الأربعاء، ١٩ أكتوبر ٢٠١١

الثورة ... "الفن المصراوي بجد" الذي بحث عنه حسن أرابيسك

قد أقرأ كلمة فلا تتجاوز عيني صورة حروفها، وقد يستحسن عقلي بعض المعاني فيها، غير أنها قليلة تلك المرات التي أجدني أتجاوز حروف الكلمة ومعانيها إلى روحها، وتتجاوز هي عيني وعقلي إلى روحي. وهذا ما حدث معي منذ يومين عندما صادفت الحلقة الأخيرة من مسلسل "أرابيسك" للكاتب المبدع أسامة أنور عكاشة، تُذاع على التليفزيون المصري .. ربما وافق السؤال الذي أرّق روح الكاتب المبدع رحمه الله وهو يكتب تلك الحلقة السؤال الذي كان يؤرّق روحي وأنا أشاهدها.


والمسلسل لمن لا يعرفه يحكي باختصار مخلّ عن "حسن أرابيسك" فنان الأرابيسك الشعبي الذي يتولى مسؤولية تنفيذ أعمال التشطيبات الخاصة بفيلا الدكتور برهان العالم المصري الذي عاد لتوّه من الولايات المتحدة ويريد أن يبني فيلا أراد لها أن تكون تحفة فنية بأن تمثل تاريخ مصر كله، وهذا ما حيّر حسن ثم اعترض عليه بعد ذلك وكانت وسيلة اعتراضه هي القيام بأعمال تخريبية في الفيلا حتى وهن أساسها ولم تستطع أن تصمد لأحد توابع الزلزال الشهير فانهارت.


والمشهد الذي أعنيه هو لحسن في السجن – بعد أن اتُهم واعترف بتعمّده هدم الفيلا – يخطب في المساجين مفسّرا حتمية انهيار الفيلا باستحالة تنفيذ رغبة صاحب الفيلا لأن "الترقيع ما ينفعش، البزرميط ماينفعش، والفن الحقيقي مش طبيخ" وأننا لكي نمثل تاريخ مصر الحقيقي الطويل الحائر بين الفرعوني والروماني والقبطي والإسلامي ... إلخ لابد أن نعرف متى كانت مصر هي "مصر بذات نفسها"، "مصر بحق وحقيق"، وحين نعرف ذلك سنعرف من نحن "ولمّا نعرف احنا مين هنعرف احنا عايزين ايه". ثم يستطرد ويصل إلى الجملة التي استوقفتني وهي "مفيش حاجة جت عَجَنت ده كله في بعضه وطلعت فن نقدر نقول عليه هو ده الفن المصراوي اللي بجد" ثم ينهي خطابه بـ "إنما المهم، المهم أوي، نعرف احنا مين وأصلنا ايه. ساعة ما نعرف احنا مين، هنعرف احنا عايزين ايه ونبدأ ونتَكّل على الله"


وددت لو أن الكاتب الراحل حيّ بيننا الآن ليشهد الثورة، فلربما وجد فيها ضالته، ربما وجد "الفن المصراوي اللي بجد" في لوحة الموزاييك التحريرية التي كان الكل فيها متديّنون، فوقت الصلاة ينقسم الناس إلى مصلّين أو حماة لهم، والكل فيها اشتراكيون يتشاركون الخيام والطعام دون تمييز أو تصنيف، والكل فيها ليبراليون لا يبحث أحد لأحد عن تصنيف أو عنوان فالسيدة القبطية تصب ماء الوضوء للشيخ الملتحي، والشاب السلفي يشارك في حلقة للغناء مع الفتاة السافرة .. ذلك هو الفن المصراوي اللي بجد الذي كان يبحث عنه الراحل أسامة أنور عكاشة فنا يحتوي كل العناصر التي تاه بينها الدكتور برهّان وحيّر معه حسن أرابيسك، فنا يحتوي كل تلك العناصر دون أن يضطر أن يكون واحدا منها.


