الأحد، ٢٠ مارس ٢٠١١

عن دور النخبة فيما يأتي من وقت

إن لحظة الثورة بطبيعتها هي لحظة حقيقة تتكسر على صخورها أمواج الأوهام وتنجلي في آتونها معادن الحقائق. ومن أهم ما انكشف لي من حقائق في هذه الثورة، حقيقة النخبة وماهية دورها. تلك الحقيقة التي ظلت مشوّهة على مدى عقود مضت في مصر. حيث أن أي تعريف للنخبة لابد أن يحمل معنى انتخاب المجتمع لتلك النخبة لتقوم بدور هو كما أراه ترشيد للفعل الشعبي وليس إرشادا له، إدارة وليست سلطة ويكون ذلك الترشيد وتلك الإدارة عن طريق ربط الفعل بالفكر لتحقيق مصالح المجتمع، وبالتالي فالنخبة هي "مجموعة من قادة الفكر والرأي لابد أن تنتخب انتخابا ذاتيا من المجتمع، تعبّر عن تياره الرئيسي وتمارس دورها في الترشيد الفكري تطوّعا لتحقيق مصالح المجتمع". وإن اتفقنا على الانطلاق من هذا التعريف المتقدم سنكتشف أن ما غلب على مصر في العقود الماضية هو مضاد ذلك تماما. فالنخبة – غالبا – كانت تنتخب نفسها، تنعزل عن المجتمع وتمارس السلطة الفكرية عليه فتزيد في انعزالها وتزيد في طرد المجتمع عنها، وكثير منهم كانوا يرتزقون من كونهم نخبة فيكون سعيهم حثيثا لتحقيق مصالحهم الشخصية لا مصالح المجتمع.

كان كل ما تقدّم هو ما تجلّى فيما أسميه عقلية "سلم النقابة" وأقصد نقابة الصحفيين التي كان سلمها هو المكان الذي اعتاد مشهد عشرات المتظاهرين المحاطين بآلاف من عساكر الأمن المركزي في مظاهرة تستمر لساعات تنتهي في الغالب باعتقال البعض والتعدي على البعض وفرار البعض الآخر ولكن أهم ما كانت تنتهي إليه تلك التظاهرات هو تكريس العزلة بين النخبة والشعب. فالنخبة تزداد يأسا وإحباطا من الشعب "اللي مش عارف مصلحته" والشعب يزداد نفورا من النخبة التي – كما يراها – لا تهتم إلا بالنضال الإعلامي والمصالح الشخصية.

ثم اندلعت ثورة 25 يناير والتي لا أبالغ إن قلت أنها كانت نتيجة لتراكم ثوري امتد في مصر لقرون مضت بدأ ربما منذ النضال المصري ضد الاحتلال الفرنسي، غير أن الجديد في تلك الثورة أنها قامت واستمرت بعيدا عن توجيه النخب السياسية فذروة التراكم الثوري – فيما أرى – كانت حادثة مقتل الفتى السكندري خالد سعيد وما حملته من رسالة واضحة مفادها أن قمع نظام مبارك لا يقع فقط على السياسيين أو أصحاب الرأي أو من اختاروا ألا يسيروا "بجوار الحائط" بل إن النظام المصري قد وفّر خدمة توصيل القمع للمنازل. فكانت الرسالة واضحة للمصريين وهي أنه ليس لديكم ما تخسرونه. تلك الرسالة مع رسالة أخرى أرسلها لنا الشعب التونسي مفادها أن الشعب يمكن أن يطيح بالحاكم، هاتين الرسالتين كانتا ذروة التراكم الثوري.

والدعوة للنزول إلى الشوارع يوم 25 يناير للاحتجاج حين تناقلها النشطاء على "الفايس بووك" و"تويتر" كان أكثر المتفائلين يتوقع لذلك اليوم أن يكون يوما لبداية الاحتجاج لا الثورة ففوجئوا بملايين المصريين ينزلون إلى الشوارع يهتفون "كرامة – حرية – عدالة اجتماعية" ثم أدركت تلك الجموع بعقليتها الجمعية العبقرية أن ما يقف بينها وبين تلك المطالب الإنسانية هو النظام، فهتفوا "الشعب يريد إسقاط النظام" وظلوا على ذلك الهتاف أو تلك الحالة حتى أتم الله عليهم ما أرادوا. الجديد أن تلك الملايين نزلت إلى الشارع لأول مرة حتى فوجئ النشطاء بوجوه جديدة في الشوارع، وكثير من أصدقائي حين كانوا يتلقون رسائل مفادها "نكتفي بهذا القدر من الثورة" أو "أعيدوا الناس إلى منازلهم" كان ردّهم "الناس نزلت من تلقاء أنفسهم ولن يعودوا إلا من تلقاء أنفسهم" حتى أن الشعب أسقط من كان في الميدان معهم ثم ذهب ليتفاوض مع "عمر سليمان" على سقف مطالب أقل من المطالب الحقيقية للشعب، وهذا الملمح هو – في رأيي – أهم ملامح نضوج الوعي الشعبي المصري، وليس إسقاط مبارك. فأنت لا تحتاج إلى درجة كبيرة من الوعي حتى تنادي بإسقاط مبارك أما ما تحتاج الوعي له هو أن تسقط من يخدعك بسوء نية أو من يدّعي أنه يمثلك ويتصدّر المشهد ثم تكتشف أنه أقل منك شجاعة وخيالا.

وحالة "الشعب يريد" – التي تتجاوز الهتاف – تلك هي الحالة التي يجب أن ينبني عليها أسلوب عمل النخبة فيما يأتي من وقت ولكي يتم هذا العمل فلابد أولا أن تعرف النخبة الإجابة عن سؤالين أولهما أين ذلك "الشعب" ؟ وثانيهما كيف لها أن تدير لا أن توجه "إرادة الشعب" ؟

أما عن سؤال أين الشعب فأظن أن نتيجة الاستفتاء التي تتجه – فيما يبدو – إلى "نعم" لابد أن تعطي لهم صورة حقيقية عن مكان الشعب الحقيقي. فالتويتر والفايس بووك وبرامج التوك شو معظمهم كانوا يوجهون الرأي العام نحو "لا" ولكن فريق "نعم" – وهم ليسوا الإخوان فقط – صرف مجهوده إلى الشارع حيث يوجد الرأي العام الحقيقي وهذا هو ما يجب أن ينصرف إليه مجهود النخبة وعملها فيما تقدّم من وقت.

أما عن كيفية إدارة الإرادة الشعبية فهذا يستوجب أولا أن تدرك النخبة أن الناس لا تقبل بمن يتسلّط عليها فكريا فالناس نبذوا السلطة وهم الآن يتصرفون على أنهم هم مصدر السلطة والشرعية وهم مانحوها ومانعوها حتى وإن لم يدركوا تلك الحقيقة وتستقر في عقولهم فهي الآن مستقرة في قلوبهم كمنطَلق لتحركاتهم، ولكي تكسب النخبة شرعية في الشارع لابد أن تدرك تلك الحقيقة، حقيقة أن الشعب الذي ثار على نظام مبارك هو في الحقيقة لم يثر على شخص مبارك وإنما ثار على فكرة "السلطة" عموما، سلطة القهر والظلم وهو لن يقبل بسلطة وصاية فكرية ممن يسمّون أنفسهم نخبة، فيجب على النخبة أن تظل مع الشعب في نفس خطوته وتمارس دورها فقط في إدارة خطواته لا أن تسبقه وتنتظر منه أن يتبعها.

يجب أن يبقى الإعلام مع وسائل التواصل الاجتماعي "وسائل" لا غايات فأنا لا أفهم أن يعتبر أحد الناس أن منتهى دوره أن يدوّن أو يـ"تويت" أو يوزّع نفسه على برامج التوك شو بل يجب أن تبقى كل تلك الوسائل وسائل متصلة بغايات تتجاوزها فلا يجب أن نعطيها وزنا أكبر من وزنها الحقيقي في حياتنا وفي خريطة عملنا بل يجب أن نأخذ منها ما يخدم الغايات فقط وما يزيد فهو إسراف لا وقت له الآن.

رسالة أخيرة أوجهها لقادة الفكر وقادة الرأي تتعلق بمساحات العمل، فمساحة عمل قادة الفكر هي ترشيد أفكار "قادة الرأي" ومساحة عمل قادة الرأي هي ترشيد تحركات "الجماهير". أما أن ينشغل قادة الفكر بتوجيه الجماهير بشكل مباشر فهذا إهدار لطاقات قادة الفكر وتحميل الجماهير ما لاتطيق مما يعيدنا مرة أخرى إلى العزلة بين الفكر والفعل. وانشغال قادة الرأي بتوجيه بعضهم البعض تقصير عن أداء واجبهم، وليس المقصود هو الفصل التام بين قادة الفكر وقادة الرأي بل إن الواحد يكون من قادة الفكر في موضوع ومن قادة الرأي في موضع آخر ولكل مقام مقال ولكل حادثة حديث.

وكلمة أخيرة أقولها للنخبة بكل فرقها وأطيافها ... لقد نقلتكم ثورة 25 يناير من حالة "سلم النقابة" إلى حالة "ميدان التحرير" ولا أظن أن أحدا يريد العودة إلى "سلم النقابة" مرة أخرى.



باسم زكريا السمرجي
20-3-2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق