يأتي هذا العيد في خضم أجواء تبعث على الحزن والأسى. وربما الموجة الغالبة هذا العام خاصة بين المنشغلين بالشأن العام هي التفنن في المجاهرة بالحزن والأسى وعدم القدرة على الفرح، صيانة لدماء الشهداء أو إظهارا للتعاطف مع ثورة يقولون أنها سُرقت, ولكني بصراحة – وعلى عكس ما يبدو أنه الشعور الواجب أو الأقرب للإنسانية – أشعر بالبهجة، وسأكون صريحا أكثر مع نفسي وأقول أنني لم أحزن يوما على الشهداء وهل مثل من قُتل في سبيل الحق والحرية والعدل يُحزن عليه؟! وهل منّا من لا يرتجي لنفسه مثل تلك القتلة؟! وحقيقة الأمر أنني لا أعرف معنى لهتاف "يا نجيب حقهم يا نموت زيّهم" فلا أرى مانعا من أن "نجيب حقهم" و "نموت زيّهم". بل سأكون صريحا أكثر وأقول أن الثورة نفسها لا تمثل لي أكثر من ذكرى طيبة، والذكرى لا تنشأ إلا من تفاعل بين الزمان والمكان والإنسان، والزمان رغم أنه كهل عجوز إلا أنه لا يعرف السكون فهو يدور ويترك آثار أقدامه الثقيلة على المكان والإنسان فلا يتركهما كما كانا. وهذه الحركة رغم أنها تبدو قاسية تدهس كل شيء تحت عجلاتها إلا أنها تحفظ لي الذكريات لأنها لا تعرف الحركة للوراء إنما دائمة الحركة للأمام تحملنا إلى المستقبل نُغير فيه ويُغير فينا وتُبقي الماضي على حاله دون إفساد أو تغيير، وهذه هي الحياة .. ديناميكية مستمرّة، حلقات تسلّم بعضها بعضا عن طريق التفاعل بين الزمان والمكان والإنسان. أما الذين يظنون أن الحياة هي مجموعة من الصور الاستاتيكية التي تصطفّ بجوار بعضها ويرفضون الحركة يظلمون أنفسهم بالتأيقن حول بعض تلك الصور فيتخلّون عن خصوصيتهم الإنسانية التي تُمكّنهم من الانتقال متعدد المستويات بين الماضي والحاضر والمستقبل، فيفقدون قدرتهم على إدارة حياتهم، وتنسحق أرواحهم تحت عجلات الحركة المسرعة من حولهم.
بدأ العيد في الدخول علي منذ أمس، وأمس كان يوم عرفة. استيقظت صباحا ولم أفارق الفراش بعد حيث سبق إليّ الشوقُ أصواتَ التلبية الصادرة من جهاز التليفزيون القريب من غرفتي، شوق لأن أكون معهم، شوق لأن أكون واحدا غير منظور من الملايين الذين أعلنوا لله تجرّدهم حتى ولو لم يكن لهم من التجرد حظ سوى الحظ الظاهري، شوق لأن أضع قدمي موضع قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا بل شوق لأن ألثم موضع قدمه الشريف صلى الله عليه وسلم، شوق للرحيل إلى الله، للذهاب، للترقي الجسدي والنفسي والروحي. ثم شاهدت بعضا من المشاهد التي تبثها شاشات التليفزيون وكان ما في المشهد من عظمة يجبرك على تجاوز شكر المذيعين لآل سعود وكأنك لم تسمعه، وكان من خضم ذلك الحشد تشرق شمس المعنى، معانٍ كثيرة لا يتسع المقام لها، ولكن كان أول معنى أتى لي هو أن تلك الأمة العالمية التي جمع الله فيها الناس من كل جنس ولون في مكان واحد، وزمان واحد، في لباس واحد، يرددون دعاء واحدا، هي أمة فيها الخير. وأنه رغم ما أحاط بشعائر الحج من استغلال رأسمالي إلا أن الحد الأدنى الذي لا يقوم الحج إلا به إن أداه المسلم فقد التزم بحد أدنى من التواضع الإنساني الذي يكفل لهذه الأمة وحدتها وترابطها.
واليوم صباحا ذهبت لأداء صلاة العيد في الساحة التي أؤدي فيها مع أسرتي الصلاة كل عيد، ذهبت وإذ بي حين أشاهد الحشود في الساحة أرى نفس المعنى متجسدا أمامي كما كان متجسدا في مشهد الوقوف بعرفة على نطاق أصغر. انتهت الصلاة وبدأت الخطبة، ولم أكن أتوقع من الخطيب أكثر من أحكام الذبح أو فضائل العيد، غير أن الخطيب فاجأني بأن بدأ الخطبة بالحديث عن وجوب تطبيق شرع الله وظننت أنها خطبة انتخابية وسيوصي بانتخاب الإخوان والسلفيين غير أني رأيته يذكر سوريا ويدعو على بشار الأسد، ليس هذا فحسب بل إنه ذكر الاستبداد في السعودية، وذكر الاستبداد في إيران، واستشهد بعبد الرحمن الكواكبي، بل واستشهد بالشيخ كشك ورسالته للقذافي حيث حذره الشيخ في خطبة شهيرة من الظلم. ليس ذلك فحسب بل إن الخطيب ذكر مبارك، وقال ما نصّه: " إن القذافي كان يقتل الأحرار فقُتل شر قتلة،بن علي كان يطرد الاحرار فطُرد شر طردة، مبارك كان يسجن الاحرار فسُجن.والبشرى لبشار" ثم وجّه خطابه للتيارات الإسلامية المقبلة على الانتخابات ونبههم لوجوب التوحّد تحت راية واحدة، وأن يختاروا مرشحين هم الأصلح والأشجع والأكفأ والأقوى والأكثر أمانة، ويختم خطبته بأن أساس الدين الإسلامي العفو والرحمة والتسامح، وأن علاقة المسلم بغير المسلم قائمة بالأساس على السلم والأخوة الإنسانية، ونحن نحب البشر جميعا ونحب الخير للبشر جميعا ونحب أن يكونوا مسلمين أو على الأقل يكونوا صالحين في دنياهم حتى وإن اختلفوا في المعتقد. الشيخ اسمه محمد عبد رب النبي، من علماء الجمعية الشرعية.
كانت الخطبة مفاجئة بالنسبة لي، فاقت توقعاتي، وأدخلت السرور إلى نفسي. وفي الصلاة وُزعت علينا بعض أوراق الدعاية الانتخابية لحزب الحرية والعدالة وحزب الوفد أيضا، ولا أدري ربما في أماكن أخرى من الساحة تم توزيع أوراق لأحزاب أخرى، كما تم توزيع كتيبات صغيرة عن رؤية الجمعية الشرعية عن العمل الإسلامي المشترك والسياسة الحزبية، وأول ما وقعت عيناي عليه في هذا الكتيب هو كلام معناه أن لقيام الدولة الإسلامية لابد من توافر شرطين، الشرط الأول قيام الحكومة الإسلامية أو القانون الإسلامي حتى لا نجد قانونا يحرّم ما أحل الله أو يحلّ ما حرّم الله، والشرط الثاني هو قيام المجتمع الإسلامي لأن وجود قانون إسلامي بدون مجتمع إسلامي سينتج أفرادا يلتفون على القانون ولا يعبأون بتطبيقه ... وهو كلام أدخل البهجة على نفسي أيضا
في طريق العودة إلى المنزل شاهدت بعض مظاهر العيد المعتادة في حيّنا الشعبي، حيث تقف في "حوش" كل بيت أضحية يلهو معها الأطفال استعدادا لمشاهدتها تُذبح فيبدؤون بممارسة طقوسهم بعد الذبح من اللهو في الدماء وطباعة الكفوف على جدار المنزل. أثار هذا المشهد في نفسي بعضا من مزايا العيش في حي شعبي التي تتجلّى أكثر ما تتجلّى في المناسبات، وحينما أتحدث عن المناسبات فأنا أتحدث عن رمضان والعيدين، لا أتحدث عن "الهالوين" و"الفالانتاين". تذكرت