الأربعاء، ٢٢ ديسمبر ٢٠١٠

الشريط - مقال تميم البرغوثي في الشروق يوم الثلاثاء 21/12/2010


بقلم:تميم البرغوثى

21 ديسمبر 2010 10:02:43 ص بتوقيت القاهرة

تعليقات: 4

الشريـط

أراه دائما، وإن تعمدت أن نسيانه ذكرنى به تعمدى، وإن صددت عنه وجهى تخيلته أمامى، وهو ليس عدوا علا أو حبيبا قلى أو رئيسا يحب الصور والنظارات الشمسية، إنما هو شاشة رفيعة على شكل شريط يدور على مبنى كبير وسط ميدان التايم فى مدينة نيويورك.

هو شريط أخبار، تمر على شاشته الأخبار مضيئة ثم تنطفئ، كذلك الشريط الذى تراه فى الفضائيات أسفل الشاشة، يمر وعليه عناوين الأحداث.

وقد تسأل لماذا يحتل خيالى هذا الشريط فى مدينة مليئة بالألوان والأصوات تَجَمَّع فيها كل لسن وأمة، وما الذى يثنى مثلى عن التملى فى تمثال قارورة الكولا العملاقة، أو ساعة سواتش العملاقة، أو الفتاة العملاقة التى تعلن عن ملابسها وتعلن ملابسها عنها، إلى غيرها من عماليق الميدان المضاءة الدوارة كالرادارات على رؤوس الأبنية.

أقول ما الذى يشد انتباهى إلى هذا الهامش الأفقى الأسود ذى الأحرف الصفراء الركاضة بلا توقف، فأقف أمامه عير مدرك موقع قدمى حتى ينبهنى أحدهم أننى واقف فى طريق السيارات.

إن موقع هذا الشريط الهامشى الضئيل دال، هو موقع الأخبار من الإعلانات، وموقع العالم من البال العام والخيال الجمعى للإمبراطورية وربما مر فى هذا الشريط، بين العمالقة المضيئة، خبر مقتل خمسة فلسطينيين، أو خمسين عراقيا، أو انقلاب فى هذا البلد أو ذاك.

نحن هامش هذا المكان، بل نحن هامش هامشه، وحين نكون فى المقدمة فنحن فى مقدمة لائحة اتهام ما.

كلما مررت بهذا الشريط الذى يختصر تواريخنا العامة والخاصة فى لمحة، فكرت أن أكبر كبير عندنا لا يعنى هنا الكثير، فلو أتيت بكرام الخلائف والإئمة والسلاطين والشعراء إلى هذا الميدان لعاملوهم أساسا على أنهم رجال غريبو الأزياء والأطوار، ثم انصرفوا عنهم إلى إعلاناتهم العملاقة.

وإن أنت جمعت الراشدين، والأمويين والعباسيين والصحابة والأئمة، والشعراء والكتاب والمغنين من عهد عاد إلى يوم الناس هذا، ثم أوقفت دونهم دليلا يشرح للناس من هم، لاجتمع عليك، ربما، عدد مساو لمن اجتمعوا على فتية سمر يرقصون الراب، أو مجموعة من الدعاة يلبسون تيجان من الورق الأصفر ويزعمون أنهم القبيلة الضائعة من أولاد يعقوب بن إسحاق.

وليس هذا فى حد ذاته مؤلما، فأن تكون غريبا هو أن تكون ضعيفا، خارج المتن فى أكثر الأحيان، لكن المؤلم فى الأمر، هو مركزية الولايات المتحدة عندنا على علاتها، فالناس عندنا منقسمون بين مقاوميها والمتعاونين معها تعتمد حياتهم وحياة بنيهم على ذلك، أما بين الجموع المارة فى ميدان التايم فنحن المارون فى الشريط لمحا، مواقفهم منا تتراوح بين مساند ومعاند، لكننا لسنا قضيتهم، إن أحبوا أو كرهوا فلأنهم استحسنوا أو استقبحوا بقدر ما علموا أو عُلِّموا، أما حياتهم فلا تعتمد على مواقفهم تلك.

ذهابهم للحرب فى العراق، كما قال رئيسهم فى القاهرة، كان اختيارا، لم يكونوا مهددين حقا، وكان الأمر تفضيلا ومفاضلة. وبالتداعى، يذكرنى هذا الشريط بحروبنا جميعا، لم نخض أيا منها تفضيلا كأن يجتمع مجلسنا ثم يقرر أن الحرب مفيدة فيدخلها، كل حرب فى القرنين السابقين، منذ دخول نابليون الأزهر فرضت علينا فرضا، حتى حين حارب بعضنا بعضا واستعان بالاستعمار، فإن خوفه من الاستعمار كان يجبره.

ثم ترى حروبنا خبرا فى شريط على بناية عندهم، وترى حروبهم ركام بنايات عندنا.

ثم يزيد الموضوع تعقيدا، أن هذه نيو يورك، وهى فى رأيى من حسان المدن، حاول أن تكرهها وستفشل، فكما يقول صديقى العزيز القصاص الكبير حسام فخر، هى أكبر مدن العالم الثالث.

ليست نيويورك مدينة الشقر المسلحين، عريضى الرقاب جامدى الوجوه، حتى تحسب أنهم يرفعون الأثقال على خدودهم، أمثال هؤلاء يرسلونهم إلينا، أما أهل نيويورك، فمثلى ومثلك، عرب وفرس وترك وصينيون ولاتينيون، وأفارقة، من شرق أوروبا، ثم من غربها ثم من سائر الولايات المتحدة.

وهذه المدينة بنيت للغرباء، فشوارعها مقسمة عرضا وطولا لتشكل معا خريطة من المربعات المرقمة، فيمكن تحديد أى نقطة فى المدينة برقمين، كأن آثار أقدام أهلها آلاف من الرسوم البيانية التى تكتب وتمحى كل ساعة، فلا يحتاج الغريب فيها إلى معرفة بل يرى فيها سبيله بسهولة جمة، ثم يجد فيها من يشبهونه، ممن يأكلون طعامه ويفهمون كلامه.

لذلك، حين ترى أن موقع أهلك فيها من امرئ القيس إلى يومك هذا، مرورا بأنبيائك وعارفيك وشعرائك، ليس إلا بضعة مصابيح تلمع ثم تختفى على شريط مهمل بين الإعلانات فإنك تحزن حزنين أو ثلاثة.

فنيويورك تزعم أنها ليست منهم، أعنى من الإمبراطورية، نيويورك تزعم أنها منا، أنها للمغلوبين المتعبين، بل إن شعرا بهذا المعنى هو المكتوب على قاعدة تمثال الحرية ليحيى الداخلين إليها «أرسلوا إلى متعبيكم وفقراءكم»، وهذا الشريط يذكرك أنها لهم لا لك، وأن هذه المدينة الحية مملوكة لواشنطن الرخامية.

لست أدعو لأن تهتم بنا أمريكا أكثر، لا والله، فقد لقينا من اهتمامها ما كفى ولو اهتمت أكثر أوشك ألا يبقى منا أحد، إنما أدعو ألا تكون مرجعا، ولا نموذجا، والزيادة من كل علم خير، فلنعرفها أكثر، ولكن لنهتم بها أقل.

لأنها بخيرها وشرها أمبراطورية أخرى، ولو مثلت تاريخنا، وتاريخ جيراننا، أعنى الأمم كبيرة السن من فقراء هذا الكوكب كالهند والصين، أقول لو مثلته فى صورة ميدان، لكانت الإمبراطوريات تمر عليه مرورا كالشريط، نلقى عليها نظرة عابرة، لنعرف الأخبار، ثم نلتفت إلى أشغالنا.



http://www.shorouknews.com/Columns/Column.aspx?id=358422

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق