حقيقة الأمر أنني لم أكن أنتوي الكتابة تحت هذا العنوان بل على العكس كنت على وشك كتابة ما هو عنوانه"يا ما كان في نفسي ... على هامش ثورة سبقت صانعيها" وكنت أنوي أن تكون مجرد تنهيدة أسى من تلك التي يطلقها "اللي حب ولا طالشي" لولا الأصدقاء عبد الرحمن أبو ذكري، باسم فتحي، أحمد بدوي، إسماعيل الاسكندراني، نهى خالد، كريم سرحان فلهم الفضل في بث الأمل في نفسي مرة أخرى فلقد كنت أفتقد من أرى أنه يقدم تصورا صحيحا عن الثورة المصرية ومعيار الصحة هنا هو القدرة التفسيرية للطرح كما علمنا د. عبد الوهاب المسيري رحمه الله.
أما عن الطرح الذي أراه ذا قدرة تفسيرية أعلى من غيره للثورة المصرية فهي أن الثورة المصرية كمثل الثورات الكبيرة في تاريخ البشرية التي أسست لنقط تحول في تاريخ البشرية كمثل الثورة الفرنسية والثورة البلشفية والثورة الإيرانية. وهذا النموذج الذي تطرحه الثورة المصرية لم يتبلور بعد ولكن نستطيع أن نستبين على الأقل ملامح مدخله الذي هو مكمن التفرد في النموذج. ومدخل هذ النموذج هو في تجاوز فكرة السلطة الفوقية برُمتها وبرِمتها سواء كانت هذه السلطة رسمية تدعي امتلاك "شرعية" الفعل أو سلطة فكرية تدعي امتلاك "شرعية" الفكر. هذا النموذج الذي لا أراه يتجاوز الأيدولوجيات فقط وإنما هو يتجاوز وهم الانصياع الواجب لأشكال المؤسسات الحداثية اللاإنسانية ويبحث عن بديل إنساني يحقق فيه الإنسان فردانيته في إطار مجتمع إنساني لا مجتمع صناعي.
نستطيع من هذا المدخل أن نفسّر ما حدث في الثورة وما بعدها من تجاوز لوهم "شرعية" الدولة الرسمية ومظاهر ذلك التجاوز لم تكن في ميدان التحرير فقط حيث قامت دولة موازية تقوم بكل وظائف الدولة بدون (ختم النسر). وإنما مظاهر ذلك التجاوز - الذي كان تجاوزا نفسيا بالأساس - تتجلى في اللجان الشعبية التي قامت في طول البلاد وعرضها وقامت مقام أجهزة الدولة الخدمية. وحين أقول اللجان الشعبية فأنا أقصد اللجان الشعبية الشعبية التي أقامها أهالي الأحياء ذاتيا ولا أقصد اللجان الشعبية "الرسمية" التي أقامتها الأحزاب أو المؤسسات. يتجلى تجاوز نموذج الدولة أيضا في الإضرابات الفئوية والاعتصامات والمظاهرات التي غمرت البلاد وآخرها اعتصامات قنا ورفضهم للمحافظ الذي أظن أن أساسها كان رفضا من أهلنا في الصعيد لمركزية العاصمة.
ما كان (يحز في نفسي) حقا هو أن النخب السياسية تحاول استيعاب الثورة في الكيانات التقليدية كالأحزاب والجماعات والجمعيات وكان بعض من أساتذة العلوم السياسية يتباكون ضياع الدولة ويتنادون فيما بين سطورهم بوجوب عودة "الخوف" للمواطنين من السلطة. ذلك الخوف الذي يُسمّونه "هيبة الدولة" حتى يخيل إلينا من سحر المصطلح "العلمي" أنه يسعى ويتناسون أن العقلية الجمعية للشعب المصري صارت تلقف ما يأفكون حين تجاوز الوعي الشعبي العام فكرة الدولة كلها وفرض على الجميع مدخلا جديدا للتعاطي مع الثورة المصرية.
وبعد أن كدت أفقد الأمل أتى الأصدقاء السالف ذكرهم على غير موعد وعلى غير علم بم كان يؤرقني ليعلنوا بأشكال مختلفة أنهم وبطرق مختلفة يشاركونني وأشاركهم الاعتقاد بوجوب البحث عن مدخل جديد للتعاطي مع الثورة المصرية فلهم الشكر وما أستطيع أن أقوله أنه دقت ساعة العمل ولا رجوع لا رجوع
وفي النهاية أدعو كل من يشاركني هذا الطرح وهذا الفهم أن يعلن ذلك وأن ننضم لبعضنا البعض ونعمل معا فالثورة المصرية إما أن تكون انتفاضة شعبية أطاحت رئيسا وأتت بغيره وإما أن تكون بداية لتاريخ جديد
باسم زكريا السمرجي
باحث في مركز المربع للدراسات الإنسانية والاستراتيجية
29/4/2011