إذا وضعنا ثورة الخامس والعشرين من يناير في سياقها التاريخي إلى جوار الثورات المصرية السابقة لها – والتي تحولت جميعها إلى أنصاف ثورات لأسباب عدة لا مجال للتفصيل فيها – نجد أن ثورة الخامس والعشرين من يناير هي الثورة الوحيدة التي يمكن أن تكون ثورة كاملة، وهي في طريقها إلى ذلك فعلا، فلقد توافر فيها شرطان لم يتوافرا مجتمعين في ما سبقها من ثورات، وهذان الشرطان هما .. أولا: الشرعية الشعبية. وثانيا: راديكالية المطالب. فثورة الخامس والعشرين من يناير تفردت بأنها ثورة شعبية خالصة ، فلا مرشد فكري لها ولا قائد حركي، بل كانت القيادة الحركية للشعب، والقيادة الفكرية للعقلية الجمعية للشعب المصري لا لفكرة أيدولوجية ما تقودها طليعة ثورية أو سياسية محددة. ولأن "الشعب" هو من أخذ الخطوة الأولى للشارع في الثورة وهو الذي دفع الدم ثمنا لها، فالشعب هو الذي أخذ بزمام الشرعية الثورية وأدركت العقلية الجمعية ذلك تماما حتى وإن غاب ذلك الإدراك عن بعض الأفراد. والشرط الثاني الذي توافر في ثورة الخامس والعشرين من يناير – والذي كان في اجتماعه مع الشرط الأول مصدر تفرّد تلك الثورة – وهو راديكالية المطالب فمطالب الثورة كانت (عيش – حرية – عدالة اجتماعية – كرامة إنسانية) وهي على بساطتها وبديهيتها كانت مطالب راديكالية بالنسبة لوضع المجتمع المصري الذي غابت عنه تماما هذه المعاني بسبب طول مدة التي عاش فيها المصريون في الاستبداد، ذلك الاستبداد الذي ضاعف من أثره غياب المشروع الوطني الجامع بعد حرب أكتوبر 1973 والذي أدى إلى أن تكون صورة مصر حتى يوم الرابع والعشرين من يناير 2011 صورة أشبه بدولة المماليك فالمملوك الأكبر يتصور أنه يمتلك البلاد وما عليها ويقتطع منها ما يوزعه على أصحاب الحظوة، ودولة المماليك تلك أسوأ من المملكة حيث أن ذلك المملوك الأكبر يختلف عن الملك في انتمائه لأن الملك في الغالب يكون من أهل البلد ويعمل على بناء مجد لبلده ويعتبر ذلك جزءا من بناء مجده الشخصي أما المملوك فهو لا ينتمي إلا لكيس نقوده. وفي مثل هذا الظرف التاريخي الذي عاشت فيه مصر لمدة ثلاثين عاما كان لابد أن تغيب تماما عن المجتمع المصري قيم إنسانية كالعدل والحرية والكرامة وتحل محلها قيم الظلم والقهر والذل.
ولما نهض المصريون ليستعيدوا إنسانيتهم أدركوا أن ما يقف بينهم وبين تلك المطالب هو ذلك النظام المملوكي فتبلورت الإرادة الشعبية في تلك الجملة العبقرية "الشعب يريد إسقاط النظام" والتي حققها الشعب المصري بصبره ومثابرته وعبقريته في التفاعل مع كل محاولات الالتفاف التي كان يقوم بها النظام. تلك العبقرية التي تجلت أكثر ما تجلت في إسقاط الرموز والنخب الذين تفاوضوا مع نظام سقطت شرعيته حين أراد الشعب إسقاطه. أما وقد تحقق لنا ذلك المطلب المبدئي وسقط النظام أصبح لزاما علينا أن ندرك حقيقة أننا انتقلنا إلى مرحلة جديدة على طريق الثورة المصرية لابد لنا أن ندرك حقيقتها هذا الفصل واستحقاقاتها.
وحقيقة المرحلة التي نحياها الآن شديدة الشبه بمرحلة وثيقة إعلان الاستقلال الأمريكية، فنحن الآن نعيش مرحلة ما قبل المجتمع. وما أقصده ليس غياب هياكل أو أشكال تنظيمية لتمثيل المجتمع أو التعبير عنه بل ما أقصده هو غياب "فكرة" المجتمع نفسها. تلك الفكرة التي كان غيابها نتيجة طبيعية للسياق المملوكي الذي كان يتغذي على تفكيك المجتمع وتذريره بل وهدمه وضربه ببعضه البعض ورده إلى أصوله الأولية حتى ضاعت الهوية الجامعة وصار الملاذ لكثير من المصريين هو التمترس خلف هويات زائفة فمتمرسون خلف الهلال, ومتمترسون خلف الصليب, ومتمترسون خلف مجتمعات الجولف المنعزلة...إلخ. وإن استطاع المصريون تخطي ذلك التفكيك في لحظة تاريخية ما وهي لحظة "ميدان التحرير" فلضمان استدامة هذه اللحظة لابد من مأسستها وهذا ما ينقلنا إلى استحقاقات المرحلة.
وللحديث عن استحقاقات المرحلة، وحتى لا يكون حديثا في الفراغ سأنطلق مما هو مطروح على الساحة من النخبة من محاولات لإنشاء أحزاب وائتلافات وحملات انتخابات وما إلى ذلك من أطروحات نخبوية أثبتت فشلها في كل اختبار تعرضت له منذ اليوم الأول بعد التنحي. وكان أهم اختبار هو الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي أتت نتيجته مغايرة لما روّج له كل المرشحين الرئاسيين والنخب والأحزاب السياسية. وكنت أظن أن هذه النتيجة كفيلة بأن تدفع النخب لإعادة التفكير والسعي للتغيير من استراتيجيات العمل غير أنهم بدلا من أن يقروا بخطئهم ويتعلموا منه أنكروا مسؤوليتهم ولعبوا دور الضحية ببراعة حين تذرعوا بمن أساء استغلال الدين في السياسة. وما أراه هو أن تفرّد اللحظة تفرض على من يريد أن يجاريها أن يفكر خارج الإطار الذي اعتاده وهذا ما ظهر أن النخبة المصرية لا تحسنه. فالحديث الآن يدور في أوساط النخب عن الأحزاب والائتلافات ولجان للحوار الوطني "النخبوي" وما إلى ذلك يدور في فلك بناء الدولة. ووظيفة الدولة البديهية هي إدارة المجتمع. ومع التسليم بغياب المجتمع فلا معنى لبناء الدولة قبل بناء المجتمع وإلا فنحن نعيد إنتاج الاستبداد مرة أخرى بخلق شرعية فوقية تفرض نفسها على المجتمع وهذا ما ثار عليه المصريون ولن يقبلوا به مرة أخرى.
إن المجتمع الذي ثار على الشرعية الفوقية وانتزع الشرعية لنفسه لن يقبل بشرعية فوقية مرة أخرى حتى وإن تحوّرت لتصير أكثر أناقة. وحتى يعبر المجتمع عن نفسه بشكل سليم لابد من إيجاد تيارٌ مجتمعي رئيسي يعبر عن إرادة هذا المجتمع. وهذا التيار هو الذي يؤسَس عليه البناء السياسي كله بأحزابه وائتلافاته وجماعاته، فالإرادة السياسية هي تجل للإرادة المجتمعية تنطلق منها لتحميها وتعبر عن تلك الإرادة السياسية مجموعة من النخب لا يفرضون شرعية على المجتمع بل يستمدون شرعيتهم منه.
إن ما نحتاجه الآن حقا هو أن نضع أسس بناء هذا التيار الرئيسي الذي لابد له – حتى يعبر عن إرادة المجتمع الحقيقية – أن ينطلق من الإيمان بهويته وإنسانيته فأهلية من أراد الانتظام في هذا التيار كما عبر عنها د. المصطفى حجازي هي في أن يؤمن كل من ينتظم في هذا التيار بأنه إنسانٌ حرٌ مصريٌ يستطيع تجاوز انتمائه الأيدولوجي أو الديني أو الطبقي والعمل تحت راية وطنية واحدة متعددة الألوان
باسم زكريا السمرجي
باحث بمركز المربع للفكر الاستراتيجي
2/4/2011
مقالك رائع ومتميز وتحليل سريع للاحداث
ردحذفاتفق معك تماما فى فشل النخبة السياسية التعامل مع المجتمع(1)
هل غابت فكرة المجتمع بسقوط النظام وهل النظام المسئول عن تفكيك المجتمع؟وهل تعتقد ان لحظة ميدان التحرير اعادة الثقة وبناء نظام؟(2)
حتى الان انا غير مقتنع انها ثورة نابعة من الشعب او ما يسمى السواد الاعظم الشعب الذى يحتاج الى ثورة فعلا بل هى افكار النخبة السياسية التى استمدت قوتها من الشعب وانا من وجهة نظرى ارى الان ما يحدث من الزامية تنفيذ قرار لانه فقط من مطالب الثوار(3)
تحدثت عن اعادة بناء اجتماعى يستمد منه نظام سياسى وهذا مستحيل هذا يعتبر نظريا جائز واقعيا مستحيل لانه ليس فقط يحتاج الى وقت ولكن لابد من توضيح النسق الدينى وتعريفه عند الشعب وعند النخبه ومن سيحكم من.