السلطة من التسلط، فالقهر في جيناتها ولا سلطة تستطيع أن تتصف بالطيبة، هي إما قاهرة لغفلة المجتمع أو مقهورة ليقظته. لذلك فإن الهدف الحقيقي من الثورة هو تثوير المجتمع وإيقاظه وليس تغيير السلطة. هذه رسالة أوجهها للمهتمين باقتفاء آثار الفساد السياسي للسلطة الموجودة – ليس فقط لمن يدعون لثورة غضب ثانية يوم الجمعة القادم – وفي تلك الرسالة بعض الكلمات تحتاج إلى ضبط سياقي في إطار أحداث ثورة 25 يناير مثل "السلطة"، "المجتمع"، "الثورة"، "التثوير"، "التغيير".
وأبدأ "بالمجتمع"، والمجتمع – عندي – ليس "الجماهير"، بل هو البناء متداخل اللبنات، متعدد الألوان أو هو المساحة التي تتكون من توافقات أفراده – كل في دائرة انتمائه الفرعية المهنية، أو الجغرافية، أو العمرية، أو الدينية أو حتى القـَبَلية – على خلفية الهوية الثقافية الجامعة. وأزمة مصر في العقود السابقة كانت بالأساس أزمة نخبة أصرّت أنها لا تنتمي إلى ألوان ذلك البناء المجتمعي فاختارت أن تبني لنفسها بناية صغيرة وانعزلت عن مساحة المجتمع إلى مساحة صراعات مفتعلة تدور فيها حول نفسها – حكومة ومعارضة – دون أن تهتم بأن تجد لتلك الصراعات مساحة في البناء المجتمعي فتلك النخبة انتخبت نفسها بالأساس ولم تــُـنتخب من المجتمع – وأعني بالانتخاب هنا التوافق – فهي بالتالي لا تستمد شرعيتها إلا من نفسها، تتساوى في ذلك الحكومة والمعارضة.
في الثورة حدث أن تحرّك ذلك البناء المجتمعي وتمددت تلك المساحة المجتمعية لتبتلع النخبة وتتبنى صراعاتها بشكل لم تعرفه مصر في تاريخها الحديث لأسباب عديدة أجد أهمها، محاولات النخبة التي بدأت منذ 2004 أن تندمج في البناء المجتمعي في رحلة كانت أهم محطاتها حركة كفاية، إضراب 6 أبريل، تكوين الحركات الشبابية وعلى رأسها حركة شباب 6 أبريل، حملة دعم ترشح البرادعي للانتخابات الرئاسية، حملة كلنا خالد سعيد. بالإضافة إلى دفعة الأمل الكبيرة التي دفعتها في النفوس الثورة التونسية، غير أن ذلك الاندماج الذي فاجأ الجميع – بين المجتمع والنخبة – لم يلبث أن انفصمت عروته بعد أن زال الخطر الآني ونـُحى مبارك عن الحكم، حيث تفلتت النخبة السياسية مرة أخرى من بين يدي المجتمع وارتدت من حالة ميدان التحرير عائدة إلى حالة سلالم نقابة الصحفيين، حيث عادت مرة أخرى لصراعاتها المفتعلة وظنّت أنها هي الثورة، وصار باقي الشعب ثورة مضادة. فالمشكلة لا تزال موجودة وهي أن النخب ليس لها شرعية التفويض أو التوافق فهي تستمد شرعيتها من نفسها ولا تدين للمجتمع بشيء.
وننتقل هنا إلى "السلطة" وما هي علاقتها "بالمجتمع".وأسأل وأقول هل حقا الناس على دين ملوكهم؟ أم كيفما تكونوا يُولّى عليكم؟! أرى أن الجمع بين القولين جائز، فالعلاقة بين المجتمع والسلطة علاقة دائرية ملتفة، يعبّر المجتمع عن نفسه فيتجلّى في السلطة فتدير السلطة شؤونه بالحكمة فتعبّر عن إرادته وتحميها فيستمر المجتمع في التعبير عن نفسه، وهكذا. ولا نستطيع أن نقول أن البداية لابد وأن تكون من المجتمع أو من السلطة، فالأمر أكثر تركيبية من ذلك، فالبداية على الإطلاق أظنها تكون من المجتمع، غير أن السلطة قد تصل إلى درجات من الفساد والإفساد تحول بين المجتمع وبين الصلاح فلابد هنا أن تكون البداية من "تغيير" السلطة ليس بهدف التغيير وفقط بل بهدف التخلية بين المجتمع وبين التعبير عن نفسه.
وينتقل بنا المقال هنا إلى "الثورة" التي أراها تمر بمرحلتين الأولى ضرورية وهي "التغيير" وأراها أنجزت أكبر أركانها، فالرئيس أصبح مخلوعا والوريث مسجونا. والثانية واجبة وهي "التثوير" وأعني بالتثوير هنا إيصال الثورة لمستحقيها وهم أفراد الشعب المصري، والتثوير الذي أعنيه هنا بالطبع ليس تثويرا لتغيير السلطة وإنما تثوير ذاتي يثور فيها المجتمع على أمراضه التي أورثها إياه نظام احتلال محلي الصنع وتغذى عليها، وهذا التثوير في رأيي يكون بأن يمارس أفراد الشعب المصري ملكيتهم لوطنهم بشكل مباشر كخطوة أولى نحو إعادة إنتاج نخبة جديدة أسميها نخبة مجتمعية تستمد شرعيتها توافقا من القاعدة الأعرض للمجتمع المصري، وتمارس تلك النخبة المجتمعية ضغطا – تدعمه شرعية مجتمعية – على النخب السياسية للدفع في اتجاه تحقيق المصلحة.
في ضوء كل ما تقدم أعلن أنني:
· لا أنكر على من تنادوا بالنزول يوم 27 مايو مطلقا ولن أشارك فيه
· أستنكر أن يُسمى ذلك اليوم بالثورة الثانية وإنما هي خطوة على طريق التغيير حالّة وواجبة لضمان استمرار مسيرة الثورة لكنها ليست ثورة مستقلة ولا هي أيضا "الثورة"
· أستنكر بشدة الالتفاف على الشرعية الشعبية والتنادي بمجلس رئاسي مدني، أو بتأجيل الانتخابات أو بتقديم وضع الدستور على الانتخابات البرلمانية
· أستنكر أن نفتح كل ملفات "الفساد"، كما أستنكر أن نتغاضى عن أي من ملفات "الإفساد". فمع شكل نظام كنظام المخلوع البائد اختلت المنظومة الأخلاقية والقيمية داخل المجتمع واضطر بعض الناس لأن يكونوا فاسدين مواكبة للظروف وهم كثير ولكنهم في النهاية يصلحون بصلاح السياق فأرى أن نهتم أكثر بملاحقة المفسدين حتى نستأصلهم وأن نتسامح مع بعض من "تورّطوا" في الفساد.
· أرى أنه بعد فشل مؤتمر الحوار الوطني ومؤتمر مصر الأول لم يعد لدينا سوى مبادرة إعادة إحياء التيار الرئيسي المصري كإطار واسع عريض – لا يملكه أحد – يمارس فيه المصريون ملكيتهم لوطنهم.
باسم زكريا السمرجي
باحث بمركز المربع للدراسات الإنسانية والاستراتيجية
25/5/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق