الأحد، ٢١ أغسطس ٢٠١١

عن التوحيد ... طريق الحرية

يقول الله تعالى في أول سورة النحل: "أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" وهي آية مُعجزة، تعجز اللغة عن ريّ ظمئي لاكتشاف معناها الحقيقي، فأمر الله تكلم فيه المفسرون أنه "القيامة"، غير أن القيامة عندي ليست مجرد نهاية العالم، وليست مجرد اليوم العظيم الذي يُحاسب فيه الناس على ما قدّموا، فالقيامة هي الأبد الذي ينتمي إليه الإنسان أصلا. هي الحقيقة، كما كان الخلق حقيقة. فالإنسان مخلوق خلقا متجاوزا للزمان والمكان، حين قال الله لملائكته "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" وحين نفخ الله الروح في آدم وحين أخذ الله الميثاق من بني آدم "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا" فالخلق لم يكن "عملية صناعية" نرصد خطواتها ونتائجها. وما ورد في القرآن عن مراحل تطور الجنين ليس مراحل خلق بل مراحل تطور الشكل البرّاني لهذا الكائن الإنساني، أما الخلق، فهو حيث نفخ الله الروح في هذا الكائن في الأزل، وكرّمه ورفعه من كائن حي إلى كائن إنساني باختياره للخلافة التي مناطها المسؤولية الإنسانية التي لا تستقيم إلا بالاعتراف بالحرية الإنسانية، الحرية التي هي الأمانة التي اختار الإنسان أن يحملها. فكان أمر الخلق بين الكاف والنون، كما أن أمر الله الذي "أتى" هو بين الكاف والنون أيضا لا يخضع لحساباتنا المحدودة بقدراتنا التي حين لا نرى العالم إلا من خلالها "نستعجل" ما قد أتى بالفعل.

تثير هذه الآية من سورة النحل في نفسي التساؤل أكثر من أن تقدم لي أجوبة، إنها آية تفتح القلب للدهشة والتساؤل، تساؤل لا يُرشد إلى إجابة تنهيه بل تساؤل يفتح آفاق القلب والعقل للتحليق في مساحة تتوحد فيها الأسئلة والأجوبة وتتصل، أسئلة عن حقيقة الحياة الدنيا وعن مدى دناءتها، وعن الحياة ذاتها وكنهها، وعن الرحلة وأين بدأت وأين تنتهي، وهل هي رحلة على خط مستقيم نبدأ فيها من مكان لننتهي إلى آخر، أم أنها رحلة دائرية ننتهي فيها حيث بدأنا، أم أنها رحلة ساكنة نظن فيها أننا نتحرك بينما الحقيقة أننا غفونا فظننا أننا نتحرك وسنفيق لنجد أنفسنا لم نفارق ما بدأنا منه، لذلك دلّنا رسول الله صلى عليه وسلم على الكياسة حين قال: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله" فالكيّس هو الذي علم الحقيقة وعمل لها حتى وإن كان جسده يحيا في الوهم فروحه مُحررة تحيا في الحقيقة وتسعى إليها، حتى لا يكون كالعاجز الذي أتبع نفسه هواها وسلّم روحه السماوية التي تنتمي إلى عالم الحقيقة لنفسه الأرضية التي تنتمي إلى عالم الوهم فيستيقظ حين يستيقظ لتفجؤه غفلته ويُذهل من مدى التفاوت بين الوهم والحقيقة.

ترشدنا تلك الآية وما يحيط بها من معانٍ إلى جوهر التوحيد فلا إله إلا الله، ولا حق إلا الله، ولا حقيقة إلا ما عند الله. ولا تحرير إلا في تعبيد النفس لله، فنحن حين نبدأ شهادة التوحيد نبدأها بالرفض، نرفض الواقع، نرفض الوهم، نتخلص من الشوائب، نتحرر من الأثقال لنحلّق في فضاء التوحيد حيث الله وحده ربّنا، متساوون جميعا أمامه، لسنا بحاجة لأن نسأل من سواه ولسنا بحاجة لأن نتعلق بما دونه. هو الله الحق الذي حجب الحق عن إدراك الخلق، فلا مبرر لأن يستبد أحد برأيه على أحد ولا أن يستعبد أحد أحدا، هو الله الذي خلقنا وجعل معيار التفاضل بين الخلق هو "التقوى"، تلك التقوى التي لا يعلم حقيقتها إلا المطّلع على خفايا النوايا وأسرار القلوب سبحانه. حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" فالقلب هو محل نظر الرب وهو مناط الإخلاص، الإخلاص الذي لايدرك حقيقته إلا الله سبحانه وتعالى حتى أن في الأثر ما معناه أنك إن ظننت في نفسك الإخلاص فاتهم إخلاصك، فلا إله إلا الله لا تحررنا من المخلوقات فقط، بل تحررنا حتى من أنفسنا ومن هوانا، فالحكم على الناس وحتى على أنفسنا ليس في استطاعتنا لاحتجاب الحق عنا، وما أَمِرنا إلا بحسن الظن في الخلق حيث ورد في الأثر: "لنا الظاهر والله يتولى السرائر". ويصح في هذا المقام أن نذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث قال: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى عليّ أني لا أغفر لفلان، قد غفرت لفلان وأحبطت عمله" وفي بعض روايات الحديث أن ذلك الرجل الذي تألى على الله "أنه لن يغفر لفلان" كان من العبّاد وذلك "الفلان" كان من العصاة، وأن العابد اشتد على العاصي في النصيحة حتى قال له العاصي "دعني وربي" فرد عليه ذلك العابد بالرد الوارد في الحديث. وفي الحديث فائدة لطيفة، فكيف أن كلمة واحدة أحبطت عمل ذلك العابد وكلمة واحدة غفرت لذلك العاصي دون حتى أن يستغفر أو يطلب التوبة، فكأن الله نظر إلى قلب ذلك العاصي فوجده يئن منكسرا لله يطلب العفو والمغفرة (حتى وإن لم ينطق لسانه إلا بـ "دعني وربي" وهي على بساطتها وتلقائيتها إلا أنها تحمل جوهر المعنى). ونظر إلى قلب ذلك العابد فوجده خاويا متكبرا يعبد الله عبادة ميكانيكية اعتاد عليها دونما انكسار في القلب. وفي هذا يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكدا حيث يقول: "والذي نفسي بيده لا يدخلن الجنة أحدكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسولالله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" في دعوة صريحة للتعلق التام بالله والانكسار التام لله ولله وحده والتحرر التام من ربق عبودية للمخلوقين وحتى للنفس تحررا في سبيل الحرية التي لا تبدأ إلا بالعبودية لله.

إن النفس سجن، حتى الذين يظنون أنهم أحرار بتمركزهم في ذواتهم وعبادتهم لأنفسهم هم في حقيقة الأمر ارتضوا الدنيّة في أنفسهم، هم في الحقيقة ابتذلوا أنفسهم بأن رضوا بالتنزل من علياء التعلق بالله المطلق المتجاوز المفارق للطبيعة والكون، إلى النسبية الأرضية التي لا ترقب فيهم إلّا ولا ذمة، فهم سلّموا أنفسهم لمعترك نسبية المعايير الذي يفوز فيه من تملّك أدوات الخداع والوهم، وهو حين يفوز يفرض معاييره ويعبئ تلك السيولة النسبية، ومن ارتضى أن يُسلّم نفسه لتياراتها، في قنينته لتأخذ شكلها دونما إرادة. ثم إذا أفاق الناس من الوهم تبرّأ الذين اتُبعوا من الذين اتَبعوا ولقوا العذاب جميعا. لذلك كان من دعاء د. علي شريعتي: "اللهم حررني من سجن "الطبيعة" و"التاريخ" و"المجتمع" و"النفس" حتى أستطيع أن أعيد اكتشاف نفسي على الصورة الأصلية التي خلقتني عليها، ليس كحيوان يحاول أن يواكب بيئته التي يحيا فيها ولكن كإنسان أصنع البيئة التي تناسبني"

إن تلك الآية من سورة النحل تكشف عن التباين بين العالمين الذين يحيا فيهما الإنسان، العالم الجوّاني الذي يعلم فيه الإنسان علم اليقين أن أمر الله "أتى" والعالم البرّاني الذي ما زال فيه الإنسان "يستعجل". ونستطيع أن نقرأ في ضوء ذلك التباين كلام مولانا علي عزت بيجوفتش عن الثنائية الإسلامية وعن الصلة بين العالم الجوّاني (عالم النيّة) والعالم البرّاني (عالم الفعل) حيث يقول رحمه الله: "في العالم البرّاني نفعل ما يجب علينا أن نفعله. في هذا العالم يوجد الغني والفقير، الذكي والغبي، المتعلم والجاهل، القوي والضغيف (وجميع تلك الاشياء لا تتوقف على إرادتنا ولا تعبّر عن ذواتنا الأصلية) في مقابل هذا العالم يوجد عالمنا الجواني، وهو عالم قوامه الحرية والاختيارات المتساوية وهي حرية كاملة حيث لا تحدها حدود مادية أو طبيعية." وقد يُتصوّر أن للمرء خياران، الخيار الأول أن يقف عند حدود العالم البرّاني وفقط ويفسّر من خلاله العالم. والخيار الثاني هو أن يقف عند حدود العالم الجوّاني وفقط ويفسّر من خلاله العالم. غير أن الخيارين كلاهما سجن. فالذي يقرر أن يرتهن نفسه في العالم البرّاني وفقط يسلّم قدرته على الاختيار لآخر يختار له، والذي يرتهن نفسه في العالم الجوّاني فقط يسلّم قدرته على إحداث الفعل لآخر يقوم بالفعل عنه. وهنا يطرح الإسلام الخيار الثالث، الخيار الإنساني الذي يراه الماديّون مفرطا في الروحانية ويراه الروحانيون مفرطا في المادية ويراه العاقلون مفرطا في الإنسانية، هو خيار تتصل فيه الروح بالجسد، يتصل فيه العمل بالنية، فالله لا ينظر إلى قلوبنا فقط ولا إلى أعمالنا فقط بل كما قال الصادق صلى الله عليه وسلّم: "ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، هو خيار من أراد أن يحيا جسدا أرضيا حلّت فيه روحٌ سماوية فصار إنسانا، فالإنسان كما قالد عنه د. عزمي بشارة: " الأقدام ثابتة على الأرض، ولكن الأقدام فقط على الأرض، لا الصدور ولا الرؤوس وإلا تحولنا إلى زواحف. والرأس في السماء، ولكن الرأس فقط في السماء، وليس الأقدام، وإلا حلّقنا كالطيور. والطيور ليست حرّة، بل هي كالزواحف عبيدة غرائزها، ولكنها تمارسها في الفضاء تحليقا.

الإنسان فقط هو الذي أهّلته الطبيعة أو العناية الإلهية أن يمشي منتصبا محرر اليدين، وأن يفكر بحرية. الحرية والواقعية النقدية خياران متلازمان شرطهما الإنسانية الواقعة بين السماء والأرض" لذلك فنحن نجد للإسلام طقوسا جسدية برّانية ذات مقاصد قلبية ومعانٍ جوّانية، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصيام لعلة التقوى، والزكاة للتطهير والتزكية وهكذا كل العبادات الإسلامية، فكفانا الله بذلك شر الوقوع في أسر الأرض أو السماء، فله الحمد أن بيّن لنا الطريق وأكمل لنا ديننا وأتمم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينا وجعل الحرية عليه دليلا.

وفي النهاية أقول أن كل حرية لم تبدأ بالعبودية لله ليست حرية ولا يُعوّل عليها، وكل عبودية لم تبدأ بالحرية ليست لله بل للخلق ولا يُعوّل عليها.


والله أسأل أن يُنوّر بصائرنا حتى نرى الحقّ حقا ونتبعه ونرى الباطل باطلا ونجتنبه.



باسم زكريا

باحث بمركز المربع للدراسات الإنسانية والاستراتيجية

21-8-2011

هناك تعليقان (٢):