إن ثورتنا ليست ثورة لحظية فُجائية وليست مجرد ثورة شباب وإنما هي ثورة نتجت عن تراكمات عديدة شارك في صنعها فئات مختلفة من المجتمع المصري، كان عامل الحسم فيها الملايين الذين خرجوا إلى الشوارع لأول مرة في الثمانية عشر يوما منذ يوم 25 يناير وحتى يوم 11 فبراير، وهؤلاء الملايين هم غير محسوبين على تيار سياسي بعينه ولا أفكار أيدولوجية دون غيرها، بل هم بالأساس من أبناء الشعب المصري الغير مُسيّس الذي خرج مطالبا بحقوقه الإنسانية الأساسية (عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية )، ولأن ثورتنا كانت ثورة شعبية إنسانية بالأساس، ليست ثورة أيدولوجية سياسية فإن البناء البديل لابد أن يأخذ نفس الطابع الشعبي من أسفل لأعلى، يتم فيه إدماج "الشعب المصري" في عملية بناء قاعدة صنع القرار ورسم خارطة طريق الوطن حتى نضمن لذلك البناء صفة الديمومة التي لن تتحقق إلا بأن يكون هذا البناء بناء مصريا خالصا يمتلكه كل منا ويدافع عنه بكل ما يملك.
إن النظريات والهياكل السياسية تُصنع على الأرض، يفرضها الواقع ولا تفرض هي الواقع، فالدستور والبرلمان وشكل الدولة ونظام الحكم وشخص الرئيس وكل تلك الأشكال هي مجرد "هياكل" لن تكتسب حقيقتها إلا إذا تم إنباتها من تربة المجتمع وتم ريّها بمائه فتتحقق لها صفة الديمومة والثبات.
الأزمة أن جند الثورة – أو الذين يُفترض بهم أن يكونوا كذلك – انسحبوا من معركة "الحقيقة" وصاروا ينفقون جهدهم في معركة "الهياكل" وسفسطة الدستور أولا خير مثال على ذلك. وليس اعتراضي على طرح "الدستور أولا" منبعه أن ذلك انقلاب على رأي الأغلبية وعدم ثقة في أغلبية شعب قرر مايريد، إنما اعتراضي أن النخب السياسية للأسف تساوي بين السياسة كعلم إنساني يصنع فرضياته على الأرض بين الناس من جهة، وبين العلوم المادية كالفيزياء التي تصنع فرضياتها في المعامل بين المعادلات الرياضية من جهة أخرى. قد أتفق نظريا – وفي قاعات البحث والدرس – مع الذين يطالبون بوضع الدستور قبل الانتخابات وقد أتفق معهم على بعض الافتراضات النظرية التي تؤيد الذهاب إلى وضع الدستور أولا لكن تلك الافتراضات النظرية تظل لا علاقة لها بالواقع المجتمعي المصري ويظل الحديث حولها مضيعة للوقت والطاقة، والذين يتصوّرون أن الدستور أولا سيحميهم من الإسلاميين كالذين يتصورون أن مصر بدون المادة الثانية ستفقد هويتها الإسلامية فالحماية الحقيقية تكون بالالتحام بالمجتمع ومحاولة استكشافه وإدماجه في عملية البناء السياسي عن طريق خلق توافق مجتمعي يجتمع على دستور القلوب والضمائر – كما أسماه د. عزمي بشارة – ذلك الدستور الذي سيحدد فرضياته الشعب المصري بعمومه ولا يتعدى دور النخبة فيه مجرد الصياغة واختبار جدوى فرضياتهم النظرية في أرض الواقع وتعديلها بما يتفق وطبيعة الواقع المجتمعي.
* العنوان مستوحى من كتاب أ. فهمي هويدي عن طالبان بعنوان "جند الله في المعركة الغلط"
باسم زكريا السمرجي
باحث بمركز المربع للدراسات الإنسانية والاستراتيجية
12/6/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق