إن ما تواجهه ثورتنا الآن من محاولات للالتفاف حولها وتقويضها والعودة بها إلى نقطة البداية تقتضي من كل واحد منا أن يقدم ما لديه للمساعدة في تخطي ذلك الاختبار. وسأحاول من موقع المراقب أن أطرح رؤيتي لما تمر به ثورتنا الآن وكيفية الخروج منه.
أولا: الموقف من الجيش
لابد أن نقر بالدور الذي لعبه الجيش في حسم الثورة لصالح إرادة الشعب منذ يوم 10 فبراير وقت إعلان البيان الأول للمجلس الأعلى للقوات المسلحة حين أعلن تمام انحيازه لمطالب الشعب، ولكنه – ولحسن الحظ – لم يقم هو بالثورة ولم يكن ثائرا إنما انطلق لحماية "إرادة الشعب" وإنفاذها ولابد أن نتعامل معه في هذا الإطار فهو يحمي الثورة ولكنه لا يقودها ولن نطلب منه أن يقودها وإلا نكون كمن ينحر نفسه بيديه، ويعود طوعا بعجلة الزمن 50 عاما للوراء. أما عن من يقود الثورة فهو الشعب الذي ظل يهتف على مدار 18 يوما "الشعب يريد..." وحين أقول إرادة الشعب فأنا أقصد تلك الإرادة وذلك العقل الجمعي الشعبي المصري العبقري الذي قام بالثورة – وانتصر على النظام البائد في معركة الدم ومعركة الإرادة – لا إرادة النخب السياسية التي اعتادت على تظاهرات سلم نقابة الصحفيين. وإرادة الشعب تلك هي التي يحميها المجلس العسكري ولابد لنا أن نتفهم ذلك تمام الفهم، فتحرك الجيش يكون مدفوعا بدافعين إما بدافع الاستجابة لمطالب الشعب أو بدافع اتقاء الكوارث. وأغلب التحركات التي شهدناها للمجلس العسكري حتى الآن هي تحركات دافعها كان حماية إرادة الشعب ولنا أن نتخيل كيف يكون تحرك الجيش إذا كان مدفوعا بالخوف من وقوع الكارثة وهو تخيّل ليس بصعب خاصة بعدما شهدنا بوادر له بالأمس في ميدان التحرير ومنذ بضعة أيام في ميدان لاظوغلي، وبالأمس في ميدان التحرير
ثانيا: خطاب النخب
ينقلنا هذا إلى خطاب النخب والذي يجب أن يُوجّه إلى الإرادة الشعبية – أداة الضغط الحقيقية – ومن هذا المنطلق فإني أرى ذلك الخطاب الحلقة الأضعف في المشهد، فجموع الشعب بعد الثورة أعطت للنخب والنخب الشبابية تقديرا كبيرا على ما كانوا يقومون به على مدار السنوات الماضية وما قدموه في سبيل تحقيق ذلك الحلم الثوري وكانت تلك فرصة ذهبية لنخب الشباب كان يتوجب عليهم استغلالها للالتصاق بالشعب والخروج من مرحلة سلم نقابة الصحفيين إلى مرحلة ميدان التحرير لكن للأسف ما أراه هو ردّة عن ميدان التحرير إلى سلم النقابة مرة أخرى، فالخطاب السياسي لتلك النخب تحول مرة أخرى إلى خطاب استعلائي يمارس على الشعب نوعا من الوصاية ويتهمه بأنه شعب "مش عارف مصلحته" وأنه اعتاد حياة العبيد في تحدٍ صارخ للعقل الجمعي المصري الذي لا يجب أن نطعن عليه بعد ما رأينا من عبقرية كامنة فيه تبدّت في كل مراحل الثورة لزم البناء عليها لا تجاهلها.
ويتبدّى ذلك السلوك الاستعلائي في بعض المظاهر مثل طريقة الحديث عن التعديلات الدستورية وتكوين الأحزاب وحل أمن الدولة ووضع دستور جديد والانتخابات البرلمانية والرئاسية، وأنا لا أطعن على شرعية المطالب ولكني أطعن على طريقة المطالبة بها التي جعلتها مطالب "نخبوية" لا "شعبية" فبالتالي تجاهلها الجيش ولم يكترث بها.
والسبيل الوحيد لنقل هذه المطالب من مربع "النخبة تريد..." إلى مربع "الشعب يريد...." يتطلب إعادة ترتيب الأولويات في عقلية النخبة المصرية فكلنا يعلم أن البناء السياسي هو تجلٍ من تجليات المجتمع المدني ولكي يقوم البناء السياسي بناء متماسكا معبّرا عن المصلحة الوطنية لابد أن ينبني على أساس من مجتمع متماسك سليم، والسيولة التي نشهدها الآن في المجتمع المصري – وهي حالة طبيعية لمن استفاق من غيبوبة استمرت عقودا من الزمان – تلك السيولة لا تصلح لأن نبني عليها بناء سياسا صلبا يدّعي تمثيل المصلحة الوطنية الجامعة، بل يجب أولا أن يتم ترشيد تلك السيولة وتجميعها في تيار رئيسي مجتمعي واحد حتى يتسنّى لنا إقامة ذلك البناء فالبناء المجتمعي هو أساس البناء السياسي والنخبة الشعبية هي أساس النخبة السياسية والطريق الذي لابد للنخب السياسية أن تسلكه يكون من أسفل لأعلى لا من أعلى لأسفل. فبدلا من أن يتصدر الشباب المشاهد الإعلامية وطاولات المفاوضات ليتفاوضوا دونما قوة على الأرض، يجب أن يبدؤوا من الأرض، من الشارع، أن يقوموا بحملات توعية منظمة ومكثفة في الشارع لعوام الشعب حتى يتسنى لنا ترشيد تلك السيولة المجتمعية وبناء تيار شعبي مصري يعبّر عن المصلحة الوطنية المصرية الجامعة ويستطيع أن يكون هو قوة الضغط الحقيقية على المجلس العسكري أو على البرلمان أو الرئيس أو المجلس الرئاسي أو أيا كان من في السلطة.
خيارات المستقبل:
من موقع المراقب أيضا أحاول أن أطرح تصورا عن خيارات المستقبل التي تضمن حماية الثورة وما أنجزته.
والخيار الأول والأمثل بالنسبة لي هو تعيين مجلس رئاسي مدني عسكري وتعيين جمعية تأسيسية موسّعة لوضع دستور جديد قائم على شرعية 25 يناير بالكلية وتبقى حكومة عصام شرف كحكومة إنقاذ وطني لحين وضع الدستور الجديد وإقامة انتخابات تشريعية في مدة أقصاها عام تبدأ من تعيين المجلس الرئاسي تليها انتخابات رئاسية.
أما الخيار الثاني فهو رفض تلك التعديلات الدستورية الحالية على أن تكون انتخابات الرئاسة سابقة على الانتخابات التشريعية ولكن هذا الخيار يضع عبئا ثقيلا على القوى الوطنية حيث لابد لمن سيتولى الرئاسة في تلك الفترة أن يكون مرشحا توافقيا وطنيا يقوم بمهامه كرئيس للجمهورية لمدة واحدة فقط قدرها سنتان يلغي الدستور تماما ويعيّن جمعية تأسيسية لوضع الدستور الجديد ثم تجري انتخابات برلمانية ثم رئاسية.
أما إن فشلت القوى الوطنية في صنع التوافق فسننتقل للأسف إلى خيار الأمر الواقع وهو أن تمر التعديلات الدستورية وتُجرى الانتخابات التشريعية قبل الرئاسية وسيكون الرهان هنا على الشارع أن يظل يقظا ومتمسكا بمطالبه حتى يضغط على البرلمان إن أتى كما – هو متوقع – بم لا يمثل الثورة لحين انتخاب رئيس توافقي وطني يلغي الدستور ويعيّن جمعية تأسيسية لوضع الدستور الجديد.
وفي كل الأحوال فالرهان على الشارع الذي لن يتبنى المطالبة بتلك المطالب إلا إذا توجهت إليه النخب بخطابها كما أوضحنا سلفا.
بقي أن نقول أن تلك السيولة وذلك الارتباك الحادث في مصر الآن هو طبيعي بعد ثورة قامت في بلد تعداد سكانها 85 مليون نسمة عاشت في الديكتاتوريات المتعاقبة على مدار عقود وأسقطت نظاما في 18 يوم. المسؤولية الآن تقع على عاتق النخب أن يتخلوا عن أساليبهم المعهودة وابتكار أساليب خطاب وإدارة جديدة لأن ما حدث في مصر جديد ومن العبث إدارته بالوسائل السياسية القديمة.
باسم زكريا السمرجي
10-3-2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق