الثلاثاء، ٢٥ أكتوبر ٢٠١١

خواطر من البحر

"اللي قضّى العمر هذار، واللي قضّى العمر بجد ... شد لحاف الشتا م البرد" هي جملة من أغنية "الشتا" لمحمد منير والتي تتحدث عن الموت "لحاف الشتا". ذكرني بها أخي أحمد عادل ونحن في القطار عائدين من الإسكندرية مساء الأحد الماضي. حيث قضينا اليوم هناك، كان هو يقوم بإنجاز بعض الأمور المهمة كعادته وأقوم أنا بمراقبة البحر.

ليس المهم كيف بدأ اليوم، ولا مغامرات اللحاق بالقطار التي انتهت بي مُكوّما في "ميكروباص" في وضع أشبه بوضع الجنين لخمس ساعات كاملة. المهم أن في ذلك اليوم كان البحر شتائيا به عنفوان، وكانت الريح تقلّبه بيد وباليد الأخرى تضرب جسدي الذي لم يكن يمنعه منها سوى قميص صيفي خفيف. في هذا اليوم تركت نفسي للبحر وللريح. اعتليت إحدى القوالب الخرسانية التي تقف على خط المواجهة مع جيوش الأمواج، لم أحاول أن أتّق بخطوة خلفية مثلا بقايا جيوش الأمواج التي استطاعت تجاوز خطوط الدفاع الخرسانية الأولى. بل كنت أفسح لها الطريق لجسدي فتقتحمه، والريح مازالت يدها تدفعني حتى خارت مقاومتي وصرت وسطا شفّافا تخترقه يد الريح اختراقا. وهكذا بعد حوالي ساعتين من المعركة تم اختراق كل مسام روحي واضطررت أن أنسحب من الميدان حتى لا يتحول "البنطلون" من مصاب إلى شهيد! فالمثل القائل "البلد اللي مالكش حد فيها شلّح واجري فيها" لا يجب أن يُطبّق بالمعنى الحرفي على أية حال.

انسحبت من تلك المعركة ولم يبق لي من نفسي شيء فلقد انفتحت روحي تماما للكون. ألقيت على البحر نظرة أخيرة أحاول أن أفهم مقدار التشابه بيني وبينه وابتسمت رغما عني ابتسامة ذات مغزى وانصرفت لألتقي بأخي أحمد عادل لنقضي ساعة أو يزيد قبل ميعاد قطار العودة. حدّثته عن الحالة النفسية التي أمر بها الآن وكيف أني أقف على الحياد التام بين كل المشاعر، فلا أنا متفائل ولا أنا متشائم. ولا أنا حزين ولا أنا سعيد، غير أني أشعر بالإشفاق. أشفق على حال الإنسان الذي صار من كثرة انشغاله بتفاصيل الحياة كالحية التي تأكل ذيلها، وينمو ذيلها كل يوم بمقدار ما تأكل فتستمر معاناتها، فلا هي تمتنع ولا هي تنتهي حياتها، بل تظل تعذب نفسها، وأشعر بالرضا أيضا. الرضا لأني غير قادر على أن أكون أسير تلك الحلقة، فأنا أذهب لعملي كل يوم مرتديا ربطة العنق، ولكني أحرص على أن أركب "التوكتوك". فأنا أستقل "التوكتوك" في طريقي إلى الـ"corporate" التي أعمل بها، ثم أعود من عملي غالبا وقت أذان العشاء فأصعد إلى المنزل أبدّل ملابسي وأرتدي إحدى عباءاتي الأثيرة التي تكرهها أمي لأنها "مش منظر!" وأنزل لصلاة العشاء حريصا على أن أحيي كل من في طريقي (ليس من باب السلام على الغرباء، ففي الحيّ الذي أسكنه لا يوجد غرباء). أحيي كل من أقابله وكأنني أشد على يديه وأحيي فيه تمسّكه بفطرة إنسانية هي حائرة تسعى في صحراء المادية المقفرة تنتظر أن تتفجر زمزم من مكان ما.

***

كنت أفكر في سيدنا الحسين بن علي عليه السلام، إمام الثائرين وسيد شباب أهل الجنة، حيث زرت قبره منذ أسبوع أو يزيد وخرجت بسؤال: هل انتصر سيدنا الحسين في ثورته أم انهزم وانتصر يزيد؟ الجواب بديهي وهو أن الحسين انتصر، ولكن المقاييس المادية تقول أنه انهزم وانتصر يزيد، فالسؤال إذن وما المعيار الذي نقيس عليه النجاح والفشل والنصر والهزيمة؟ ليس الجواب مهما لكن المهم أن نتساءل عن هذا الأمر، عن المعيار. تذكّرت الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله ورضي عنه، وخطبته عن استشهاد الحسين، وآه من الشيخ كشك. ينفر منه بعض أبناء جيلي لأنه "بيزعّق"! ولكني أطرب لهذا "الزعيق" حقا أطرب، فصوته صوت حق ينبت من قلبه ويُروى بإخلاصه فينشر ظلاله على قلوب مستمعيه، يكفيني أن أستمع له يقول "يا أكرم الأكرمين يااااااااارب" رحمه الله سأل الله من على المنبر أن يقبضه إليه وهو ساجد ومات رحمه الله ورضي عنه وهو ساجد يوم الجمعة قبل صلاة الجمعة، وهو يؤدي صلاة الضحى.

كنت أتحدّث مع أخي أحمد عن الشيخ كشك، في القطار وأحاول أن أقارن – على استحياء – بينه وبين ما يتسمّون بالعلماء الذين يحيون بيننا الآن، وكنا نحاول أن نتخيّل ما كان يفعل لو كان بيننا الآن. إن مثل الشيخ كشك في الحياة كمثل العلامات الإرشادية التي يدلّنا الله به على حقيقة الدنيا، وعلى الحجم الحقيقي لهمومنا، همومنا التي تدفعنا للتفاؤل أو للتشاؤم، فهذا الرجل كفيف البصر مُنوّر البصيرة مع ما تعرّض له من تنكيل وعذاب لم يكن يهدأ عن الجهر بم يراه حقا، ولم يكن مع ذلك عابسا مزمجرا متوعّدا، بل لا تكاد تخلو له خطبة من طرفة يحكيها، بل كان يتندّر على المُخبرين وعناصر الأمن من على المنبر. فيُحكى عنه أنه في مرة قال ما معناه، الإخوة المُخبرين في الصف الأول يتقدّموا قليلا حتى يفسحوا مكانا للمصلّين خارج المسجد.

***

كنت أشعر بشيء من الإحباط واليأس. لم يكونا إحباطا ويأسا مُقعدين عن العمل، بل إن الأمر أنني وفجأة لا أجد لنفسي مشروعا يحتويني، فأنتدب نفسي له، وأنفق في سبيله الجهد، لا أجد "قضية حياة" أسعى في ظلالها، فكل ما في الحياة لا قيمه له سيأكله الموت يوما. أحلامي تساقطت أمامي كأوراق شجيرة غضة يجتاحها خريف واقع قاسٍ. ولا مانع عندي من الحياة بلا أحلام ولا أهداف تتحقق فيها، فالمعيار الذي نعرف به الصواب والخطأ ونفرق به بين النصر والهزيمة هو أصلا معيار متجاوز للحياة غير حالّ فيها. ولا أرى ثابتا يصح الركون إليه والتسليم له سوى الله، التسليم لله الذي قال عنه الأستاذ علي عزت بيجوفتش رحمه الله ورضي عنه أنه "ضوء يانع يخترق التشاؤم ويتجاوزه"، التسليم لله ذلك الضوء الخافت في نهاية نفق النفس المظلم، ذلك الضوء الخافت الذي ترشدنا إليه مصابيح خافتة على جانبي ذلك النفق هي العبادات التي أمرنا الله بها، والتي ما علينا إلا الامتثال لها حتى وإن لم توافق هوانا، فنحن نعبد الله لا هوانا.

***

لم ينته اليوم بعد، فلقد أرسل الله لي هدية في القطار في طريق العودة، حيث كان يجلس أمامنا عائلة أجنبية تبدو أمريكية من لهجتها وكان لديهم أطفال وكانت إحدى تلك الأطفال لم تبلغ العامين، التفتت إلي فداعبتها وداعبتني حتى صارت تبادلني ألعابها وكانت عبارة عن سيارة صغيرة ودمية ظللنا نقذفها على بعضنا البعض في مرح وصرنا صديقين، وحينما فتحت لها ذراعي كادت تقفز علي لولا أن محاولاتها للنفاذ من المساحة الضيقة بين الكرسيين فشلت لضيق المساحة فحاولت اعتلاء الكرسي ولكنها مع الأسف لم تفلح أيضا. الأطفال هم الأقرب للفطرة، هم بهجة الحياة وإشراقها، وكانت تكفيني إشراقة تلك الطفلة في وجهي كهدية من الله تخفف عنّي حدة الفكر وهمّه

***

"علّق حلمه على الشماعة"

"علّق حلمه على الشماعة"




باسم زكريا السمرجي

25/10/2011

هناك تعليق واحد:

  1. حقاً وصدقاً لا أعلم كيف أشكرك :)

    ندخل ف الموضوع؟ :)

    أولاً المعيار المادي البحت... فاشل.. يعني يزيد انتصاره انتصار الفشلة. لأنه مات مصحوباً باللعنات والدعاء عليه من أغلبية السنة ناهيك عن 99.9999% من الشيعة

    وحتى أي منصف من غير المسلمين... لن يعتبره رجلاً ناهيك عن اعتباره حاكماً أو بطلاً...

    أما سيد شباب أهل الجنة.. فقد انتصر بترسيخه لمبدأ.. وتأسيسه لقضية لم يصدر الحكم النهائي فيها بعد. وهي ليست قضية بين خصوم وأمام منصة... ولكنها قضية بمعناها الرسالي

    نيجي لنقطة إنك مش لاقي ما يحتويك... هو أنا مش لاقي ما يحتويني رغم إن الفكرة موجودة عندي وعند غيري ولو دعبسنا شوية هنلاقي كتير

    بس الفكرة إن دايماً القضبان الحديدية اللي المفترض بتمشي عليها قطارات الأفكار والمشاريع... بتحسها مسدودة .. سواء بفعل فاعل.. أو بفعل الأقدار

    ولذلك علينا أن نصنع قضبان السكك الحديدية الخاصة بنا.. أو أن نبحث بتأني أكثر عن تلك المسارات التي ستشقها أفكار ومشروعات وأطروحات

    والحلم مش شرط يكون حلم بمعناه المادي المتعارف عليه كما تعلم وكما هو بديهي

    وفي النهاية لن أحسدك على رحلتك مع موج البحر... لأنك تطرفت فيها شوية لدرجة إنه من المعجز إنك رجعت من غير دور برد *بعد الشر* :)))

    ولن أحسدك على رفقة الرائع أحمد عادل في رحلة القطار إياباً والتكتيف باص ذهاباً .. رغم إني أتمناها ولكنها ما زالت ممكنة :))

    أحسدك *بمعنى الغبطة* على رحلتك لينابيع الفطرة... مع الطفلة الصغيرة اللي حسيت إنها قدام عيني من وصفك لها ولتلقائيتها في اللعب معاك... وفي التواصل مع الطفل بداخلك
    دمت باسماً لكل من يعرفونك:)

    ردحذف