وننتقل من حكاية حسن أرابيسك، أو ننتقل بها إلى الثورة وننتقل بالثورة إلى الدولة بل وإلى أصل فكرة "العلوم الاجتماعية" والتي أعترض عليها ابتداء وأحب أن أسميها "دراسات" بدلا من "علوم"، لأن العلم لكي يكون علما لابد أن يتسم بأكبر قدر من الموضوعية والحياد، وأقول "أكبر قدر" لأن الحياد التام والموضوعية الكاملة هي محض خرافات كما تعلّمنا من أستاذنا د. عبد الوهاب المسيري، وأكبر قدر من الحياد أقصد به ما يتوّفر في قاعدة أن الماء يغلي عند درجة حرارة 100 دون اعتبار للموطن الذي اكُتشف فيه ذلك الاكتشاف، ولا للغة التي كُتب بها أول مرة. ولا يهم إن كان ذلك الماء في كوب من الحديد أو من الزجاج أو من الورق المقوى، ما إن تصل درجة حرارة الماء إلى 100 سيتحول إلى بخار. وذلك القدر من الحياد والموضوعية لا يتوافر في الدراسات الاجتماعية، فلا يُمكن تجريد أي نظرية وُضعت في هذا المجال من واضعها ولغته وجنسيته، ففي الغالب كانت تلك النظرية جوابا لسؤال مُجتمعي مخصوص بمجتمع ما في ظرف مكاني وزماني ما، ويصعب بل يستحيل تجريد النظرية من كل تلك التحيّزات المتشابكة، فتلك التحيّزات المجتمعية هي التي تُنشئ النظرية بالأساس وتفريغ النظرية منها لا يبقي في أيدينا إلا جسدا أجوفا لا أكثر. وكلامي ليس بهدف التقليل من شأن العلوم الاجتماعية وإنزالها من مرتبة العلم إلى مرتبة أدنى منها بل على العكس فالتأكيد على الجانب الذاتي في الدراسات الاجتماعية هو للتأكيد على عبقرية منظّروا ذلك المجال وتفرّدهم عن أقرانهم، وذلك التأكيد أيضا هو ما يُمكننا من الاعتراف بحاجتنا لإنتاج أفكار جديدة وهو ما يحول بيننا وبين السقوط في فخ استهلاك الأفكار والانسحاب من ميدان إنتاجها.


والثورة المصرية خير دليل على ذلك، فهي كما أراها لم تكن ثورة سياسية اقتصادية فقط كما يبدو لنا من الوهلة الأولى، بل هي تحمل بداخلها ثورة معرفية على نسق معرفي حداثي عالمي حاكم منذ قرون، ثار المصريون عليه وأعلنوا حاجتهم لنسق جديد، فكرة جديدة، تحل محل الفراغ المعرفي الذي ولّدته الثورة، ونقطة البداية لإنتاج الأفكار أو النماذج هي الرجوع إلى المقاصد. وإن كنا بصدد الحديث عن إنتاج الأفكار عن شكل الدولة فلابد أن نتذكر مقصد الدولة وسبب نشأتها وهو في أبسط صوره إدارة العلاقات المجتمعية على الوجه الذي يحقق استدامة العدل والحرية والكرامة لكل أفراد المجتمع. كان ذلك مقصد الدولة على مر العصور كما أراه، مهما تطوّرت وسائل اقتفائه بداية من القبيلة انتهاء بالدولة القومية الحديثة وكان ذلك التطور من نموذج لآخر يُنشئه تطوّر المجتمعات واختلاف حاجاتها، وإن كان قديما يُسمح بتواجد عدة نماذج للدولة في نفس الوقت إلا أن التقدم التقني في مجال الاتصال الذي حوّل العالم إلى قرية صغيرة سهّل عولمة الدولة القومية الحديثة كنموذج وحيد مُعترف به عالميا لإدارة شؤون المجتمع. ودون الخوض في التفاصيل، فالدولة القومية الحديثة وما يرتبط بها من مفاهيم كالمواطنة والديمقراطية والأيدولوجيا هي مُنتج غربي بالأساس أنشأته طبيعة المجتمع الغربي، وفي الحقيقة لا يهمني كونه غربيا أم غير ذلك، فالشاهد أنه مجتمع مخصوص له طبيعة مخصوصة وحاجات مخصوصة أنشأت نموذجا مخصوصا لإدارة العلاقات لا يجوز تعميمه على مجتمعات أخرى مخصوصة بخصوصيات أخرى، فذلك التعميم للنماذج المخصوصة واتخاذها مصدرا للمعايير هو مدخل تغلّب مجتمع على آخر, فالذي أنشأ تلك المعايير هو الوحيد القادر على الوفاء بها. والآخرون مهما لهثوا وراءها لن يقتربوا من استيفاء استحقاقاتها إلا بقدر اقتراب الظمآن من السراب.


والمجتمع المصري الحديث لم يُعط فرصة لأن يُتم تفاعله ويُنتج نموذجه الخاص المخاطب لحاجاته المستجيب لتساؤلاته إنتاجا قاعديا، بل كانت النماذج تُفرض عليه فرضا من أعلى، حيث أن المصريين لم يكادوا يفيقون من احتلال عسكري حتى وقعوا أسر احتلال معرفي لم يتحرروا منه بشكل كامل حتى الآن، وانسحب المثقفون من ميدان إنتاج الأفكار واكتفوا – إلا من رحم ربي – بدور المستهلك لأفكار أنتجها الغرب أو الشرق. فلجأ المصريون إلى مقاومة تلك النماذج المفروضة عليه بالمراوغة والحيلة أحيانا والنكتة أحيانا أخرى، حتى أتت الثورة فخرج المصريون يعبّروا عن تلك المقاومة وذلك الرفض تعبيرا صريحا، خرج المصريون يثورون لا على سلطة تنفيذية غاشمة مستبدة فقط، بل خرجوا يثورون على سلطة معرفية تفرض تصورا معيّنا لما هو صحيح وما هو غير ذلك، خرج المصريون يعيدون التعريفات ويصيغون المفاهيم لما يرونه صحيحا وما يرونه غير ذلك ممارسة لا تنظيرا، فقد سبق الفعل في هذه الثورة الفكر. وإن كان المثقفون والنخب فاتهم استشراف الثورة والتنظير لها، وهو ليس عيبا – فعوام المصريون دائما مدهشون – أقول إن كان فات المثقفين استشراف الثورة والتنظير لها فلا أقل من أن يقوموا بدورهم الآن في صياغتها، صياغة، تجمع تلك القطع من الموزاييك في لوحة واحدة متكاملة تمثل "الفن المصراوي اللي بجد" الذي حيّر حسن أرابيسك.


ولا أدّعي لنفسي الإحاطة بأطراف الصياغة الصحيحة للنموذج الصحيح الأكثر اقترابا من التعبير عن حقيقة الثورة، غير أني على الأقل أعرف أن نقطة البداية هي الناس، آحاد الناس، وليس المؤسسات، ففكرة المؤسسية في مصر خاصة في السياسة من الأفكار التي لم تثبت نجاحا، وذلك ليس لعيب في المجتمع المصري ولكن لأنها ببساطة أفكار غريبة عنه يرفض الانصياع لها قد تحتاج بعد التعديل قبل أن يتبنّاها، وخير دليل على ذلك ما حدث من توقيع بعض الأحزاب على بيان تأييد المجلس العسكري منذ أسابيع قليلة، فمن المفترض أن الموقعون هم ممثلون عن الأحزاب، لكننا شهدنا كوميديا مؤسسية بالغة في العبث، فتوقيع، ثم تراجع، ثم إنكار، ثم تراجع عن التراجع، ثم اعتذار عن التراجع، ثم انسحاب عن الاعتذار ... إلخ دون أدنى انضباط مؤسسي يُذكر.


وأذكر هنا محادثة دارت بيني وبين أحد أصدقائي حيث كان يقول لي أنه يقف على مسافة واحدة من كل الآراء السياسية ولا يعرف ماذا يفعل، وكان ردّي عليه أنه على حق، فالقليل الذي عرفته من السياسة دلّني على أن كل الخيارات السياسية يمكن أن تكون صحيحة وكلها يمكن أن تكون خاطئة، فمعيار الحكم ليس في الخيار السياسي نفسه لكن في طريق الوصول إليه، وإن الطريق الذي يمر بالناس هو الطريق الذي يُفضي بالضرورة إلى الخيار السياسي الأكثر شرعية، حيث سيستمد شرعيته من مشاركة الناس في صياغته.


أعود إلى مشهد "أرابيسك" حيث كنت جالسا بين أمي وأبي، وقلت لأمي أتعلمين انهيار فيلا برهان يشبه ماذا؟ قالت لي الثورة. ثم بعد ذلك المشهد، المشهد الأخير وفيه مجذوب الحي كان يجري في الشوارع يهتف "حسن رااااااااجع ... حسن رااااااااجع" فالتفت لي أبي قائلا: حسن هو مصر ... مصر راجعة.



باسم زكريا السمرجي
16/10/2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق