بدون مقدمات سأحاول أن أسرد بعض الخواطر عن الموجة الثانية للثورة التي نشهدها الآن في نقاط محددة مُقسمة لأربعة أقسام – يمكن أن يُقرأ كل قسم منها منفصلا – القسم الأول عن الاختلاف بين الموجة الثانية والموجة الأولى للثورة، القسم الثاني عن الثورة الثانية وكيف يمكن – في رأيي – أن تُنجز ما قامت لأجله، القسم الثالث عن الانتخابات، القسم الرابع عن ملاحظات على الهامش
· عن الفارق بين الموجة الأولى والموجة الثانية للثورة
o كان ظاهر الموجة الأولى من الثورة يوتوبيا برّاقة في ميدان التحرير، حالة نشوة صوفية، مساحة حرة يعبر المصريون فيها عن أنفسهم بالأهازيج وبالنكات، يعانقون ضباط الجيش، ويلتقطون الصور بجوار الدبابات، كانت ثورة "الشباب الجميل"، شباب الطبقة المتوسطة العليا، ثورة سعى لجني ثمارها "القوى السياسية". بينما الموجة الثانية هي ثورة الشهداء بامتياز، هي ثورة إسقاط النخب والقوى السياسية، هي ثورة إسقاط كل الخطوط الحُمر إلا الشعب الخط الأحمر، هي ثورة ملح الأرض "سائقي الدراجات البخارية الرخيصة التي تم تصنيعها في الصين" وهم يستخدمونها كآلية إسعاف شعبي لنقل المصابين من الصفوف الأمامية لسيارات الإسعاف، هي ثورة التكتيكات الميدانية، والحيل الحربية. هي ثورة، بينما كانت الموجة الأولى كرنفالا والثورات لا الكرنفالات هي ما تصنع التغيير.
o بات واضحا لي أن الثورة لم تكن ثورة شعب على نظام فاسد سياسيا واقتصاديا فقط، بل إنها صراع بين منظومتين مختلفتين للقيم لجيلين مختلفين تمام الاختلاف، جيل من الكبار الذين يبالغون في التأني ويفضلون أكثر الطرق أمانا في الحياة، فالبحث عن الأمن على قمة أولوياتهم بم يتضمّنه ذلك من إعلاء لقيمة الاحترام على كل القيم، وجيل من الشباب المتعجل المُخاطِر، الذي لا يبالي بسلوك أكثر الطرق وعورة لنيل الحرية، فقيمة الحرية هي أعلى قيمة لدى هذا الجيل الشاب. وربما يكون هذا الفارق نتيجة الاختلاف بين الظروف المجتمعية لكل جيل، فجيل أبائنا الكبار أغلبه كان من موظفي الحكومة الذين لا يميلون للمخاطرة كثيرا، بينما جيلنا خرج للحياة فوجد الطرق كلها ضبابية ففُرضت عليه المخاطرة لنيل أبسط حاجاته الأساسية. يتضح هذا الانفصال أكثر ما يتضح في موقف شباب الإخوان والسلفيين من المشاركة في تلك الموجة الثانية من الثورة. فبرغم الموقف الرسمي لجماعة الإخوان وكثير من مشايخ السلفيين المتأرجح بين السكوت والرفض إلا أن كثيرا من شباب الإخوان خرجوا عن ذلك الموقف الرسمي وكانوا في الميدان، وبعضهم أعلن رفضا صريحا قاطعا لموقف الجماعة الرسمي. وأيضا نفس الأمر حدث من الإخوة السلفيين، وهو أمر – لو تعلمون قوة التنظيم في جماعة الإخوان وقدر مشايخ السلفيين في نفوس أتباعهم – عظيم
o على صعيد آخر فإن الثورة، وبخاصة الموجة الثانية منها هي مواجهة مباشرة مع الإرادة الأمريكية في المنطقة، فرأيي المتواضع الذي أقوله باختصار هو أن المؤسسة العسكرية لم تكن مجرد مؤسسة، بل كان أفراد الجيش – بم يحصلون عليه من امتيازات لهم ولأسرهم – يمثلون طبقة كاملة في المجتمع المصري، تم تهديد مصالح تلك الطبقة بصعود طبقة رجال الأعمال المحيطة بجمال مبارك، وكان هذا جليا في الأنباء المتواترة التي كانت تشيع عن عدم رضا المؤسسة العسكرية عن التوريث. ولما اندلعت الثورة وسقطت تماما الشرعية السياسية لحكم مبارك، كانت هذه هي الفرصة لأن تسترد المؤسسة العسكرية مكانتها، فاحتلت السلطة مُمثلة في المجلس الأعلى للقوات المُسلحة. ولسنا بحاجة لبيان أن المجلس العسكري كان جزءا من النظام بل ربما كان هو النظام نفسه، والخلاف كان مجرد خلاف على المصالح، ولما كان الأمر كذلك كان المجلس العسكري هو الضامن الأخير للحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة لذلك كان الضغط الشديد لتمرير وثيقة السلمي التي تُقيم الجيش حاميا "لمدنية" الدولة، بغية تقويض أي فرصة للشعب المصري أن ينتخب سلطة تعبر عن طموحاته وتطلعاته التي هي بالضرور ضد الانبطاح لأمريكا والتعاون مع إسرائيل.
· عن الموجة الثانية من الثورة
o أرى أن وضعنا الحالي ليس وضعا سياسيا بل هو وضع ما قبل سياسي، فخريطة الواقع وموازين القوى مازالت تتشكّل على الأرض، ولن ننتقل إلى مرحلة السياسة إلا بعد أن يهدأ ذلك التشكل وتستقر تلك الموازين على معادلة واضحة لتوازنات القوى، حينها يأتي وقت الحل السياسي. فمصر الآن في مرحلة مخاض وهي في طريقها لولادة نظام سياسي جديد يُبنى على معادلة جديدة لتوزيع القوى أفقيا بدلا من الأشكال الهرمية التقليدية لتوزيع السلطة. وأخشى أن التسرع لإطلاق مبادرات للحلول السياسية – مع تقديري لمطلقيها – قد يخنق تلك الولادة ويودي بنا إلى الحصول على جنين سياسي لم يتم نضجه
o الصراع الدائر الآن هو صراع بين شرعيتين، شرعية أخلاقية وشرعية قانونية رسمية. الشرعية الأخلاقية هي في ميدان التحرير وفي باقي الميادين، أما الشرعية الرسمية فهي ما زالت في يد المجلس العسكري. وما يحسم ذلك الصراع أن تتحول إحدى الشرعيتين لشرعية سياسية بأن ينضم الطرف الثالث (عموم الشعب) لأي منها، وكان ذلك ما استغرق عقودا في ظل نظام مبارك حتى تتحول الحركات الاحتجاجية لثورة، وقد نجح المجلس العسكري في أن يختصر تلك العقود إلى شهور، ففشل المجلس العسكري في إدارة المرحلة الانتقالية، بالإضافة إلى ثبات جيل يتمسك بأمله الأخير أعزلا أمام الرصاص، عجّل بشكل ملفت من تآكل شرعية المجلس العسكري في الشارع، فتراجُع تأييد المجلس العسكري في الشارع متسارع بشكل ملفت جدا، وبقليل من الثبات ستسقط تماما شرعية المجلس العسكري في الشارع وتتحول الشرعية السياسية للثورة تماما.
o المطلب الأساسي الآن هو إسقاط شرعية المجلس العسكري وهي سقطت تماما في الميدان وباقي ميادين الثورة، وتتراجع كما أسلفت في الشارع، والحديث الآن على آليات نقل تلك الشرعية ورغم عدم اقتناعي بجدوى المبادرات السياسية الآن إلا أنها مسارا موازٍ لابد أن يسلكه أهله، بشرط أن تكتسب تلك المبادرات شرعيتها من الميدان وباقي ميادين الثورة. وليس لي اعتراض على أو تفضيل لمبادرة بعينها، فكل المبادرات تقريبا تدور في فلك نقل صلاحيات إدارة المرحلة الانتقالية إلى سلطة مدنية، وحتى إن لم يكن نقل تلك الصلاحيات بشكل كامل فالحد الأدنى الذي أقبله هو نقل صلاحيات إدارة الانتخابات وكل ما يتعلق بتفاصيل المجلس التشريعي، وإن قال قائل أن تلك السلطة المدنية لن تكون منتخبة فسنقول بكل بساطة أن السلطة العسكرية أيضا ليست منتخبة، وإن قيل أن المجلس العسكري هو السلطة الشرعية بموجب الاستفتاء نقول أن المجلس العسكري لم يلتزم بالاستفتاء وفشل في إدارة المرحلة الانتقالية فسقطت شرعيته. فالحد الأدنى الذي أقبله كحل هو نقل صلاحيات إدارة كل ما يتعلق بالمجلس التشريعي لسلطة مدنية، مع التعجيل بإجراءات الانتخابات الرئاسية لتبدأ بالتوازي مع الانتخابات البرلمانية، على أن يظل الناس في الميادين حتى بداية إجراءات الانتخابات الرئاسية، فالسلطة لا يؤمن جانبها
· عن الانتخابات
o سأقاطع الانتخابات القادمة طالما ظل المجلس العسكري محتفظا بكامل صلاحياته فرأيي أن إجراء الانتخابات في ظل احتفاظ المجلس العسكري بصلاحياته بعد أن فقد شرعيته لن يؤدي إلا إلى ترميم شرعية المجلس العسكري، فلا أتصور كيف يمكن أن يظن واحد منّا أن المجلس العسكري – بعد أن تورّط أمام الشعب في تلك المذابح – سيسلّم صلاحيات لمجلس شعب تمكّنه من محاسبته. وما يقلقني ليس عملية التصويت، بل ما يتبعها من تفاصيل وتعقيدات قانونية قد يُغرقنا فيها المجلس العسكري فتزيد فرص المجلس العسكري للالتفات على الشرعية
· ملاحظات على الهامش
o عبثية جدا فكرة أن يُبنى جدار عازل بين المتظاهرين العزّل وقوات الأمن. أجهزة الدولة غير القادرة على ضبط سلوك أفراد أجهزتها النظامية هي أجهزة فقدت شرعيتها
o لست قلقا على مصر، فما يحدث في مصر الآن هو من أفضل ما يمكن أن يكون، فأخيرا وبعد قرنين من الزمان قام المجتمع المصري ليثور على دولة محمد علي المركزية المتسلّطة، استرداد لإنسانيته واستعادة لكرامته واستقلاليته
o سلمية الثورة لا تعني عدم رد العدوان، فالدفاع عن النفس حق مشروع
o من حق الثوار التظاهر والاعتصام حتى على أبواب وزارة الداخلية، وأول خطأ يقدم عليه الثوار ويستدعي الرد من قوات الأمن، هو إلقاء أول زجاجة مولوتوف داخل أسوار الوزارة
o بالأمس كنت أستقل "التوك توك" وجاورني فيه شاب يبدو عليه موظفا، كان يتحدث عن الاستقرار وضيق الرزق ولم يكن راضيا بشكل كبير عن الثورة، فرد عليه سائق التوك توك أن من في التحرير على حق، وأن المجلس العسكري لابد أن يرحل ويسّلم السلطة لسلطة مدنية. بعد أن وصلنا وبينما أهم بالنزول لمحت مقود التوك توك مُغطى بقناع الغاز
o في الصفوف الأولى في شارع محمد محمود، وجدت سلفيين يتلقون الرصاص والغاز ويقذفون قوات الأمن بالحجارة وهم يكبّرون، وشبابا آخرين يقذفون قوات الأمن بالحجارة وهم يسبونهم "خذ يا ابن ....." وشابا آخر ينادي: "يا مايكل هات لنا طوب يا مايكل"
o إن وأدتم حلم جيلنا فلتنتظر تلك البلد عقودا كثيرا حتى تُنجب الأمهات أمثالنا مرة أخرى
باسم زكريا السمرجي
24/11/2011
ربنا ينصر صاحب التوك توك - كلنا صاحب التوك توك هذا
ردحذف