الأحد، ٨ مايو ٢٠١١

الأنسنة قبل المواطنة

في البدء كانت كلمة، والكلمة هي الروح، والروح هي سر الله التي أودعها في الإنسان فكان الإنسان هو التجلي الأعلى لفعل الخلق. فالله خلق الإنسان من العدم وأتم خلق جوّانيته في عالم الأبد واستخلفه في الأرض على التأقيت ليعبده فيها حق عبادته بإعمارها حق عمارتها حتى يأتيه اليقين بأن تُنزع روحه من الجسد وتعود من عالم التأقيت إلى حيث تنتمي، إلى عالم الأبد. خلق الله الإنسان وكرّمه عن سائر المخلوقات بأن جعل عبادته لله حرية واختيارا لا قهرا وإجبارا. وهذا التكريم محدود بحدين، من تجاوز أي منهما فقد ارتضى بالدنية في إنسانيته، الحد الأول هو الإيمان بوجود الله مصدرا للمعيارية ومرجعية مطلقة وحيدة متجاوزة للطبيعة وللمجتمع وللإنسان ذاته غير حالّ في أي منهم، والحد الثاني هو اليقين بأن هذا التكريم للإنسان لأنه إنسان يسبق انتماؤه للإنسانية أي انتماء لهوية صنعتها عوامل الزمن.

وبإمعان النظر في مفهوم الاستخلاف أو العمارة نجد أنه بالأساس يتركز حول الإنسان – المنتمي أساسا إلى عالم الأبد – لا حول الأرض أو الطبيعة التي هي – مهما طال بقاؤها – إلى زوال، لذلك على الإنسان أن يضع نصب عينه دائما من أين يبدأ وما هو المهم لذاته فيُلتفت إليه وما هو المهم لغيره فيُلتفت عنه إلا بقدر الحاجة. فالإنسان لابد وأن ينطلق في تفاعله مع الحياة ومقصده هو التحقق بحقيقة جوهره الإنساني الجوّاني والأخذ من الظواهر ما يعينه على التحقق بذلك الجوهر الإنساني الكامن في حريته التي هي مصدر تكريمه كما بينّا في الفقرة السابقة.

ومن هذا المدخل أتناول – بشكل موجز – مفهوم "المواطنة"، الذي لا يستقيم أن نتناوله إلا مرتبطا بمفهوم "الدولة القومية" فالمفهومان ارتبطا ارتباطا عضويا في النشوء والمآلات. ولابد قبل البدأ أن أبيّن أن المفهومان تمت صياغتهما من تفاعلات الحضارة الغربية حينما ظن الإنسان الغربي أنه يحتاج مثل تلك المفاهيم ومدلولاتها وتجلياتها على الأرض، وفي هذا المقال سأحاول أن أقدم اجتهادا – يعزيني إن أخطأت فيه رجاء نوال أجر المجتهد المخطئ – للمقارنة بين "الدولة" و "المواطنة" ومدلولاتهما في النموذج الحضاري الغربي والنموذج الحضاري العربي الإسلامي.

إن الدولة القومية كسياق وأرضية يمارس عليها المواطن مواطنته نشأت في الغرب في أعقاب ثورات طبقية أو حروب اقتصادية أو عرقية، فكان لابد من نشوء كيان يحفظ مكسب المنتصر في تلك الصراعات وكان لابد لذلك الكيان أن يكون كيانا ماديا ذا حدود مرسومة لأن تلك الصراعات كانت كما قلنا صراعات على موارد فكان لابد من الحدود كي تحدد مناطق نفوذ الجماعة المتغلبة ليحفظها من الغزو ويصرف تركيز القائمين على تلك الموارد إلى تنميتها، فالدولة نشأت للحماية والتنظيم وفرض السلطة في الداخل والخارج بغية تعظيم الإنتاج واستغلال الموارد الاستغلال الأمثل، وارتبط بذلك نشوء المواطنة كوسيلة لإقامة العدل بين المواطنين في توزيع الموارد عليهم، فالقضية كلها قضية موارد وقضية إنتاج وكان لابد من ضمان حقوق الجميع حتى يسهل إعادة صياغة البشر كأعضاء وظيفيين في المجتمع. صاحب ذلك بعض أشكال الحقوق والحريات التي في النهاية ترمي إلى تصنيع الإنسان الموظف المثالي الذي يستقيم والعقلية الصناعية الحاكمة لمفاهيم الغرب والتي كانت بمثابة السياق العام الذي ازدهرت فيه حضارة الغرب.

بينما مفهوم الدولة الحديثة في الشرق العربي يختلف بالكلية عن مثيله في الغرب. هذا إن سلمنا بوجود هذا المفهوم أصلا في الشرق. على أية حال نستطيع أن نقسم دول الشرق إلى قسمين، القسم الأول دول مصنوعة ما بعد سايكس بيكو وهي دول حتى الآن لم يستقر لديها مفهوم الدولة الحديثة لا على مستوى النظرية ولا على مستوى التطبيق بل مازالت تلك الدول تأخذ شكل القبائل حتى وإن ادّعت غير ذلك. والقسم الثاني دول طبيعية ذات حضارة قديمة مثل مصر والعراق والشام. وصحيح أن الدولة نشأت في تلك الدول لتنظيم توزيع الموارد كما في دول الغرب غير أن الفارق كان في السياق الذي ازدهرت فيه تلك الحضارات وهو السياق الزراعي الذي يمتاز بأنه أكثر من السياق الصناعي اقترابا من جوهر الإنسانية. فبينما تقع العقلية الصناعية في غواية السيطرة على الطبيعة والإحاطة بجميع أبعادها، تتماهى العقلية الزراعية مع الطبيعة وتقر بعجزها أمام أساطيرها، لذلك نجد أن الدين – حتى الوثني منه – والأساطير مكونان أساسيان جميع الحضارات الزراعية بينما كان الإلحاد هو السمة الأساسية للحضارات الصناعية.

