قديما كانت إحدى الحيل التي تستخدمها الجيوش لتخيف أعداءها كانت أن يتحرك الفرسان بخيولهم ليثيروا الغبار فيرتفع التقدير العددي للجيش في عيون العدو، ذلك التقدير الذي قد لا يكون إلا محض خيال.
وبعد مرور ثمانية أشهر على الثورة نستطيع أن ندّعي أن الغبار الثوري قد سكن الآن بم يسمح لنا أن نرى حقيقة المشهد. فقد ذهب أوان السكرة وحضر أوان الفكرة ومن التقصير أن نظل سكارى في أوان توجّب فيه حضور الفكرة.
إن أردنا تطوير الثورة أو استثمارها أو البناء عليها فلابد أن نعلم أن منبت الثورة الذي نبتت منه ومقصدها الذي يجب أن تتوجه إليه هو المجتمع المصري. وإن كان الأمر كذلك فلابد أن تبدأ فكرتنا منه "المجتمع المصري" بغية فهمه واستنطاقة بنموذجه الذي يرضاه لنفسه لا أن تبدأ من نقل نموذج مُنبتّ الصلة عن المجتمع والتمركز حوله معيارا للنجاح ومحاولة إخضاع المجتمع له. فتلك المحاولة مصيرها الفشل ولن تعود على المتصدّين لها إلا بالإحباط الذي يحوّلهم في نهاية الأمر إلى اتّهام المجتمع بالتخلف عن الحضارة بدلا من اتّهام أنفسهم بالتخلف عن المجتمع وانحراف بوصلتهم عنه.
وأجدني وأنا أحاول النظر في طبيعة السلوك الثوري المصري غير قادر على فك الارتباط بين هذا السلوك وبين فيضان النهر, النهر الذي يسري مختلطا بالدماء في عروق كل مصري نبت من طينة ذلك البلد، فالنهر يفيض في موسمه فيضانا عارما يمتزج فيه الهدير بالأهازيج بالغرق بالخصوبة بالمياه التي تغمر الأرض ثم يعود إلى سكونه، وتقصير الناس في الاستفادة من تلك المياه التي غمرت أراضيهم وتقاعسهم عن توجيهها لري أراضيهم وإنماء محاصيلهم لن يكون سببا كافيا لأن يرتد النهر إلى الفيضان في غير موعده ليجبر ذلك التقصير.
وإن كنت أتحدث عن أوان الفكرة فأنا أتحدث عن أوان ترشيد الفيضان الثوري الذي استكان وانفض زخمه ولكنه ترك المياه التي غمرت الأراضي دفقات من المجتمع اندفعت إلى شغل الحيز العام ولكنها كغمرات المياه، ساكنة في انتظار أن يحرّكها القائمون على الزراعة ترشيدا وتوجيها والقائمون على الزراعة هم النخب التي تصدّت للقيام على أمر المجتمع وإصلاحه، ولكي يحدث ذلك الترشيد لابد أن نُطوّر معرفتنا بذلك المجتمع بتنوعاته وبمنظوماته القيمية التي يرى العالم ويتفاعل معه منطلفا منها. فنهضة مجتمع ما لا تكون بأن يتابع ذلك المجتمع "المعايير العالمية" للنهضة والتقدّم فالمعايير العالمية تلك هي بالأساس معايير المتغلّب وهي خاصة به لا تُلزم غيره بل إن إلزام غيره بها هو تكريس لتغلبه، أما النهضة الحقيقية لمجتمع ما تكون باستنطاق ذلك المجتمع بخصوصيته الثقافية والحضارية كمكوّنات للهوية، الهوية التي توجّه طريق النهضة والتقدم الخاصين بذلك المجتمع.
إن الثورة كحلقة من حلقات التدافع والتنازع الأزليين بين الناس والسلطة على شغل الحيز العام، هي ثورة الناس على مؤسسات "الدولة" بغية إسقاطها واستبدالها أو تطهيرها. فمؤسسات الدولة وهي تحتكر القوة يثور الناس عليها حين يصل التدافع إلى نقطة ما قبل اختلال ميزان القوة، ويرتبط استمرار الثورة بمدى قدرة الناس على الدفع في اتجاه قلب ميزان القوة لصالحهم، ويُحكم على الثورة بالنجاح حينما تنجح في تطهير تلك المؤسسات أو إسقاطها وبناء مؤسسات بديلة، أي في بناء معادلة جديدة للقوة. وفي الحالة المصرية لم تكن الثورة على نظام مبارك ثورة على مؤسسات الدولة، فمصر في عهد مبارك كانت "لا دولة". ففكرة المؤسسية في الدولة المصرية تحتضر منذ بداية تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي التي وصف حقيقتها الأستاذ أحمد بهاء الدين حين أسماها "السداح مداح". فالسداح مداح هو عكس فكرة المؤسسية تماما التي تقوم على توحيد معايير القياس التي يُقاس عليها إنتاج الأفراد في خلال تلك المؤسسة ويُقاس عليها أيضا ترقي الأشخاص وتوزيع القوة بينهم داخل المؤسسة على معيار كفاءة ما، والمفترض أن تقترب تلك المعايير من الموضوعية وتبتعد عن الذاتية قدر الإمكان حيث أن الفكرة الأساسية في المؤسسات هي تجاوز التقلبات المزاجية للأشخاص بغية تحقيق استدامة الإنجاز المنوط بهذه المؤسسة أو تلك تحقيقه، غير أن انفتاح "السداح مداح" كان ضد ذلك كله، فمعايير قياس النجاح والترقي لم تكن إلا معيارا واحدا وهو مراكمة الثروة، وهو معيار ليس بحاجة إلى بيان فساده وتأثيره السلبي على منظومة المجتمع القيمية بأكملها، ويكفينا أن نتابع نوعية الإنتاج الفني مثلا في هذه الفترة وعلاقته بنوعية الإنتاج الفني قبلها. وهكذا فقد بدأت فكرة المؤسسات في الدولة في التهاوي منذ بداية تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي ووصل ذلك التهاوي إلى ذروته مع صعود نجم رجال الفكر الجديد في الحزب الوطني الديمقراطي وتمكّنهم من الاستئثار بمراكز القوى في "الدولة" استئثارا جعلهم على رأس المنظومة القيمية في البلاد، وكان كل ذلك يتم بالطبع برعاية ومباركة العائلة الحاكمة لمصر. والأمر لم يتوقف عند فساد المنظومة القيمية والأخلاقية لدى هؤلاء الذين استأثروا بمراكز القوى بل من البديهي أن ينسحب ذلك الفساد على كل من أراد أن يحقق نجاحا في إطار تلك المنظومة.
وحقيقة ما أنجزته الثورة في ذلك الأمر هو تفكيك تلك الكتلة الصلبة الموجودة في أعلى هرم المنظومة القيمية التي تؤول إليها المصالح والقوى. ولكن ليس هذا بكاف، فشبكات المصالح وتوازنات القوى أكثر تعقيدا من ذلك، وطول التعامل مع الفساد أدى إلى تماهي كثير من الناس معه ومع منظومته القيمية، وهؤلاء الذين تماهوا مع الفساد هم العقبة في طريق تقدّم الثورة وسيظلون كذلك حتى يتم تفكيك وإعادة بناء منظومتهم القيمية الخاصة.
ومن هذا المنطلق أتناول حالة تناقشت فيها مع أحد الأصدقاء وهو د. عمرو صلاح ودفعني لتدوينها أستاذتنا د. هبة رؤوف عزت والحالة هي حالة الأحياء الشعبية التي أسكن أحدها وهو حي "المطرية" بالقاهرة. فالحي نشأ أصلا من زحف الريف عليه، حيث يقترب جدا من القليوبية. وكان الحي قديما لا يوجد به سوى قصور الباشوات ومزراعهم، غير أن ماحدث هو زحف من الريف عليه بغية البحث عن الرزق، فتآكلت الزراعة حتى اختفت تماما وحلّت محلّها علب الكبريت الخرسانية، التي لا تشي إلا بأن من بناها يبحث فقط عن أعلى عائد مادي دون النظر لأي اعتبار آخر. وتم هجر القصور والفيلات وتم هدم بعضها واستبدال الأبراج الخرسانية بها. ولسنا في حاجة إلى أن نقول أن كل عمليات التعمير والبناء تلك (وهي في حقيقة الأمر تخريب وهدم) كانت تتم بمعزل عن القانون، القانون الذي يمثله ويقوم على تطبيقه قسم الشرطة، وتناول العلاقة بين قسم الشرطة وبين المجتمع يؤكد لنا على طبيعة مؤسسات "اللادولة" المصرية حيث نستطيع أن نرى شبكة المصالح تلك واضحة جلية في العلاقات التي كان يقيمها قسم الشرطة مع مراكز القوى في المنطقة التي تكون في الأغلب خارجة عن القانون المنوط بقسم الشرطة أن يقوم عليه، فتتحول وظيفة قسم الشرطة من تمثيل الدولة وحماية القانون إلى محاولة إيجاد مكان لنفسه داخل شبكة المصالح المجتمعية في هذه المنطقة أو تلك، ويتحول ضباط الشرطة من ممثلين للدولة قائمين على حمايتها إلى مجرد مجموعة من الأفراد لا يختلفون عن باقي أفراد المنطقة سوى في الزي، يحاولون أن (يمشّوا حالهم) بأن يوجدوا لأنفسهم مكانا في شبكة علاقات القوى في المجتمع الموجودين فيه. والتفاصيل في تجليّات ذلك المسلك كثيرة.
والتفكير التقليدي لإصلاح المناطق الشبيهة، يوجّه الفعل نحو طريقين لا ثالث لهما وهو إخلاء تلك المناطق وتسكين أهلها في تجمّعات سكنية جديدة، تجمّعات سكنية تتشابه وحداتها حد التطابق وكأننا نتعامل مع قطيع لا مع مجموعة من البشر، وهذا الطريق – إن تجاوزنا عن مسألة التنميط تلك – يغفل حقيقة مهمة جدا وهي أن هؤلاء القوم هم من صنعوا بيئتهم ولم تصنعهم البيئة فلا جدوى على الإطلاق من أن تنقلهم في بيئة أو في سياق مختلف، فالذي سيحدث هو أن هؤلاء القوم سينتقلون (هذا إن حدث) بمنظومتهم القيمية إلى المكان الجديد فلا يلبثوا إلا أن يُغيّروا بيئتهم الجديدة لتتوافق ومنظومتهم المعيارية المتجذرة في نفوسهم.
الطريق الثاني يكون بإدخال الخدمات أو تحسينها في تلك المناطق دون نقل أهل المنطقة وهو أيضا طريق يتوجّه إلى إصلاح البيئة ويتجاهل الإنسان، فلا يؤدي إلا إلى إصلاح ظاهري غير متجذّر لا ضمانة لاستدامته.
المشكل أنك إن أردت إصلاح تلك المناطق فلابد أن تُدخل إليهم مؤسسة بمعايير واضحة لقياس النجاح، غير أن هؤلاء القوم ضد المؤسسات، ولم تُفلح أي مؤسسة في الدخول بينهم بل على العكس هم يفككون المؤسسات ويُخضعونها لمعاييرهم هم (فما ينطبق على قسم الشرطة ينطبق على المدارس وباقي المؤسسات بأشكال مختلفة). الحل في أن يتبنّوا هم مؤسسة ما تخاطب بمعاييرها فطرتهم، تلك الفطرة التي لا يزالون على اتصال بها حتى مع ما بالمنظومة القيمية من فساد، فهم قوم يكرمون الضيف ويوقرّون الكبير ويعطفون على الصغير ويتعاونون فيما بينهم. لذلك فإن المؤسسة الوحيدة التي يُمكن أن يتقبلها القوم ويعتبروا بها هي مؤسسة تنبت من تلك الفطرة وتتوجه إليها. والمؤسسة التي تستطيع القيام بذلك هي مؤسسة المسجد.
مؤسسة المسجد التي تحوّلت للأسف من مؤسسة مركزية في المجتمع، إلى دكّان يُمارس فيه النشاط الروحي فقط وتنحّت تلك المؤسسة تماما عن مكانها في مركز الحيّز العام. وعن دورها في ضبطه واكتفت بكونها دكانا وتحوّل إمام المسجد من قيـّم على منظومة القيم في مجتمع المسجد إلى موظّف بساعات عمل / ورديات محددة، هو يأتي ليفتح الدكّان/المسجد. يقضي ورديّته/الصلاة ثم يغلق الدكان/المسجد وينصرف، ويكون في الغالب ذلك الشيخ ليس من سكان المنطقة، وقد يكون من سكان الريف مثلا فلا يستطيع أن يقيم كل الصلوات، فيوكل لأحد أهل المنطقة أمر إقامة الصلوات ويكتفي هو بإمامة صلاة الجمعة ويقضى بضعة شهور ثم تأتي حركة التنقلات لتنقله إلى مكان آخر وتأتي بغيره. وتوجهي الآن إلى الإسلاميين الذين ينشدون أناشيد النصر أو الشهادة وينذرون أنفسهم لمحاربة العلمانية وتطبيق الشريعة ويفدون المادة الثانية بأرواحهم ويبارزون بعضهم البعض بالتقعر بالمصطلحات، أقول لهم يا أصدقائي الأعزاء إن انسحاب مؤسسة المسجد من شغل الحيّز العام واكتفاءها بدور الدكّان يُمارس فيه النشاط الروحي هو جوهر العلمانية وحقيقتها حتى وإن لم تتسمّى بذلك، فالعبرة ليست بالمصطلح إنما العبرة بالحقيقة على الأرض.
الحل أن يعود للمسجد دوره المركزي في مثل تلك المجتمعات، وهو أمر ليس بالعسير خاصة في ظل ارتخاء القبضة الأمنية للدولة التي كان لها دور كبير في الحيلولة بين المسجد وبين ممارسة دوره الحقيقي. وبم أن الإخوان منشغلون بالانتخابات والسلفيون مشنغلون بمليونية اللحية، فالمسؤولية تقع على عاتق المجتهدين من المسلمين الذين يحملون همّ بناء المجتمع المسلم. عليهم أن يتواجدوا هم في المساجد ويعمّروها بأن يكون المسجد هو منطلق إقامة مختلف الأنشطة الطقوسية وغير الطقوسية بغية إعادة الناس للمسجد وإعادة المسجد للناس دارا للعبادة، والعلم، والتثقيف والاجتماع، والترفيه أيضا.
باسم زكريا السمرجي
24/9/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق