نظرة على الثورة المصرية من شرفة التأمل قد تكشف لنا بعضا من ملامحها وتساعدنا على طرح رؤية أكثر تفسيرية للثورة وما أحاط بها وما تبعها من أحداث.
نستطيع أن نقسّم الثورات تقسيمات على أسس مختلفة، لعل إحدى تلك الأسس تجعلنا نقسّم الثورات إلى ثورات فعل وثورات رد فعل. أقصد بثورات الفعل هي الثورات التي تنشأ من تراكم أيدولوجي وتتقدم ببديل واضح ومتبلور للنظام القائم مما يُسهّل مهمة البناء بعد الهدم ومثال لذلك الثورة البلشفية، ذلك النوع من الثورات يمتاز بأنه سياسي بالأساس تقوده نخبة سياسية ما تطرح أيدولوجية سياسية محددة تتفرع منها الرؤى الاجتماعية والاقتصادية، فتسبق السياسة فيها المجتمع مما يرشح مثل تلك الثورات إلى إنتاج ديكتاتوريات أخرى. بينما الصنف الثاني من الثورات طبقا لهذا التصنيف هو ثورات الغضب الانفجارية التي تكون رد فعل لقهر واستبداد النظام القائم. عادة يسبق المجتمع في مثل تلك الثورات النخب السياسية، ولا تمتلك تلك الثورات بديلا متبلورا لأن التراكم الثوري فيها يكون تراكما من الغضب والرفض المجتمعي الذي لا يمتلك رفاهية بلورة نموذج سياسي بديل للنظام القائم، يتصاعد التراكم الثوري حتى يُسقط النظام ثم تقف الثورة حائرة لا تدري ما تفعل، والثورة المصرية تنتمي إلى ذلك الصنف الثاني من الثورات وتتشابه في ذلك ربما مع الثورة الفرنسية، لكن الجديد في الثورة المصرية أنها وإن كانت ثورة غضب وانفجار فهي لم تكن ثورة دموية بل كانت ثورة امتازت بالسلمية المفرطة والرقي المبالغ فيه في بعض الأحيان، وهي في ذلك تستبطن ملامح نموذج إنساني جديد يحكم العلاقات بين فئات المجتمع وبعضها وبين الشعب والسلطة.
إن النموذج الإنساني يمتاز بالرخاوة والغموض، وهذا لإنه إنساني غير مادي لا يمكن التعامل معه بشكل "علمي" بعكس الأيدولوجيات التي ترى الإنسان الموظف لا الإنسان الإنسان. إن النموذج الإنساني يحتاج للنخبة المثقفة أن تساعد في استجلائه وصياغته فالشارع وإن سبق النخب في مرحلة الهدم كان لابد للنخب أن تلحق بالشارع وتقوم بدورها في تقديم صياغات بنائية ذات مقدرة تفسيرية عالية تستطيع أن تٌفسّر حقيقة تلك الثورة وما يجب أن يكون شكل البناء بعدها، لكن للأسف صار جل ما انشغلت به النخب هو لـَي عنق الثورة حتى تتوافق وما يريدون مما أنتج استمرارا لعزلة النخبة عن المجتمع حين عجزت النخبة عن تقديم صياغة سياسية حقيقية لحركة المجتمع وابتكر النشطاء والنخب ليبرروا فشلهم عنوانا براقا هو "الثورة المضادة" الذي صاروا يلصقونه بكل ما لا يوافق هواهم في نزعة وصائية بغيضة.
لجأ المجتمع إلى نفسه واستكمل ثورته على السلطة التي بدأها على سلطة الكرباج ليكملها ثورة على سلطة القلم وعاد المصريون مرة أخرى إلى التمترس خلف انتماءاتهم الطائفية أو الفئوية ليشعروا بالأمان والألفة فهم في انتماءاتهم الفرعية حتى وإن مورست عليهم سلطة ما داخل تلك الانتماءات الفرعية فهم الذين توافقوا على تفويض تلك السلطة ولم تفرض نفسها عليهم.
الأزمة ليست في الرجوع للانتماءات الفرعية لكن الأزمة أن تنسحب الأرضية المشتركة من تحت أقدام تلك الانتماءات الفرعية فتظهر حالة السيولة التي نكابدها الآن ومنشؤها التخبط والتناحر بين الاتنماءات الفرعية تلك.
إن الحل ليس في أدلجة المجتمع المصري الذي أثبت عبر التاريخ أنه عصي على الأدلجة فالمصري قد انصهرت إنسانيته ونضجت من خلال التفاعل مع التاريخ عبر آلاف السنين مما جعله عصيا على التنميط والتوظيف والأدلجة فالمجتمع المصري دائما مكونا من دوائر متداخلة ومتشابكة فالفرد تابع لديانة معينة ويشترك مع تابع لديانة أخرى في نقابة أو اتحاد عمال ما، وهكذا.. ولم تكن تقسيمات المجتمع المصري أفقية متصارعة صراعا طبقيا. فالحل ليس في استيراد المعلبات من النماذج والأفكار.
الحل يا سادة أن نعيد قراءة الواقع بما هو عليه لا بم أردنا له أن يكون وأن ننتقل من مرحلة "الحفظ" والتطبيق المدرسي إلى مرحلة "الفهم" والاستجلاء والاستكشاف وتقديم الأطروحات واختبار مقدرتها التفسيرية وإعادة تنقيحها وهكذا حتى الوصول إلى أقرب الصياغات من حقيقة الثورة.
الحل يا سادة وبدون مواربة في تفعيل التيار الرئيسي المصري حيث تُستنطق دوائر الانتماء الفرعية تلك بأحلامها وهواجسها ومخاوفها وتقيم حالة من الحوار عليها مع نفسها أو مع غيرها من الدوائر ويكون دور النخب في تلك العملية دورا ترشيديا لا دورا إرشاديا لا يتعدى كونه اشتراكا في الحوار وصياغة نتائجه.
لا أدري لماذا أشعر الآن أكثر من أي وقت مضى أني أفتقد د. عبد الوهاب المسيري بل وأبكي لفقده رحمه الله.
باسم زكريا
باحث في مركز المربع للدراسات الإنسانية والاستراتيجية
9/5/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق