الأربعاء، ١٢ أكتوبر ٢٠١١

(عنوان هذه الخاطرة محجوب من الرقابة)

الساعة الثالثة إلا ربع فجرا والليل في منزلنا لا يقطع سكونه إلا صوت موتور الثلاجة الرتيب، ونباح بعض الكلاب في الشارع التي تعبر عن استيائها من مشاهدة بعض الشياطين، وصياح الديك الساكن سطوح المنزل المقابل لمنزلنا الذي يبدو إن اضطراره للإسراف في استنشاق دخان الحشيش والبانجو خرّب ساعته البيولوجية.

الظلام في غرفتي كاد أن ينام مطمئنا على أنه احتوى كل شيء في عباءته السوداء، غير أن الإشعاع المضيء المنبعث من شاشة "اللاب توب" أرّقه، ولولا أن الظلام علم تفضيلي أن أدوّن خواطري الآن على أن أراعي شعوره وأن هذا هو الوقت الوحيد الذي يستطيع أن يلمّ شتاته وينام جسدا كاملا بجواري لما استسلم للنوم بعينين نصف مفتوحتين.

كل شيء يبدو في غرفتي تحت الظلال مرتّبا، نعم كل شيء مرتبا بعناية بل وخاضع لنظام محكم حتى وإن اعتقد أبي غير ذلك واتهمّني بالعشوائية وأصر على ألا يجعل خروجه من غرفتي في كل مرة يدخل فيها خاليا من "أنا مش فاهم انت ازاي مستحمل تعيش كده". المشكل أنني أعتبر أن الغرفة غرفتي، وما بها ملك لي، وطالما أني أعرف مكان كل شيء فيها فإذن كل شيء يخضع لنظام مُحكم حتى وإن لم يفكّ شفرة ذلك النظام أحد سواي، حتى وإن تاهت مني بعض أغراضي وأمضيت ساعات أبحث عنها، فربما يكون ذلك جزءا من النظام، فحقيقة الأمر أنا لا أعلم كيف يحتمل المرء ملل أن يعيش في مكان مرتّب لا يقضي بعض الوقت في البحث عن أشيائه التائهة فيه.

الحمّى هي رفيقتي في تلك الليلة، وأنا لا تقلقني الحمّى، فالمرض عموما يجعلني أشاهد الحياة بالتصوير البطيء فأتمكن من رؤية أشياء لا أستطيع أن أراها وهي في حال حركتها العادية التي ليست سريعة على أية حال، أشياء لا تقل أهمية عن معرفة حقيقة الهدف الثاني لإنبي الذي أدخل السرور على قلبي حيث اقتنص به الفريق البترولي كأس مصر (الذي أصبح كأس فودافون) من الزمالك وهل كان ذلك الهدف تسلل أم لا. بالمناسبة .. أنا أهلاوي لأنني أحب أن أحيا "مكبّر دماغي" فتشجيع الأهلي مُريح، والشماتة في "الزمالكاوية" مسليّة أيضا وهذه ملاحظة هامشية لا أهمية لها ولكن كل ذلك النص لا أهمية له أصلا وطالما تحمّلت عناء القراءة فلا أظن أنك ستشعر بالضجر من قراءة تلك الملاحظة، غير أني أجزم أنك ستشعر بالضجر من ذلك الاستطراد، ولكن لا يهم فأنا بصراحة لا أعلم عن نفسي أني من الأشخاص "المسليين" أو الذين تحلو صحبتهم، فأنا شخص ثقيل الظل، "كـِـشـِـر" في بعض الأوقات، "واخد في نفسي قلم أونطة" في أغلب الأوقات.

الحمّى تلك المرة تأتي بعد أيام من يوم السبت الماضي، وما هو الشيء المميز في يوم السبت الماضي؟ هذا سؤال وجيه. الشيء المميز هو أني سافرت إلى الاسكندرية في قطار الساعة الثامنة صباحا وعدت في قطار الساعة العاشرة مساء، وأنا لم أسافر إلى الإسكندرية منذ كان عمري 10 سنوات تقريبا، أي منذ 14 عاما. سافرت وحدي وقضيت فترة عشرة ساعات كاملة أمام البحر وفقط، ولم أقم طوال تلك الفترة بأي نشاط آخر سوى أني أدّيت الصلاة على إحدى المكعبات الخرسانية التي تعمل كمصدّات للأمواج أمام البحر. وفي خلال تلك العشر ساعات تعلّمت قدسية كلمة "طـُـز"

ما هذا؟! هل قلت طـُـز فعلا؟! ألا تعلم أنها كلمة عيب؟ طـُـز في مين؟ ... هكذا يحدثني ضميري فأرد عليه: يا عم اهمد أنا أقول طـُـز في نفسي ولنفسي. وهذا أمر شخصي بيني وبين نفسي لا شأن لك به، الزم حدودك. يرد عقلي: كيف تُهين نفسك بتلك الطريقة ألم تعلم أن الله خلـ.... . فأقاطعه قائلا: أعلم أن الله خلقني إنسانا وكرّمني بأن اختارني إنسانا وكرّمني و ... و ... و .... . أعلم كل ذلك وأعلم أنك تعلم أني أعلم فكفّ عن توجيه النصائح فأنت تعلم أنها غير مجدية، وأقول لك مرة أخرى هذا أمر شخصي بيني وبين نفسي لا شأن لك به، فالزم حدودك. يبدو أنني لم أقض الوقت الكافي لتربية عقلي وضميري وتلك الأشياء التي تدّعي انتماءها للمرء وهي في حقيقة الأمر تفصل نفسها عنه وتتصوّر لنفسها دور القوامة عليه ولا ترضى بدور المُنغص بديلا, عليّ بعد ذلك أن أعلّم تلك الأشياء أن تلزم حدودها وتعرف مساحات نفوذها ولا تتجاوزها.

"فخلف كل قيصر يموت ... قيصر جديد" ... لا تسألني ما مناسبة تلك الجملة من قصيدة "كلمات سبارتكوس الأخيرة" لأمل دنقل، لأني سأجيب على سؤالك بسؤال وما مناسبة سؤالك أصلا؟ فأنا من أكتب ذلك النص وأظن أن من أبسط حقوقي أن أحتفظ لنفسي بحق كتابة ما أراه مناسبا متى أراه مناسبا دون أخذ الإذن من سيادتك.

***

أذكر أنني في يوم ما وحينما كنت في الصف الثاني الإعدادي، كنت ممددا بين النائم واليقظان ووجدتني أقوم مفزوعا تنهمر الدموع من عينيّ أقول لأمي: "معقول يا ماما يبقى كل اللي احنا فيه ده كدب؟!" فردت مفزوعة: في ايه؟ فأكملت: "يعني معقول نكون عايشين في حلم مثلا وبعد كده هنفوق منه نلاقي إننا كل اللي احنا عارفينه مش حقيقي؟ ونلاقي إن الجنة والنار دول حاجات تاني غير اللي احنا كنا عارفينها؟ معقول يعني سيدنا عُمر مش حقيقي؟" وكان سيدنا عُمر بن الخطاب هو الجواب المباشر على سؤال من هو مثلك الأعلى وقتها مثلما كان "ضابط شرطة" الجواب المباشر لسؤال "نفسك تطلع ايه؟". وبعد ما علمت ما علمت، فلو رجع بي الزمن لكان "ضابط شرطة" جواب سؤال: "نفسك تنزل لحد فين؟"، وبالمناسبة .. فجواب سؤال "نفسك تطلع ايه؟" تطوّر بعد عام إلى "رئيس جمهورية". كنت في ذلك الحين في السعودية، قضيت فيها عاما واحدا ولم أكن لأحتمل أكثر من ذلك ولم يكونوا هم ليحتملوا أيضا، وكنت وقتها في المدرسة أقضي الصف الثالث الإعدادي أو المتوسط كما يسمّونه، وكانت تلك إجابتي "رئيس جمهورية" وكان لي أحد الأصدقاء السوريين يهزأ مني حين أجيب تلك الإجابة ويقول لي سيورّث مبارك البلد لابنه كما فعل حافظ الأسد عندنا ... سبحان مغيّر الأحوال! تطوّر بعد ذلك جوابي على سؤال "نفسك تطلع ايه؟" الآن إلى "السطوح" وبم أن في الحي الذي أعيش فيه لا نتمتلك ثقافة "الرووف جاردن" ولا نعرف عن "السطوح" إلا أنه مستودع الكراكيب فأنا سعيد بمكاني في غرفتي ولا أريد أن أطلع.

ممممم أتصوّر أنك قد تتساءل الآن عن مصير السؤال الذي سألته لأمي ... أقول لك أنه تاه وسط كراكيب السطوح، فلا أذكر الجواب الذي أجابتني به، ويبدو أنه لم يكن مقنعا، ولا أذكر أنني سألت السؤال مرة أخرى أصلا، فكان لديّ وقتها من تفاصيل الحياة ما يشغلني عن الغرق في مثل تلك التساؤلات، فمصير خناقة شلّتنا مع الشلّة الأخرى في الفصل لم يُحسم بعد، وربما تحدده المعركة التي ستدور بيني وبين أضعف عضو في الشلّة الأخرى (فقد كنت أضعف أعضاء شلّتنا بالمناسبة)، وحلقة أخرى من حلقات تفاعل التوأم الظريف المشاغب مع المدرّسين، وحكاية أخرى من حكايات تلك البنت الشهيرة، وطلابها الكُثر الذين لم أكن واحدا منهم ولكني كنت صديقا لكثير منهم، ومحاولة تخيّل بعض الحيل التي من الممكن أن أقوم بها في لعبة "الفيديو جيم" حتى يتمكن اللاعب الذي ألعب به من القيام ببعض الحركات الجديدة .. فربما أجرب أن أضغط على الزر الأزرق والأصفر معا مع حركة نصف دائرية خلفية للـ"دراع" قد تجعله ينجح في عمل "الكومبو" ويوجّه ضربات متلاحقة للخصم "تخلّص" عليه ... ألم أقل لك يا صديقي (نعم أنت إن استطعت أن تتحمّل قراءة ذلك الهراء حتى تلك المرحلة دون أن تندم على ذلك فأنت حقا صديقي) ألم أقل لك أنها كانت تفاصيل حقا مرهقة وحقا تشغلني عن الانشغال بحقية الحياة وجدوى الوجود ووهم المصير ... إلخ

***

لا أدري حقا من هو ذلك الذي شغلنا بتغيير العالم، لا أدري حقا من علّمنا أن نتبّع قلوبنا وأن نطارد أحلامنا الطائرة أو الطائشة في فضاء المجهول، لا أعلم حقا من ذلك الذي زرع مثل تلك الفيروس في عقولنا فأعمى عيوننا عن رؤية الحقيقة أملا في مجهول استتر في سحب الغيب. ما يكون موقف القلب إن علم أن كل الناس تتحدث عنها وتقول لنا أن نتبع إرشاداته؟ هل هو يعلم ذلك؟ هل توقّفنا لنسأله ما رأيك في هذا الأمر؟ ربما يندهش ويصرخ فينا أنه لا يعلم لنفسه وظيفة سوى إصدار بعض الأصوات الرتيبة التي تصاحبها حركة رتيبة يتم فيها بشكل رتيب ضخ الدم للأعضاء الموزعة في أنحاء الجسم بشكل رتيب كي تحافظ على حركتها الرتيبة.

القلب طالب مجتهد يرتدي منظاره الطبي المُقعّر، يرتدي قميصه المدرسي ويقفل "الزرار اللي فوق"، يحمل حقيبته المدرسية الثقيلة، يواظب على حضور كل الحصص، يأكل "سندوتشات الجبنة والحلاوة" التي تصنعها له ماما كل صباح، يجلس في الصف الأول، محبب لأساتذته مطيع لهم حتى وإن ظلموه وأرادوا به ضربا يفتح يديه لتلقي اللسعات الظالمة سريعا دون تذمّر. وربما يفزعه أن يعلم أننا حين نريد أن نراوغ الحارس لنهرب من المدرسة، أو نحتدّ على مدرّسينا إن لم يعجبونا، أو نتخلّص من "سندوتشات الجبنة والحلاوة". أننا نلصق كل ذلك به، هو يفزع جدا من احتمال أن يغضب عليه مدرّسوه. هو يفزع جدا أن ينشغل عن القيام بأعماله اليومية الرتيبة فيفشل في أن يكون الأول على الفصل.

***

"وخلف كل ثائر يموت: أحزان بلا جدوى" ... أظن أنك من الذكاء بمكان أنك لن تعيد السؤال لأنك في الغالب لن تتلقى إجابة مختلفة

لماذا خلقني الله هنا والآن؟ وهل أنا حقا أنا؟ وما هي حقيقة وجودي؟ وما هي مساحة وجودي؟ وعلّة وجودي؟ ولماذا علّمني الله الأحلام؟ ولماذا لم أكتف بالأحلام العادية؟ لأن الحلم إن كان عاديا فهو ليس بحلم ... يا لحماقتي.

حقيقة وجودي ... ومساحة وجودي ... مفتاحا اللغز الذان لم يكن كافيا للكشف عنهما 10 ساعات أمام البحر وحمّى.

مممم يبدو أنني سأنتهي هنا ... فلا أظن أن قارئا أيا كان سيتحمّل قراءة المزيد من ذلك الهراء (وبالمناسبة .. أنا أعلم أنه ليس بهراء غير أن تصنّع بعض التواضع يبدو أنه عادة فرعونية قديمة أو ما شابه وهو لا يضير أحدا على أية حال)، ففي حقيقة الأمر سأكون كاذبا إن قلت أني أكتب لنفسي فقط، فما أكتبه لنفسي أحتفظ به لنفسي أما ما أطلقه في الفضاء العام فهو بهدف التفاعل مع ذلك الفضاء، والموضوع لم ينته بل على العكس فقد كنت أود أن أحدثكم عن أشياء أخرى ويبدو أني سأنسحب قليلا من مساحة الأفكار التي اعتدت أن أكتب فيها وعنها، وسأكتفي بتكرار ذلك الهراء بعض الوقت. الآن سأقوم لأرتدي منظاري الطبي المقعّر، وأجهّز حقيبتي المدرسية، سأخرج منها كل تلك الأوراق المبعثرة وألقيها في سلة المهملات العمومية، وسأضع مكانها كتبي المدرسية الجديدة بعد أن انتهيت من "تجليدهم" بالألوان التي أمرنا المدرسون بالالتزام بها. صحيح أن تلك الألوان ليس من بينها اللون الأحمر المحبب لي لكن طـُـز في ما لم يأمر به المدرسون حتى لو كان مُحببا لي ... هم عارفين مصلحتي


ملحوظة: أظن أنك الآن تعرف العنوان الذي قررت أن أحجبه ولمَ حجبته



باسم زكريا
12/10/2011

هناك ٦ تعليقات:

  1. رائع

    أولا: يؤسفني اني أقولك ان دي أروع حاجة قريتها ليك. انت كتبت حاجات مهمة كتير بس مش بالأهمية دي

    ثانيا: واضح اننا فعلا أصدقاء لأني مش بس تحملت القراءة ولكن لأني فعلا من حلاوتها تمنيت ألا تنتهي

    ثالثا: رغم انك كاتب ده في ظروف مرضية ان كنت تعني ذلك حقيقى لا مجازا، ورغم عدم علاقته بأي حاجة بتحصل في البلد أو حتى في الكون نفسه إلا ان دي الحاجة الوحيدة اللي قدرت تخرجني للحظات من احاسيس غضب وخوف وشفقة ملازماني من ساعة احداث ماسبيرو وما بعدها لدرجة اني اتكسفت من اللي ماتوا ازاي استريحت للحظة رغم انهم ماتوا

    ردحذف
  2. أولا: ليه يؤسفك؟

    ثانيا: كنت لسة بافكر في قد ايه احنا أصدقاء وقد ايه احنا بيننا من التشابه بقدر ما بيننا من الاختلاف :)

    ثالثا: أنا فعلا مريض وراقد في السرير :) ... ويبدو أنني سأبدأ في التعامل مع الكون من منطلق أنني رب الإبل وأن للبيت رب يحميه :)

    ردحذف
  3. أبدا .. يؤسفني لأن ظاهر القول هيخلينا نقول لما دي -على فراغها المنصوص عليه فيها-الأعظم أمال الباقي مما دونها شكله ايه؟ :)

    سلامتك يا باشا .. وبالنسبة للبيت والإبل .. مظنش هتقدر .. اصله مش بمزاجنا

    بعدين تضمن منين أصلا ان ميطلعش حد من حزب النور أو الأصالة أو البناء يكفرك لأنك قلت على نفسك رب الإبل - أستغفر الله العظيم يا أخي - الله هو رب الإبل :))

    ردحذف
  4. اسمح لي أن أبدي إعجابي بقدرتك على حصر الأحزاب السلفية :)

    ردحذف
  5. عرفت العنون طبعا كلمة اتكررت 5 مرات ^_^

    ردحذف
  6. أنا اتأكدت دلوقتي إنك لم يفتك عدد واحد من ميكي جيب وفلاش :))))

    ردحذف