الاثنين، ٢ يوليو ٢٠١٢

أسئلة وجودية عن أزمة الهوية

تلك التدوينة هي بالأساس أسئلة – كانت ولازالت تؤرقني منذ مدة – تحاورت فيها مع أخي وصديقي أحمد جمال سعد الدين (ملحوظة لصديقي أحمد جمال سعد الدين: اسمك الثلاثي طلع طويل فعلا ولازم تشوف له حل) فلم يزدني إلا حيرة. وهنا ربما يصير من المهم أن نطرح سؤالا عن وظيفة الفلسفة أو فلنقل بشكل أكثر مباشرة، وظيفة العقل. هل هي طرح الأسئلة وترقب إجاباتها من العالم الخارجي؟ بمعنى توجيه العقل لكي يرى العالم الخارجي من منظار أسئلة بعينها فيتلقى الإجابات عليها بشكل تلقائي. أم أن وظيفة العقل هي البحث عن الإجابات في الداخل للأسئلة التي تأتينا من الخارج؟ قد لا أميل لأي من الإجابتين بشكل قاطع فربما تكون وظيفة العقل هي الجمع بين طرح الأسئلة والبحث عن إجابات عليها في ذات الوقت. فحينما يتخذ المرء قرارا بأن يكون عقله هو مصدر الأسئلة الوحيد يكون قد حكم على مصيره بالتقيّد بماضيه، فالأسئلة التي سيطرحها العقل في تلك الحال لن يكون مصدرها سوى تجارب الماضي، وحينما يتخذ المرء قرارا بأن يعمل عقله متلقيا للأسئلة من الخارج يكون قد تخلى عن قدر كبير من قدرته على الاختيار وسلّم نفسه للعالم الخارجي الذي سرعان ما سيحتل إدراكه بهيمنة ما. لذلك، قد يكون الصحيح هو أن يطرح العقل السؤال على العالم مع الأخذ في الاعتبار احتمالية تغيير السؤال طبقا لمقتضيات الواقع فلا يتحول ذلك السؤال لدوجما تفسّر العالم ولا يوجد ما يفسّرها ولا تقدر أن تفسّر نفسها.

كان السؤال المركزي في حواري مع صديقي أحمد جمال سعد الدين (آخر مرة أقول اسمك على فكرة، ولو اضطريت هاقول "جيمي" وخلاص، علشان تبقى فاهم !!) هو، هل أزمتنا أزمة وجودية أم هي أزمة مؤقتة ربما بزمان أو بمكان ما؟ وبالطبع نحن هنا بحاجة لتعريف من نحن وما هي أزمتنا. مبدئيا نحن وأزمتنا ليسا مفهومين منفصلين، بل متصلان تمام الاتصال. فأزمتنا هي مكون رئيسي في تكوين النحن وبالتالي لن تستطيع النظر إلى أحد المفهومين بمعزل عن الآخر. فنحن الذين ولدنا لآباء من الشرائح المتوسطة من الطبقة المتوسطة، الذين لم يكونوا من عائلات أرستقراطية ولم يستطيعوا اللحاق بركب الانفتاح وليسوا أيضا من الفقراء المعدمين. دفعتهم قدرتهم الاقتصادية إلى سكنى الأحياء الشعبية ودفعهم مستواهم التعليمي والوظيفي إلى السعي للحفاظ على مظهر ما، فانتهى بهم الحال لأن يكونوا غير منتمين إدراكيا لهيمنة طبقية بعينها. وكنت أظن أن ذلك التموضع بين الهيمنتين هو التموضع المثالي الذي يقي من السقوط في أسر هيمنة ما، غير أن ما تكشّف لي أنه لا توجد مساحة فاصلة بين الهيمنتين، فالصراع الطبقي يجعل تلك المساحة ليست فاصلة، وإنما مساحة التحام وتقاطع فيصير أبناء تلك الطبقة المتوسطة أسرى الهيمنتين.

هل إذن أزمة الهوية التي نعانيها أزمة وجودية، مرتبطة باستحالة التسليم لهيمنة ما بعد أن كُشف لنا الوجه الآخر من الحقيقة، ومرتبطة أيضا بفقدان إرادة مواصلة المسير للمجهول الذي كُشف لنا منه ما يفقده القدرة على إدهاشنا؟

قادنا ذلك السؤال إلى سؤال آخر عن الخلق. إن افترضنا أن الله خلقنا من العدم. وأن أساس الخلق الروح، فإن إدراك تلك الروح متجاوز للزمان والمكان، فمتى انتهى ذلك الإدراك المطلق المتجاوز للواقع للروح ليبدأ الإدراك في التشكل بحسب ما يمليه عليه الواقع؟ أم أن الروح لا إدراك لها أصلا وأن الإدراك بدأ منذ اللحظة الأولى في سياق الواقع المجتمعي؟ وهل ذلك الإدراك الروحاني واحد في البشر جميعا، وأن كلا منا يصعد سلم التحقق الإنساني و النضج الإدراكي حتى إن وصل في النهاية لآخر درجاته وجد ما يتلوها هو العدم/الوجود حيث كل شيء لا شيئ وأي شيء كل شيء، فلا يهم حينها أي سلم صعدت فالنتيجة واحدة؟ أم أن تلك الروح التي هي أساس الخلق تختلف من واحد لآخر وأن لكل منا سلما يؤدي إلى نهاية ليست بالضرورة هي النهاية التي يؤدي إليها سلم الآخر؟

إذن لابد من صعود ذلك السلم، ولكن كيف؟ بالتأكيد يكون بعدم الرضوخ لهيمنة ما، وتحدي المألوف و"المفروض" باستمرار. وهنا تأتي مرة أخرى أزمة تموضع الطبقة المتوسطة التي تجعل طريق الهروب من الهيمنة غير واضح ويجعل طريق تحدّي المألوف غير واضح أيضا، وبينما يحاول المرء القيام بذلك يقوم بعمل بعض الأمور التي يشعر فيما بعد أنها لا تشبهه، ولكن إن كان قام بعمل تلك الأمور بالفعل فكيف إذن يدّعي أنها لا تشبهه؟! إن تلك المعضلة تؤكد على احتواء المرء على الشيء ونقيضه في ذات الوقت، وبالتأكيد وجود الشيء ونقيضه في ذات الوقت أمر غير منطقي، وهنا يحل هيجل تلك الأزمة بأن يقول أن الضرورة المنطقية تفترض أن يتفاعل الشيء Thesis ونقيضه Antithesis ليشكّلا مركب جديد Synthesis. ولكن هيجل كان يتحدث في إطار موضوعي غير ذاتي تحدث فيه تلك العملية بشكل لا إرادي Objective فما يحكمها هي الضرورة المنطقية فقط، لكننا نتحدث في إطار ذاتي Subjective تكون فيه نتيجة التفاعل بين تلك المتناقضات أمر محدد بالإرادة البشرية، فإما ألا يرى المرء تلك المتناقضات – وهو أمر مستحيل بالنسبة لمن تموضعه كما أسلفت – أو أن يرى تلك المتناقضات ويقرها مع إقرار بإن أحد جوانب تلك المتناقضات هو الخير المطلق والجانب الآخر هو الشر المطلق فيصل لقدر معيّن من التصالح وهو في حقيقة الأمر شكل من أشكال الرضوخ للهيمنة – وهو أمر مستحيل بالنسبة لمن له روح مغامرة لا يسيطر عليها الفزع من الجديد – وهنا يبقى لي ولصديقي "جيمي" احتمالان، الأول أن نسلم أنفسنا لمستشفى الأمراض العصبية والثاني أن نتصالح مع تلك المتناقضات، فيحل التصالح مع المتناقضات هنا محل الضرورة المنطقية عند هيجل .. ولكن كيف؟ هنا مربط الفرس!



باسم زكريا السمرجي
2/7/2012

هناك تعليق واحد:

  1. كنت أتمنى ان أكون معك انت و صديقك أحمد جمال سعد الدين لأشعر بعقلي يستفيق و ينفض عنه غبار الاستغراق في تفاصيل الحياة اليومية . عندما قرات مقالك تذكرت الانسان الذي كنته قبل ان افقد إنسانيتي في عملية استسلام و رضوخ طويلة. ربما كان اللأمر لا يعنيك في شيء و لكنني شعرت بالسعادة لمجرد اني فهمت ما كنت ترمي إليه ونسيت للحظات كل ما يجري في حياتي, و لهذا الأمر بالذات أقول : شكراً

    ردحذف