الثلاثاء، ٢٣ أغسطس ٢٠١١

عن التيار الرئيسي المصري

خلقنا الله شعوبا وقبائل لنتعارف، والتعارف ليس مقصورا على تبادل بطاقات التعارف، بل هو عملية تفاعل إنساني بين أطراف إنسانية مختلفة تتفاعل في إطار التعارف الذي يُنتج اتزانا إيجابيا يدفع الأطراف المختلفة – التي اقتنعت بامتلاك كل منها لطرف من أطراف الحقيقة لا الحقيقة كاملة – دفعا إلى الأمام نحو تكوين تصورات أكثر اكتمالا عن العالم. والنقاش كصورة من صور التفاعل الإنساني ليس الهدف منه الانتصار لطرف على آخر لأن "الحقيقة المطلقة" هي ليست جزء من الحياة بل هي متجاوزة للحياة وليس لأحد الحق في احتكارها فكل إنسان يحيا تجربته الإنسانية الخاصة جدا التي لا تتكرر ولا يصح أن تُعمم، لذلك فإن هدف النقاش والحوار وكل صور التفاعل الإنساني ليس إنتاج اتزانا صفريا (إما ... أو ...) إنما هدف التفاعل الإنساني بشتى صوره هو الإثراء المتبادل بين التجارب الإنسانية الذي يُفضي إلى اتزان إيجابي يدفع نحو تكوين رؤى أكثر اكتمالا عن العالم والحياة.

كتب المهندس طارق سعد مقالا بعنوان " التيار الرئيسي ،والمصري. خطوات نحو طمس التعددية السياسية المصرية" على هذا الرابط (http://tinyurl.com/3q6kscu) يهاجم فيه فكرة مبادرة إعادة إحياء التيار الرئيسي المصري التي أطلقها بشكلها الحالي نفر من المفكرين المصريين الذين كانوا يعملون في نفس الإطار قبل الثورة، ولكن – بالطبع – كان مجهودا غير منظور كونه كان مجهودا في مساحة التحريك. أما بعد الثورة وما بدأته من انتقال من مساحة التحريك إلى مساحة تحرير تكتمل أشواطها يوما بعد يوم لتسلّمنا إلى مساحة البناء، رأى هؤلاء المفكرون المصريون أن إطلاق مثل تلك المبادرة بهذا الشكل وفي هذا السياق هو الحل الأكثر اتساقا مع الفطرة الإنسانية، وهو الطريق الأكثر اقترابا من مسار الثورة الإنسانية المصرية البديعة. وأنا حين أكتب عن المبادرة لا أكتب من موقع المسؤول عنها، وإن كنت لا أخفي اقترابي منها أيام الثورة وما بعدها. ولا أكتب لأهاجم المهندس طارق سعد هجوما مضادا، وإنما أكتب من موقع الراصد المتابع، أحاول أن أتفاعل مع طرح المهندس طارق حتى نقدم معا تصورا أكثر اكتمالا عن المبادرة.

أولا: طرح التيار الرئيسي كما أفهمه ليس طرحا "بعد أيدولوجي" يتنكّر للأيدولوجيا ويراها مرحلة من مراحل "التطور الدارويني" للفكر الإنساني التي ولّى زمنها وأفضت جميعها إلى النموذج الأكثر اكتمالا وهو النموذج الأمريكي في أغلب الأحوال. ولكنه طرح " قبل أيدولوجي" أو ما أسميه "فوق أيدولوجي" فهو طرح لا يقف عند الأيدولوجيات كرؤى كونية مقدّسة في ذاتها بل يعود بها خطوة إلى الوراء نحو النموذج المعرفي الكامن وراءها والمُستبطن فيها، يستلهم رحيقها ويُقرّ بما حملته كل الأيدولوجيات من بحث عن تحقيق السعادة الإنسانية، ويرفض ما لحقها من خَبَث المعايير المادية المرتبطة بالنسق المعرفي المهيمن على الفكر الإنساني الآن منذ النهضة الصناعية، تلك المعايير المادية التي حوّلت الإنسان إلى شيء والكون إلى مادة استعمالية. يحرر الطرح الفوق أيدولوجي الفكر الإنساني من التمترس خلف المصطلحات والأيدولوجيات الوضعية دخيلة الصنعة على نفسه، وينطلق به إلى رحابة المقاصد الكبرى والفطرة الإنسانية أصيلة الخلق في روحه الربّانية، وهذا – فيما أفهم – ما يتبنّاه التيار الرئيسي من طرح فكري.

