وهم نشطاء الحملة الشعبية المستقلة لدعم البرادعي ومطاب التغيير الذين كان انضمام أغلبهم للحركة أول احتكاك مباشر لهم بالعمل السياسي. هؤلاء النشطاء "يتميزون" عن جميع النشطاء بنقص الخبرة السياسية، فأغلب الخبرة السياسية في بلدنا خبرة سوء قادت الكثير إلى الإحباط والتفتت، يتميز هؤلاء النشطاء الجدد أيضا بالتحقق الشخصي، فابتعادهم عن السياسة – مع قدراتهم الشخصية – أتاح لهم أن يرتقوا سلم النجاح الشخصي فنجد منهم المتفوقين أكاديميا وحاملي الماجستير والدكتوراة ونجد منهم أصحاب الأعمال والتجارات. وهذا التحقق الشخصي كان له دور كبير في أن يعملوا في السياسة باستقلالية تامة التي – مع مهاراتهم الشخصية وقدراتهم الإبداعية والإدارية – تمكنـّهم من إحداث التغيير.

إن الفرصة التاريخية التي أتيحت للدكتور البرادعي – وليس لمصر – أن يحتفظ التاريخ باسمه كنقطة تحول في تاريخ مصر بل وفي تاريخ الوطن العربي ككل ضيعها هو ولا يصح لنا أو لشباب الحملة أن يظلوا متعلقين بأذيال ثوبه فلقد ارتضى الرجل أن يكون "رقما" مضافا إلى المطالبين بالتغيير بمصر وفقط ، ولا يصح للمتحمسين للحملة أن يكونوا "رقما" مضافا إلى المحبطين في مصر، بل إن مسؤوليتهم تجاه أنفسهم وتجاه وطنهم تحتم عليهم أن يعدلوا المسار وينضموا للجماعة الوطنية بفكرهم الجديد – طبعا ليس كل فكر جديد متشابها – وإمكاناتهم اللا محدودة وتكون مجهوداتهم نحو جمع شتات القوى الوطنية خلف المطالب السبعة للتغيير ويكون دور الدكتور البرادعي معهم هو الدور الذي ارتضاه هو لنفسه – منظــِّـرا وداعيا للتغيير – لا ما تمنيناه له. فلقد اكتفى الدكتور البرادعي بدور "مولانا الوالي" في مسرحية "صح النوم" للسيدة فيروز، الذي كان ينام شهرا ثم يستيقظ ليُنفذ ثلاث معاملات لشعبه. ولا أود لشباب الحملة أن يكون دورهم هو دور "زيدون المستشار" – الذي لم ينفك يبرر ذلك النوم للشعب – وأرجو أن يكون دور شباب الحملة هو دور "قرنفل" التي سرقت الختم من الوالي وظلت هي تختم المعاملات وتنفذها في أثناء نوم الوالي ليصحو الوالي ويجد الساحة "اتغيرت واتعمرت"

عاشت مصر حرة للمصريين وبالمصريين




باسم زكريا السمرجي
10/11/2010

الأحد، ٧ نوفمبر ٢٠١٠

نظرة إسلامية بين القومية والعولمة

إنَّ الكلمة المجرَّدة لا تعدو كونها حروفًا تصطفّ في ترتيبٍ معيّن ولا تكتسب معنى حقيقيًّا بذاتها، بل تأتي المناهج التفسيريَّة لتأوِّل الكلمة وتحوّلها من “كلمة” إلى “مفهوم”. والمناهج التفسيريَّة تختلف باختلاف المنطلقات الفكريَّة والثقافيَّة لأصحابها، ولا يخفى على أحد أنَّ القويّ هو من يفرض مناهجه التفسيريَّة، و يتلقَّاها الضّعيف بموضوعيّة متجرّدة على أنّها “علم” يَحتفي به، ويـُــنـَظـِّرُ له، ويجعل منه مركزًا لتفكيره. والمشكل ليس في أنَّ المناهج التفسيريَّة للغرب – وهو القويّ الآن – تستبطن النفعيَّة الماديَّة والنّظرة الاستعلائية لباقي البشر، المشكل في من يُذعنون ويرضون أن يكونوا مسوخًا حضاريَّة تتخلّى عن نفسها, وهي تظنّ أنَّها ستحلّق في سماءِ الغرب الرحيبة, فيهوون في أخدوده السَّحيق ضائعين منزوعي الشخصيَّة.

من تلك المفاهيم التي يدور حولها كثير كلام, تلك المفاهيم التي تتعلق بالإجابة عن السؤال الأزلي “من أنا؟” وأتناول في هذا المقال تناولاً مبسِّطًا مفهومي القوميَّة والعولمة, وأين – في رأيي – يقف الإسلام عقيدةً وحضارةً من هذين المفهومين.

القوميَّة

لكي نتناول مفهوم القوميَّة الذي يمثِّل الهويَّة الجماعيَّة، لابد أن نبدأ بتناول مفهوم الهويَّة الشخصيَّة، ولا أود أن أشغل القارئ بتعاريف الهويَّة في المعاجم العربيَّة والإنجليزيَّة، فهي إن تعدَّدت تتَّفق فيما عبّر عنه ابن حزم في كتابه “الفصل بين الملل والنّحل” بقوله: “إنَّ كلّ ما لم يكن غير الشيء فهو هو بعينه, إذ ليس بين الهويَّة والغيريَّة وسيطة يعقلها أحد البتة, فما خرج عن أحدهما دخل في الآخر ولا بد“, فأنا هو أنا ولا يمكن أن أكون غيري. وإن أردنا التعبير عنها بصيغة رياضية نقول أنَّ: “أ” هو “أ” ولا يمكن أن يكون غير “أ”, وهنا نرى أنَّ الهويَّة هي ما تخلق ثنائيَّة “أنا” في مقابل الآخر.

وبقدر بساطة وجمود مفهوم الهويَّة الشخصيَّة الذي يستعصي على التأويل، بقدر مرونة مفهوم الهويَّة الجماعيَّة الذي يستجيب للتأويل بل يستوجبه أيضًا، لذلك نجد تأويلات متعدّدة لهذا المفهوم, اخترت منها ما يربط الهويَّة بالذاكرة.

فالهويَّة الجماعيَّة “القوميَّة” هي محصّلة الذّاكرة الجماعيَّة لأناسٍ بينهم مجموعة من العوامل المشتركة مثل الأرض أو اللغة أوالدين أو اللون…إلخ.

وأقول أنَّ العقل البشري بطبيعته ليس عقلاً متلقيًّا موضوعيًّا بل هو عقل متحيّز يعمل بشكل انتقائي يكبـّر ويصغـّر ويـُـبرز ويستبعد. والذاكرة فرع على العقل فهي بالتالي ذاكرة انتقائيَّة أيضًا، والذاكرة الجماعيَّة – حين تؤسس لهويَّة جماعيَّة تثبت ذاتها وتطرد عنها الأغيار – تتجوّل في تاريخها لتنتقي منه أيّام عزّها ومجدها, وتنتقي منه ما تؤسس به دعائم هويتها، وتنظّر لفترات اندحارها وهزيمتها كفترات طارئة عليها. وهي تظل تستدعي تلك الهويَّة طوال الوقت خاصّة في أوقات الضّعف والهزيمة، لذلك يكثر الحديث عن الهويَّة في عالمنا العربي الإسلامي.

والهويَّة كما رأينا مفهوم استبعادي يحدد كنه الشيء ويطرد عنه ما ليس منه. وبداية ظهور الحديث عن القوميَّة كان في عصور التنوير الأوربي وتبدّت تجلياته في الثورة الفرنسية (1789 – 1799), ومن قبلها حرب الاستقلال الأمريكية (1775 – 1783)، ولم يكن ظهور ذلك المفهوم في تلك الأثناء مجرد ظهور بل كانت الدوافع القوميَّة هي المحركة للحدثين الهامين (الحرب الأمريكية والثورة الفرنسية)، فكان ظهور مفهوم القوميَّة كرد فعل مقاوم للأوضاع في أوربا في ذلك الوقت ونرى ذلك في مفهوم القوميَّة عند روسو (1712 – 1778) الذي يعبّر عنه بأنه التفاعل بين الشعب وعدو له ودور العامل العسكري في ذلك.

