السبت، ٨ يناير ٢٠١١

كن محترفا Be Professional

“Be Professional كن محترفا” كلمة تمر علينا جميعا الآن وهي كلمة بريئة المظهر جدا ولا يدري كثير من المتعاملين بها أنها كلمة غير مجردة من المفاهيم والمعاني وإنما هي إحدى تجليات نموذج حضاري ما. أحاول في هذا المقال أن أكشف قليلا عن بنيته.

الاحتراف أو الـ Professionalism كما أراه هو تجلٍ آخر من تجليات النموذج الحضاري الغربي المادي الذي ينكر الصلة بين الإنسان والخالق بل إن وجود الخالق المتجاوز أصلا غائب عن تلك الرؤية الغربية المادية . وتأسيسا على هذه الرؤية كان لا بد من العلمنة الشاملة للمجتمع وتفريغه من القيم ونزع القداسة عن الإنسان فيتم تحييده وتشييئه (أي تحويله إلى شئ) ومن ثم تسهل حوسلته (أي تحويله إلى وسيلة) واستيعابه في العالم المادي دون أي اعتبار لتجاوزه الأصيل لعالم المادة ذلك التجاوز الذي يستمده من اتصاله بالخالق المتجاوز للطبيعة والقيّم عليها، تلك الصلة التي تنكرها الرؤية الغربية أصلا كما أسلفت. وحينما فشلت محاولات نزع الجوهر الإنساني تماما وافتقد الناس المشاعر الإنسانية كان رد فعل النموذج الحضاري الغربي رد فعل سلبي أيضا حيث تم اللجوء إلى حوسلة تلك المشاعر أيضا واستعمالها كأزرار لتعظيم الكفاءة الإنتاجية ” لماكينة ” الإنسان وأعني هنا ظهور وانتشار ما يسمى “بالتنمية البشرية Human Development” و حقيقتها – في رأيي – أنها “التوظيفية البشرية Human Functionizing” التي تمنهج حوسلة المشاعر والتفاعلات الإنسانية بهدف تعظيم الإنتاج. ولنأخذ رسائل البريد الإلكتروني مثالا فهي لا بد أن تبدأ بـ “عزيزي فلان Dear …… ” وتنتهي بـ “مع تحياتي Best Regards”. والسؤال هنا كم منا يقصد “حقيقة ً” أن يخاطب المرسل إليه “بعزيزي” أو أن يرسل “تحياته” في آخر الرسالة؟؟!!

وإذا أردنا أن نتتبع هذه الظواهر من أولها سنجد أن ما أوصلنا إلى تلك الظواهر مجموعة من الحلقات يفضي بعضها إلى بعض. فالبداية هي النظرة المادية للإنسان والكون وغياب البعد الربّاني المركزي في تلك النظرة، ومع اختلاف محاولات البحث عن مركز بديل للكون فإن كلها أدت إلى نتيجة واحدة وهي حلول مركز الكون فيه غير منفصل عنه أو متجاوز له. اختلف الناس فقط في طبيعة هذا المركز بين روحانية صرفة في الشرق ومادية خالصة في الغرب. ولأن الغرب هو المنتصر الآن فإن النموذج المادي هو النموذج الحاكم الذي تمت “عولمته” وتم اشتقاق كل معايير القياس “العالمية” منه. وكما أسلفت فإن هذه النظرة أدت إلى استيعاب الإنسان التام داخل قوانين الطبيعة الذي مرّ بحلقات أساسية سأتناول – في ما يلي – بعضها من وجهة نظري:

التحييد:

الطبيعة ليس لها إرادة حرّة والإرادة الحرة هنا أعَرّفها بالمساحة بين الفعل ورد الفعل. تلك المساحة التي هي “الأمانة” التي قـَبـِل أن يحملها الإنسان وسيحاسبه الله عليها تلك المساحة الغائبة في الطبيعة والعلاقات بين مكوناتها فالعلاقات داخل منظومة الطبيعة علاقات سببية مباشرة جامدة فكل سبب ما يؤدي إلى نتيجة “حتمية” ما. فمثلا نبات الأرز تتم زراعته بطريقة معينة يموت إن لم يتبعّها الزرّاع ولا يُـتصوَّر أن يقاوم النبات العطش بطريقة “تدهش” الزرّاع وتفاجئهم ، ومثال آخر أنك إن أسقطت تمثالا من الزجاج على أرض صلبة سيتكسّر ولا يُـتصوَّر أن ذلك التمثال سيحرك يديه في الهواء بحثا عن أي شيء يحاول التشبث به في طريقه إلى أسفل.

وكل تلك العلاقات والقوانين المباشرة الطبيعية المختزلة في علاقات السبب بالنتيجة موجودة في الإنسان أيضا ولكن بشكل جزئي ولا يصح أن تكون هي العلاقات الحاكمة للتفاعلات الإنسانية أو أن نخرجها من حيزها الطبيعي البيولوجي لتحكم على الجوهر الإنساني.

التنميط:

بعد أن نستبطن تلك الرؤية المادية ونبدأ في رؤية الإنسان “ككائن حي” مسلوب الإرادة يخضع تمام الخضوع لقوانين الطبيعة لابد لنا “كنتيجية حتمية طبيعية” أن ننتقل إلى مرحلة التنميط فكما أن الظروف والقوانين اللازمة لزراعة الأرز لا يُـتصوَّر أن تختلف باختلاف “ثقافة” الأرز المصري عن الأرز الصيني أو اليوناني مثلا، فكذلك الظروف والقوانين اللازمة لحياة الإنسان واحدة في كل زمان ومكان ويتجلى ذلك المفهوم بشكل شديد الوضوح في مفهوم “الإنسان الخاتم” الذي ظهر بسفور في كتاب فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ والإنسان الخاتم The End of History and the Last Man” ولسنا بحاجة لأن نؤكد أن نموذج ذلك الإنسان المثالي هو النموذج الأمريكي الذي يمتلك كل عوامل القوة المادية والتسويقية والذي استطاع أن يملأ بها العالم في غياب قوة مقاومة له. فيصبح الإنتاج المادي هو معيار التفاضل بين المجتمعات ومعيار قياس التقدم. ولتعظيم ذلك الإنتاج لابد من اللجوء إلى تنميط البشر حتى يكونوا مستهلكين مثاليين يمكن للمنتج أن “يستعملهم كأوعية لسلعه”. ليس هذا فحسب بل تصبح السعادة في الاستهلاك ويصبح مقياس النجاح هو مدى قدرة الفرد على الاستهلاك فيصبح الاستهلاك ليس عملا ممتعا فحسب بل عملا ضروريا وأخلاقيا أيضا. وهنا لابد أن أستطرد وأقول أن الحضارة الإسلامية التي أنتمي إليها شهدت كثيرا من التقدم المادي وكانت رائدة في ذلك ولكن لي سؤال هنا عن مدى ارتباط التقدم المادي بالتقدم القـِـيـَمي في المجتمع الإسلامي، ألم تكن مرحلة النبوة ومرحلة الخلافة الراشدة أقل المراحل في التقدم المادي وأعلاها في التقدم القيمي؟؟!!

الترشيد:

ومن التنميط إلى الترشيد، فانطلاقا من مركزية الإنتاج المادي كمصدر لمعايير القياس كان لابد لنا أن يظهر مفهوم الترشيد كطريقة مُثلى لزيادة وتعظيم الكفاءة الإنتاجية لدى البشر. ولابد حين نتحدث عن الترشيد أن نتحدث عن عالم الاجتماع الألماني “ماكس فيبر Max Weber” الذي وصف عملية الترشيد بأنها “نزع السحر عن العالم Disenchantment of the World” وهو التعبير الأدق عن النموذج الحضاري الغربي . فنحن عندما نرى العالم من منظار المادية لا بد أن يتحول كل شئ عندنا إلى “موضوع” مادي تسهل السيطرة عليه ومن ثم التحكم فيه فيزول عنه “الغموض” السحري وهذا هو المدخل لدخول المجتمع ككل إلى “القفص الحديدي”. والقفص الحديدي تعبير آخر استخدمه ماكس فيبر لوصف حالة الترشيد فنزع السحر عن العالم يقود إلى تفريغ المجتمع من معانيه الإنسانية فيتحوّل إلى مجموعة من الأفراد “الوظيفيين” – مفتقدي المعنى – يؤدي كل منهم وظيفته “بكفاءة” كأي آلة لا أكثر فيدخل العالم كله في مرحلة من “العبودية الاختيارية” حتى نصل إلى ما نعيشه الآن حيث دخل عموم البشر إلى مرحلة ما دون الإنسانية أو Sub humanity.


المجتمع التعاقدي في مقابل المجتمع التراحمي:

تحول الأفراد من “بشر” إلى “موظفين” كلٌ يؤدي وظيفته، فماذا بعد سوى أن تكون تلك الوظائف هي مناط العلاقات بين البشر ويصير النمط التعاقدي هو النمط الحاكم في العلاقات الإنسانية ؟ فتتحول”الوظيفة” التي يؤديها الإنسان هي مصدر قيمته ومعياريته. أليس هذا تأكيد على النزع الكامل للجوهر الإنساني عن الإنسان؟! تجدر الإشارة هنا إلى أنه في مقابل النمط التعاقدي كان النمط التراحمي هو النمط الحاكم في المجتمع القـَبَلي والذي لا أدّعي أننا يجب أن نستدعيه الآن فالمجتمع الآن أصبح أكثر تركيبية وتعقيدا من المجتمع القبلي ولابد من “بعض” الصياغات التعاقدية لتنظيم الحركة داخل المجتمع ولكني أرفض تماما أن تكون تلك العلاقات التعاقدية هي العلاقات الحاكمة

وفي النهاية أقول أن الاحتراف قد يؤدي بنا إلى تقدم مادي أو تقدم علمي كما هو الحال الآن ولكن التقدم العلمي وإن ساعدنا على إنجاز أهدافنا بكفاءة أكبر هل يساعدنا على اختيار تلك الأهداف من الأساس؟؟!

رحم الله الدكتور عبد الوهاب المسيري فما هذا المقال إلا جمعا لبعض آرائه رحمه الله




باسم زكريا السمرجي
21/12/2010


هناك تعليق واحد:

  1. اتقنت التحليل(او التلخيص)واثبت مرة اخرى انك بروفيشنال..تحياتي الخالصة يااستاذ باسم

    ردحذف