ثانيا: يظن المهندس طارق أن المبادرة تحاول استغلال فكرة المستشار البشري والتي كتبها منذ سنوات في كتاب نُشر مؤخرا تحت عنوان "نحو تيار أساسي للأمة" استغلالا إعلاميا، وبالتالي هو يحاول مخلص النية صادق القصد أن يُدافع عن فكرة المستشار البشري. غير أن فكرة المستشار البشري، وهو أستاذ أساتذتي، ليست المنبع الوحيد الذي استلهم منه القائمون على المبادرة أفكارهم وحركتهم. فالمستشار البشري يُقدّم طرحا فكريا سياسيا نخبويا يُحاول فيه أن يلمّ شتات الاستقطاب والتناحر الفكري ليتشكل في النهاية تيارا فكريا أساسيا للأمة.

بينما مبادرة التيار الرئيسي هي بالأساس حركة شعبية اجتماعية أو ما يمكن أن نسميها Grassroots Movement تبدأ من البناء المجتمعي الشعبي نحو بناء نخبة جديدة مرنة تنبت من المجتمع، تُرشّد حركته، تحل محل النخبة الصلبة المؤدلجة التي هبطت على المجتمع من سماء نظريات صمّاء تحاول إرشاد حركة المجتمع في إطارها الضيق الخانق لإنسانية المجتمع.

ليست الأزمة المصرية أزمة نخبة، بل إنها أكثر تعقيدا وتشابكا، فعقود طويلة من تفريغ المصري من إنسانيته لم يزل أثرها بالكلية بلحظة الثورة وفورتها، بل إن الثورة كانت لحظة إيقاظ مفاجئ لجوهر إنسانية استعصى على التغييب، وتلك اللحظة لابد أن تٌستثمر ويُبنى عليها فهي لا تعدو كونها فتحت الباب للبناء وأزالت عوائقه، وبالتالي فمبادرة التيار الرئيسي المصري ليست مبادرة تهدف لخلق "تيار" جديد بل تهدف إلى تمكين المجتمع ليس فقط من اختيار تيارا مطروحا أمامه، بل ترمي إلى أبعد من ذلك حيث تهدف إلى تمكين المجتمع من خلق تياره، تيارا مصريا أصيلا ذو مرجعية شعبية خالصة. فليس التيار الرئيسي تيارا سياسيا بالأساس – وإن كان لا يغفل أهمية السياسة وضرورة تواجد الوجه السياسي له – وليس من أهدافه تطييب الخواطر وتقبيل الرؤوس مع الاحتفاظ بالخناجر في أماكنها التقليدية خلف الظهور، وليس من أهدافه إبرام الصفقات السياسية أو الانتخابية, وليس التيار الرئيسي طريقا يسير فيه المجتمع بل هو الشعلة والنبراس الذي يهتدي بضوءه المجتمع في أكثر الطرق وعورة، وفي هذا يتبنى التيار الرئيسي طرح "الديمقراطية التشاركية" Participatory Democracy حيث لا تتوقف علاقة المواطن بالوطن عند صندوق الانتخاب أو عند دفع الضرائب، بل تستمر مراقبة ومحاسبة ومشاركة في صنع القرار، وهذا هو ما أراه الاستلهام الحقيقي لروح الثورة حيث كان الشعب حاضرا متجاوزا لنخبه وقيّما عليها.

ثالثا: يوجه المهندس طارق النقد لفكرة أن يتصدى بعض الأفراد لمثل فكرة التيار الرئيسي، ويرى أن مثل تلك الأفكار الفطرية لا يجب إلا أن تنمو نموا عضويا تلقائيا وإلا فقدت صفة الفطرية ولم تكن إلا محاولة من المحاولات لتوجيه الشعب في اتجاه بعينه. وأنا أتفق جزئيا مع تلك الفكرة فالأفكار الإنسانية الفطرية تنمو نموا عضويا، بشرط التيقظ لوجود البذرة وريّها، وهذه هي وظيفة المفكرين الحقيقيين، أن يتيقظوا للبذرة ويرشدوا الناس عليها ويروونها ريّا. ولهذا بعث الله الأنبياء والرسل يردّوا الناس لفطرة الله التي فطر الناس عليها، ووظيفة التذكير والرعاية تلك لم تنته عند الأنبياء بل امتدت بعد ذلك إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين هم الطائفة التي نفرت من كل فرقة تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعوا إليهم. والداعون لمبادرة التيار الرئيسي المصري بتصدّيهم لهذا العمل هم يرفعون سقف توقعات المجتمع منهم إلى منتهاه، وهم ارتضوا حمل أمانة التحقق بحقيقة المفكر التي لا تقف عند إنتاج الأفكار والنظريات بل تمتد إلى ترشيد الأفعال في اتجاه الأفكار الإنسانية الفطرية. هم لم يدّعوا تمثيل التيار الرئيسي المصري ولم يدّعوا لأنفسهم حق القوامة على الناس، فالتيار الرئيسي هو "المنظم و المراقب لنشاطات المجتمع السياسي" وهو حال تكوينه سيكون القيّم عليهم وعلى غيرهم وقد يستبدلهم ويأتي بغيرهم. الأمر فقط كان بحاجة لمن ينبه الناس لمكان البذرة ويدفع ثمن أول ريّة.

رابعا: إن مبادرة التيار الرئيسي المصري ليست مبادرة تنفيذية تقليدية مركزية ولا هي فكرة هائمة في فراغ الأفكار بل إنها مظلة مبادئية يعمل تحتها تنفيذيا عدد من المبادرات والأفراد، وحقيقتها على الأرض في المبادرات والأفراد المؤمنين والمتصلين بها أعلى مما يظهر في قنوات الاتصال المختلفة بكثير. فالقائمون على المبادرة يؤمنون بما أورده المهندس طارق في مقاله بأن "المجهود الحقيقي المطلوب لإنعاش التيار الأساسي في أي مجتمع هو العمل الجاد على تصحيح بنية الحياة السياسية ، ومتابعتها بإزالة شوائب الفساد والممارسات غير النزيهة، ثم ترك الأمور تسير في مجراها الطبيعي." (غير أني أود أن أضيف أن المجهود الحقيقي ليس مطلوبا في الحياة السياسية، بل هو مطلوب بالأساس في الحياة المجتمعية، في الحياة عموما التي إحدى تجلياتها الحياة السياسة) لذلك كان اختيار القائمين على المبادرة ألا يتم إغفال الوسائل الإعلامية لكن ألا يُتوقف عندها، فلابد أن تظل الوسائل الإعلامية وسائل لا غايات، فالغاية هي العمل على الأرض والتغيير على الأرض وهو ما يحدث من خلال الأفراد والمبادرات المتبنّين لأفكار ومبادئ التيار الرئيسي المصري.

في النهاية أشكر المهندس طارق على تفاعله مع الحالة وأعذره على هجومه بصدقه وحرصه على التيار الرئيسي للوطن.



باسم زكريا
باحث بمركز المربع للدراسات الإنسانية والاستراتيجية
23/8/2011

هناك تعليقان (٢):