على أية حال توحّد الشرق بدوله وقبائله تحت راية واحدة وهي راية الدعوة الإسلامية لتتكوّن "أمة" إسلامية. والأمة في المفهوم الإسلامي غير الأمة Nation في المفهوم الغربي التي نشأت على أركانها الدولة القومية, فرابط الأمة في المفهوم الإسلامي ليس رابطا عرقيا أو اقتصاديا إنما هو رابط فكري وهي في ذلك تمتاز بالرخاوة والاستيعابية ولا يمكن أن تحتويها حدود بل هي عابرة للحدود تهدف إلى التجميع لا التفريق والتقريب لا إلى إثبات التمايز فرسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وأمة محمد هي العالمين وهي أمة دعوة أسلمت له وحملت همّ الدعوة إلى دينه وأمة استجابة وهي محل الدعوة والمراد لها أن تستجيب لها.

نرى من ذلك أن الأمة الإسلامية هي أمة رسالية وتلك الصبغة الرسالية منشؤها الدور الوجودي للأمة في الحياة الذي يبينه الله لها في قوله تعالى }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا{ وتلك الشهادة لن تتحقق إلا بتبليغ الدعوة وإقامة الحجة على العالمين، لذلك كانت الحاجة لشكل "الدولة" في الأمة الإسلامية حاجة تنظيمية لا حاجة سلطوية، فرسالة الإسلام وهي في جوهرها رسالة تحرير كما عبر عنها الصحابي الجليل ربعي بن عامر في حواره مع رستم قائد الفرس حين قال }إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام{ تلك الرسالة التحريرية لا يستقيم أن تُنشر تلك بسلطة القهر، فكانت مهمة الدولة هي تسهيل المهمة الرسالية للأمة في الدعوة إلى الله سواء كانت تلك الدعوة بالسلم أو بالحرب على السلطة التي تحول بين الأمة وبين الدعوة، فالمرجعية في الأمة الإسلامية متجاوزة للطبيعة وللإنسان وللمجتمع لذلك فإن التصور الإسلامي عن الإنسان – الذي يسوّي بين الإنسان وبين الطبيعة وبين المجتمع في التأكيد على حاجتهم جميعا للاتصال بالله مصدر المرجعية المطلقة المتجاوزة – ذلك التصور هو الأقرب للصواب وهو الأكثر تحقيقا للحرية الإنسانية، لذلك لم ينشأ مفهوم المواطنة في الأمة الإسلامية لأن الدولة لم تكن سوى أداة تنظيمية ولم تكن تمثيلا للوطن كما هو الحال في الغرب ويثبت ذلك كثرة الدويلات التي نشأت في كنف الدولة الإسلامية وكانت تظل محتفظة بصبغتها الإسلامية وتقيس كفاءتها على مدى قدرتها على تأدية دورها الرسالي وكانت تلك الدويلات تستقل أحيانا إداريا عن دولة وكانت أحيانا تلك الدويلات تحتفظ أحيانا بتبعيتها الصورية للخلافة.

إن أزمة دولة الحداثة أنها مرجعية نفسها يُقاس عليها ولا تُقاس تلتف حول نفسها حتى تختنق، فتجد بونا شاسعا بين نظرياتها وبين تطبيقات تلك النظريات على الأرض فالاشتراكية التي تجعل من العدل رسالتها الأساسية تحول البشر إلى مجموعة من التروس منزوعة الإنسانية في آلة الإنتاج وتحول الثورة والنفوذ من الإقطاعيين إلى رجال الدولة، والليبرالية التي تجعل من الحرية رسالتها الأساسية ترتبط ارتباطا عضويا بالرأسمالية التي تحول البشر إلى مخلوقات منزوعة الإنسانية تلهث وراء رغباتها الحيوانية وتحول بوصلة العبودية من عبودية قهر لرجال الكهنوت أو رجال الملك إلى عبودية طمع لرجال المال، والديمقراطية التي هي في أساسها إعطاء الفرصة لكل أفراد الشعب أن يُمثلوا في عملية صنع القرار تفتح الباب على مصراعيه لأصحاب المال أو النفوذ لأن يتلاعبوا بعقول البشر بغية الوصول إلى المناصب. كل ذلك منشؤه تحول الوسيلة الصناعية إلى غاية حتمية يُضحى في سبيلها بالمقاصد الإنسانية الحقيقية.

من أجل ذلك أدعو كل القائمين على الفكر في الدول الإسلامية أن ينتهزوا فرصة الثورات الشعبية وأن يجتهدوا في إعادة تعريف المفاهيم وإعادة رسم الخرائط الذهنية المكونة لتصوراتنا الحاكمة وألا يرتهنوا أنفسهم لمثاليات التنظير بل أن يسددوا ويقاربوا في التحرك وفقا لهذه الخرائط الجديدة. فالدولة القائمة على التفويض الذي يتم من خلال آليات الانتخاب يجب أن تُعاد صياغتها فيكون ذلك التفويض ليس لمن يحقق للفرد مصلحته النفعية ولكن لمن يتوافق والمعايير المستقاة من مصدر المعيارية المتجاوز فيعود الإنسان لحريته ويتحرر من عبودية للمال أو للمجتمع أو لرجال الكهنوت، ويعود الإنسان إنسانا لا موظفا وتعود الدولة دولة الإنسان لا دولة المواطن، وسيلة تنظيمية لا إلها.



باسم زكريا السمرجي
7/5/2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق