السبت، ٢٢ يناير ٢٠١١

الحملات الهلالية ... بقلم د. المصطفى حجازي

من المعلوم من التاريخ باليقين أن من الدوافع الرئيسية- و إن لم يكن الدافع الأول للحملات الصليبية على بلاد المسلمين فى الشرق كانت الرغبة فى ترويض وعى الجماعات الأوروبية وتحويله عن واقع الانهيار الاقتصادى و الاجتماعى الأوروبى إبان عصور الظلام نحو حلم أرحب من الحياة الرغدة.


حضرنى هذا المعنى بل و ألحّ فى زيارة للأراضى الحجازية معتمرا فى شهر رمضان و كنت مستغربا حضور هذا لمعنى بهذا القدر من الإلحاح فى مكان و وقت يبدوان بعيدان عن هذا المشهد التاريخى من حياة أوروبا و ارتباطه بفترة انهيار انسانى لهذه الجماعة الإنسانية. و لكن بقراءة متأنيه لما كان يحدث حولى فى هذه الرحلة زالت عنى الدهشة بل و بات جليا أن هناك ثمة ارتباط وثيق بين ما يجرى حولى وبين الأسس الفكرية لهذه الحقبة من التاريخ الإنسانى....فكيف كان ذلك؟


كما أسلفت كنت ممن من الله عليهم بأن وفقت لزيارة بيته معتمرا فى رمضان من العام المنصرم. كل ما حولى بدا رتيبا متكررا منتطما شأنه شأن أعوام مضت. ومضات من ابتغاء النقاء و سمو الروح و ملامح خافتة من اقتفاء حسن الخلق تغشى آمّين الحرمين، لكنها سرعان ما تنسحق تلك الومضات فى خضم عارم من الغوغائية و البداوة و فقر النفوس. نفس الزحام و التزاحم و قلة التراحم. ذات الدأب على أداء النسك و الانتظام فى الشعائر مع تغييب تام عن مقاصدها، حالة الفصام ذاتها بين الإقبال البدنى على العبادة و الإدبار الروحى و الذهنى عن تحقيق أثرها فى السلوك.

الصورة الجامعة تتجلى لشعوب المسلمين عربهم و عجمهم فى حالة توحد مع رغبة الخلاص الفردى- و الذى يعدو لاريب إحدى المقومات الروحية للفطرة الانسانية لها قيمتها و مكانتها. و مما لا شك فيه أن فكرة الخلاص الفردى هى مبعث للتطهر و النورانية فى حياة البشر طالما اتسقت فى سياق المقومات الأخرى لتلك الفطرة و الا انقلبت إلى منشأ تغييب و مبعث انهيار و انحطاط للمجتمعات وذلك حين تستأثر تلك الفكرة (الخلاص الفردى) بالوعى وتختزله إلى أبعاد ضيقة من الأثرة و السجن داخل الذات و صارت نسق حياة مرسخا لما يجوز تسميته عقلية الطوفان (أنا و بعدى الطوفان).


إن المراقب لأحوال ناسكى الحرمين منتظما كحالتى- سيرى أنهم اختيارا أو انقيادا ، بقصور رؤيتهم و ضعف عزائمهم أو بتوجيه أولياء أمورهم و مقيمى شعائرهم قد مسخوا العبادة وغربوها عن مقاصدها. يجد المراقب كيف أضحت سنن الشعائر - بدقة التناول التى لا تخلو من بدعة - سلاح ماض يروض الوعى و يمحور العقل المسلم حول تجارة جديدة للمغفرة ما أشبهها بصكوك غفران أوروبا المظلمة بدلا فى شحذ الهمة و صقل إدراك من يأتونها. فالدعاء فى صلاة الليل اليومية و الذى يلزم أن يتصدى له من الائمة من يملك الأداء المسرحى استدرارا لأكبر قدر من التفاعل من آمى المسجد الحرام!! و النحيب فى التهجد يلزما أن يشكوا هوان أمر المسلمين على الناس فى مقاطع منتظمة!! و هو ما يرسخ لديهم مشاعر الهزيمة و عدم القدرة على الفعل) و يلزم أن يدعو بالنصرة لشعوب مسلمة قـُهرت مع الأداء المختنق بالعَبَرات عند جمل بذاتها و الانكسار عند أخرى ثم علو النبرة و استحضار إحساس المنتصر فى آخره. نفس الأداء المسرحى المتمكن بنفس الرتابة فى كل عام من أعوام خلت، لا يتغير فيها إلا زيادة عدد الأقطار المسلمة المبتلاه بالهوان و الانسحاق و الاحتلال.