البهجة التي طارت بنفسي والنشوة التي ملأت روحي وأنا أدخل الحي في أولى ليالي رمضان لأشاهد الزينة والأنوار تتدلّى من الشرفات وفي شوارعنا الضيقة، وكيف أن أطفال الحي يطرقون الأبواب بابا بابا ليجمّعوا الأموال اللازمة للأنوار والزينة (التي قد تتضمّن فانوسا كبيرا) التي يتم تعليقها في الشوارع، فزينة الشوارع يتشارك فيها الجميع بينما تُترك زينة الشرفات للإبداع الفردي، وأذكر هنا أحد جيراننا كانت دائما ما تتزيّن شرفته بألوان وأشكال عجيبة من الأنوار، وكنا دائما ما نسأل أنفسنا من أين أتى بتلك الأنوار المبهجة، ولكننا حين علمنا أنه يعمل كهربائيا زال العجب .. في عيد الفطر، أو قبيل عيد الفطر بقليل تجد صاجات الكحك تحملها رؤوس النساء أو أيادي الرجال في رحلاتها المكوكية من وإلى الفرن، ثم تجد يوم العيد الأطفال وقد ارتدوا ملابسهم الجديدة المُلوّنة وانطلقوا للشوارع، تلمع في أياديهم نقود العيدية الجديدة، وفي عيونهم بهجة لا تنقطع .. في عيد الأضحى، أو قبيله بقليل أيضا تجد في حوش كل بيت أو على سطوحه حيوانا، يصادقه الأطفال ويلعبون معه، وربما يُطلقون عليه اسما أيضا حتى إذا ما أتى العيد شاهدوه يُذبح واستمروا في اللهو بدمائه، وعلى ما يبدو في هذا المشهد من قسوة إلا أنني أجد فيه تسليما لله يُربى عليه الطفل صغيرا دون أن يدري، فليس كل ما نسنتحسنه حسن وليس كل ما نستقبحه قبيح.
أشياء كثيرة تبعث على البهجة في العيش في حي شعبي، فأنت تمشي في الشارع تعرف الجميع والجميع يعرفك، مقامات الناس محفوظة، وليس معيار التمايز هو القدرة المادية أو المؤهل العلمي كما في بعض المجتمعات بل إن معيار التمايز هو "الاحترام" فشيخ المسجد له الإجلال والتقدير، ثم الأمثل فالأمثل، ونستطيع أن نفهم هذا المعيار في ضوء المثل الشعبي الذي تحول إلى عقيدة وهو "اللي عنده دم أحسن من اللي عنده عمارة"
أصل إلى البيت لنبدأ في جولات العيديات، وهي جولات بالمعنى الحرفي للكلمة، فكل من له وظيفة يعطي عيدية لكل من في البيت، في دورة يبدأها أبي، ثم أنا، ثم أختي، حتى أني لا أعرف حسابا نهائيا للصادر والوارد، وهو أمر مُبهج أيضا
ننتهي من جولة العيديات ثم تهم أمي بالنوم (نسيت أن أقول أن أمي مُستثناة من جولة العيديات المالية) فأمنعها من النوم مطالبا بحقنا الشرعي في الفتة، وأدعو إخوتي بإيعاز من أبي – الذي يُفضل أن يلعب دور الأيادي الخارجية في هذا الأمر – ونقوم باعتصامنا على السرير لنمنعها من النوم وتقوم لتحضر لنا الفتة طعام الإفطار. وهذا السيناريو يحدث تقريبا كل عام بنفس الترتيب.
كثير من الكلام كنت أود أن أقوله عن بهجة العيد لكن حضرت الفتة وهي لي كالفجر لشهرزاد.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال وكل عام وأنتم بخير
باسم زكريا
6/11/2011
مبهجة فعلا :) ...
ردحذفعجبنى مثل "اللي عنده دم أحسن من اللي عنده عمارة"
فكرنى بالشغل بس هسامحك :P