وبعد أن انطلقت القوميَّات كحركة مقاومة وبعد أن تغلَّبت على السلطة الكنسيَّة المهيمنة على أوربا، بدأت في الانقلاب على نفسها فكانت سببًا لحروب طويلة بين قوميَّات أوربا المختلفة تلك الحروب التي كان من نتائجها مثلا تفتّت الإمبراطوريّة النمساويّة. وهي لم تكف بالبقاء داخل أوربا بل امتدت لتتخطى الحدود الجغرافية لأوربا وتصير سباقًا في الاحتلال حتى أنكر جان فرنسوا ليتوارد (1924 – 1998) مفهوم القوميَّة باعتباره من مخلفات الجوانب المظلمة لعصر التنوير بينما ذهب الاقتصادي الأمريكي الكندي جون كينيث جالبرت (1908 – 2006) إلى الربط بين فرص السلام والقضاء على القوميَّة.

ولم يكن ذلك الحال في الغرب فقط بل نقل العدوى إلي شعوب الشرق والجنوب الاستعمار الغربي. وانطلقت في آسيا وأفريقيا الحركات الانفصاليَّة، وفي الوطن العربي انطلقت دعاوى الانفصال عن الخلافة العثمانيَّة – التي لسنا بصدد تقييمها ولا تقييم نظام الخلافة ككل الآن – وتأسَّس مفهوم القوميَّة العربيَّة لا لتجميع العرب – فالعرب كانوا متجمعين تحت راية الخلافة – بل لفصل العرب عن العثمانيين كخطوة أولى لتفتيت الوطن العربي ذاته إلى دول صغيرة يسهل النيل منها، وهذا ما فعله بنا الاستعمار الغربي قديمًا وتعيد الكرّة علينا الآن الإمبريالية الأمريكية عن طريق دعم تقسيم تلك الدول إلى دويلات تتخذ من القوميَّات العرقيَّة والمذهبيَّة والدينيَّة مبررًا لها.

وأرى هنا استطرادًا لا بد منه، فالدول العربيَّة والإسلاميَّة تحمل ذاكرة جماعيَّة وبينها مشتركات ثقافيَّة وفكريَّة وعضويَّة أيضًا تسوّغ الحفاظ على القوميَّة الإسلاميَّة غير أنَّ الاستعمار فرض على ذاكرتنا الجماعيَّة ما تبرزه وما تستبعده وما تنتقيه لـتـُـنـَّـقيه مما يـُتصَّور أنه ليس فيه، فمصر فرعونيَّة والعراق آشوريَّة والسودان إفريقيَّة و لبنان فينيقيَّة… إلخ.

العولمة

والعولمة هي مذهب سياسي واقتصادي يهدف إلى إزالة الحدود بين الدول وتحرير نقل البضائع ورأس المال من دولة إلى دولة, كما أنَّه ينطوي على بعد ثقافي أيضًا حيث يتفاعل بنو البشر مع بعضهم البعض ويفيدوا من ثقافاتهم المختلفة. والعولمة بهذا المفهوم أراها فطرة في الإنسان فالإنسان يميل إلى معرفة أبناء جنسه والتعرّف على ثقافاتهم المختلفة والتفاعل معها تأثيرًا وتأثّرًا، فرغم اختلاف الشعوب والثقافات إلا أنَّ الإنسان يبقى إنسانًا في كل مكان وزمان.

أما العولمة التي نحياها الآن ويرتبط بها “النظام العالمي الجديد” فهي آخر ما توصَّل إليه علم الاستعباد الحديث من آليَّات لتركيع الشعوب وهو – أي النظام العالمي الجديد – أداة الإمبرياليَّة الجديدة لتسخير الشعوب, ولقد أغناها – إلى حدٍ كبير – عن استخدام السلاح والحروب المباشرة التي لا يكتب لها فيها النجاح دومًا.

فذلك النّظام العالمي الجديد الذي يبدأ نظامًا اقتصاديًّا تسود فيه “قِيَم” رأس المال، وتصبح هي المحرّك الرَّئيسي للعالم، وتصير تلك القيم هي معيار النَّجاح والتقدم على المستوى الفردي والجماعي والوطني. وأصبحت المنفعة الماديَّة هي المطلق وكل ما حولها نسبي يُقاس مدى فاعليته بمدى إسهامه في تحقيق تلك المنفعة. وبهذا تنتقل العولمة من عولمة “أوراق بنكنوت” إلى عولمة ثقافيَّة تسود فيها المنظومة القيميَّة للقويّ ويضع هو معايير الصّواب والخطأ، والتقدّم والتخلّف، فيصير هو مركز العالم وفي إرضائه يتنافس المتنافسون.

وبذلك تتماهى الهويَّات جميعها وتصير صيرورات تفضي كلّها إلى الهويَّة الأمريكيَّة الحديثة ويُنظر إلى كل الحضارات السابقة كمحاولات ثوريَّة ظلت تسير على خطٍ مستقيم, ولابد أن تبلغ في النهاية النموذج الأمريكي.

وهذا ما طرحه المفكِّر الأمريكيّ “فرانسيس فوكوياما” في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الخاتم” والذي نشر عام 1992, حيث بشَّرَ بسيادة الديمقراطيَّة الليبراليَّة الأمريكيَّة لتكون هي طريقة الحكم في العالم كله. وينكشف لنا تلقائيًّا ما في هذه النظريَّة من عنصريَّة غربيَّة, و”داروينيَّة” ثقافيَّة وحضاريَّة, تزدري الآخر وتسلب الإنسان خصوصيَّته الثقافيَّة الحضاريَّة وتحوّله إلى مجرّد “كائن حي” أحادي البُعد ماديّ النًَّزعة. ولا ألوم الغرب في ذلك قدر لومي لمن أذعن وتخلَّى عن ذاته وارتضى أن يكون مسخًا حضاريًّا لا معالم له.

المفارقة أيضًا في ذلك النظام العالمي الجديد أنَّ في الوقت الذي تتَّحد فيه قوى الغرب و”يتعولم”، يتفتَّت الشَّرق والجنوب بدعم ومباركة من الغرب وما العراق والسودان عنا ببعيد، ولا يعوز ذا لب مزبد بيان ليعرف الكامن وراء تلك المفارقة.

نظرة إسلاميَّة

قبل أن أبدأ في طرح تلك النَّظرة الإسلاميَّة أودّ أن أبيّن أمرين. الأمر الأوَّل هو أنَّ ما سوف أطرحه وجهة نظري، أبذل جهدي لأدعم أركانها غير أنَّها تحتمل الصواب والخطأ والنقد بل والنقض أيضًا. الأمر الثاني أنَّني أحاول أن أتجاوز في هذا الطرح ما يقع فيه كثير من الناس الآن حينما يتناولون قضايا الفكر الإسلامي، حيث يجعلون نصب أعينهم المواءمة و”تحسين صورة الإسلام عند الغرب”. أحاول أن أتجاوز هذا الفخ وأن أنطلق من منطلق إسلامي خالص عقيدة وحضارة.

يقف الإسلام – في رأيي – في المساحة المتوسّطة بين مفهومي العولمة والقوميَّة, فالقرآن يقرّ وحدة الجنس البشري, واشتراك البشر جميعًا في الأصل الواحد فالله عز وجل يقول: “يا أيَّها النَّاس اتَّقوا ربَّكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلقَ منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءً واتَّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنَّ الله كان عليكم رقيبًا”, ويقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تقريرًا لنفس المعنى:”النَّاس بنو آدم وآدم من تراب”, ويقرّ القرآن أيضًا الاختلاف بين بني البشر, حيث يقول الله عز وجل: ” يا أيّها النَّاس إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير”.

وبالنَّظر إلى النصوص السابقة، نجد أنَّ الإسلام حين أقرّ المفهومين قيَّد أحدهما بالآخر, فنحن وإن كنّا نشترك في الأصل الأوَّل لابد أن نعترف أنَّ تراكم التاريخ السحيق على كل شعب معيّن عاش في مكان معين اقتضى خصوصية ثقافية واختلافا حضاريا بين كل شعب وآخر. غير أنَّ ذلك الاختلاف لا يستلزم خيريّة لشعب على آخر أو لثقافة على أخرى، فمعيار التَّفاضل الوحيد هو التقوى, والحكم فيها لله عز وجل لا لأحد غيره والجائزة عليها في الحياة الآخرة. وقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: “يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى” خير بيان، فلقد أقر وحدة الأصل (الأب) وأقر أيضًا الاختلاف بين العربي والعجمي والأحمر والأسود وبيـّن معيار التفاضل.

إنَّ دعوة الإسلام دعوة عالميَّة حيث يقول الله عز وجل: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”, وقال ربعي بن عامر – معبِّرًا عن جوهر الرسالة الإسلاميَّة – لرستم قائد الفرس: “إنَّ الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”. فالإسلام – في رأيي – منظومة أخلاقيَّة قيميَّة تسمو على كل الهويات, ولا أرى ما يجب أن نسميّه “هويَّة إسلاميَّة”, فحضارة الإسلام احتوت الهويَّات جميعها من غير أن تفرض عليها نمطًا معيَّنًا تقلده.

ولتبسيط المعنى نشبِّه الهويَّة بالدَّوائر, وأقول أنَّ الهويَّة دائرتان. دائرة صغرى مركزيَّة ودائرة كبرى. الدائرة الصغرى هي الأصل الواحد المشترك بين جنس البشر, وهي الفطرة السليمة التي يشترك فيها الناس جميعًا، والدائرة الكبرى هي ما طرأ على تلك الفطرة وما غلــّـفها من مظاهر – تختلف من شعب لآخر – أورثها تراكم التاريخ.

والقوميَّة والعولمة لا تريان تلك الدائرة المركزيَّة فالقوميَّة تعتمد الاختلاف بين الدوائر وتجعله مسوغًا للفصل التَّام بين الهويَّات بل والتفاضل أيضًا، والعولمة الغربيَّة – مع تجاهلها للدائرة المركزيَّة – لا تعتبر وجود دائرة خارجيَّة مكتملة إلا الدائرة الغربيَّة, وتنظر إلى الدوائر الأخرى على أنها غير مكتملة ولم تكن إلا إرهاصات للدائرة الغربية.

بينما يرى الإسلام الدائرتين، وحين تـَعامل تعامل مع الدائرة الصغرى، فرسالته أن يُرَدَّ الناسُ جميعهم إلى أصلهم الإنساني دون فرض قالب محدد عليهم، لذلك لا يوجد شكل معين لزيّ إسلامي – بعد أن يستر العورة -, ولا يوجد رجال دين أو كهنوت في الإسلام, إنما الاجتهاد في الدين حق لكل مسلم أن يتحصل على متطلباته.

ونظريَّة نهاية التاريخ أرى لها جذورًا في الإسلام, حيث قال صلى الله عليه وسلم: ” ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار, ولا يترك الله بيت وبر ولا مدر إلا دخله هذا الدين, بعز عزيز أو بذل ذليل, عزًا يعز الله به الإسلام, وذلاً يُذل به الكفر”, ولكن الفرق بين “عولمة” الغرب و”عالميَّة” الإسلام هو أنَّ عولمة الغرب نفعيَّة ماديَّة تقتضي سيطرة القوي – الذي يملك رأس المال – على الضعيف, بينما عالمية الإسلام عالمية أخلاقية وقيميّة لا سيادة ولا فضل فيها لأحد على أحد. وكما كانت حروب الغرب حروبا استعمارية احتلاليَّة كانت غزوات دولة الإسلام غزوات تحريرية كما قال د. جمال حمدان في كتابه “استراتيجية الاستعمار والتحرير”.

نسأل الله أن يحرّر عقولنا وقلوبنا وأن يبصّرنا بحقيقتنا..


باسم زكريا السمرجي

27/10/2010