الخطب الاسبوعية تلح على أن بيت الداء فى حال المسلمين هو عدم انتظام عبادة الشخص الفردية أى عدم اكتمال مسوغات خلاصه الفردى مع تغييب متعمد -فى هذه الخطب- لدور وأثر المسئولية الاجتماعية و مقاصد الفعل الفردى على انتظام حركة المجتمع و فرص ازدهاره. و كأن مايلح عليه هو أن صكوك غفرانك فى تمحورك حول ذاتك و اتصالك بالمجتمع فقط من موقع آحاد القطيع. الإلحاح دائما على ذكر البعد المجتمعى فى سياق أحاديث الجماعة و عدم الخروج عليها للإيحاء دائما بمعنى القطيع و ثقافة القطيع المغيب عقلا.


و كما أنه يقال و بحق بأن التاريخ لايعيد نفسه و لكن يُـقفى، فلم أرى قافية تاريخية تفرض نفسها على ما شهدته العام قدرما حضرتنى أوروبا المظلمة قبل نهضتها و دعاة الحملات الصليبية بين جموع مغيبى شعوبها. لم تكن من حالة حاضرة فى حياة أوروبا آنذاك و مؤهلة لها لكى تسير قطعانا تملأ الارض عدوانا و همجية و بربرية قدرما كانت مسوغات ابتغاء الخلاص الفردى المضمون ادعاءا بصكوك الغفران المفتراة على الله.


و من المعلوم من التاريخ باليقين -كما أسلفت - أن العنصر الاقتصادى كان فى خلفية تلك الحملات سعيا محموما وراء ثراء أكبر و إن كان من حظ نخب تلك الشعوب أكثر من عامتها. و للعجب حضر العنصر الاقتصادى ملحا فيما شاهدت فى حال المسلمين الحالى و فى سياق أسواق الغفران،حيث لزم التطاول المستفز فى البنيان و لم يغب السعى المحموم وراء ثراء أكثر حتى و أن انسحق من أجله جل العامة و قوض فى معرض تحقيقه أول المبادئ الانسانية التى تفرد الاسلام بالذود عنها و هو التساوى أمام الله و حق الكافة فى ارتياد الحرمين دونما عنت أو تفرقة. البنايات الشاهقة ذات النجوم الخمس أو الست كما تشاء حاصرت الحرمين مؤذنة بحالة من التطهير الطبقى فى سكنى الحرمين القريبة. فقد تم إقصاء بسطاء و فقراء بل و متوسطى الحال من المسلمين من دائرة السكنى القريبة من الحرم فى حالة عنصرية مقنعة دونما مواجهة أو إعلان.


و من المثير للشفقة عند عقد هذه المقارنة التاريخية أو استجلاء تلك القافية، أن حالات العدوان الاوروبى إبان الحملات الصليبية كانت عدوانا على شعوب أخرى بغية سلب مواردها - مع توهم القربى الى الله و ادعاء استرداد مقدسات سليبة. أما فى حال المسلمين اليوم فإن من المبكى حقا أن المحرك للخلاص الفردى الممسوخ لدى المسلمين إبان ما أسمه الحملات الهلالية الحالية للمسلمين على أسس وعيهم - لم تثمر إلا اعتداء على الوعى الاسلامى و لم تسلب إلا حق الشعوب الإسلامية فى أن تحيا حياة متزنة (تامة الإنسانية) أراد الله لها أن تأخذ بيد البشرية إليها فلا هى اضطلعت بمراد الله فيها و لا هى نعمت بحد أدنى من حياة كريمة، و لم يكن لها حظ من العدوان إلا على ذاتها و مستقبلها و فرص الحفاظ على كرامتها.




د. المصطفى حجازى

مفكر مصرى

القاهرة- أكتوبر 2007__

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق