الأربعاء، ١٠ نوفمبر ٢٠١٠

تجربة البرادعي التي لابد أن تنتهي

هي محاولة مجتهد يعزيه في فوات الأجرين – إن أخطأ – تحصيل أجر المجتهد المخطئ، لا يدفعني إلى تلك المحاولة إلى حب تلك الأرض التي – ورغم كل شئ – عليها ما يستحق الحياة.

نصف قرن من الزمان – أي منذ قيام ثورة يوليو – غابت فيها الممارسة الديمقراطية عن الشعب المصري أو غاب الشعب المصري عنها، ولكن خفف من وطأة ذلك الغياب وأخفى بعضا من آثاره وجود مشروع القومي التحرري منذ قيام الثورة والذي فرض على الحكم بعض الممارسات الوطنية، وألهم أفراد الشعب التخلي قليلا عن ذواتهم و العمل من أجل قيمة الوطن. ولكن منذ بدابة خفوت صوت المشروع القومي – أي منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 – لم يبق للشعب المصري غير الاستبداد لا يردّه رادّ. وظلت أصوات الاستبداد تتعالى في مقابل خفوت الصوت القومي التحررى حتى تم اختصار إرادة مصر السياسية في حدودها الجغرافية وتحول المشروع القومي من السد العالي وبناء المصانع و تصنيع الأسلحة والمعدات الثقيلة على المستوى الداخلي، والدعوة إلى الوحدة العربية ومقاومة الصهاينة على المستوى الخارجي، تحول ذلك المشروع إلى مشروعات الطرق والكباري والصرف الصحي على المستوى الداخلي، وكيفيه مواجهة الخطر الشيعي و إرهاب حماس على المستوى الخارجي!!. وصاحب ذلك بالطبع عجز الدولة سياسيا مما استلزم تصاعد القوة الأمنية حتى صار الجهاز الأمني هو الجهاز المركزي المحرّك والمسيطر على جميع أجهزة الدولة.

كان المشهد السياسي في مصر يتكون من الحزب الوطني الحاكم، وأحزاب المعارضة التي إما كرتونية وإما نخبوية، بالإضافة إلى حزب الأغلبية الصامتة الذي لم يتوجه إليه أحد بالخطاب. لذلك كان لابد من صعود نجم حركة كفاية عام 2005 فلقد استنبتت نفسها من تربة الشارع المصري – التي لم يحوّلها تطاول الأمد عليها إلى أرض بور – وهي بذلك اكتسبت زخما كبيرا لم تكتسبه القوى المعارضة الأخرى التي لم تستطع أن تتوجه يوما إلى الشارع الذي هو ميدان العمل الحقيقي لكل السياسيين. غير أن حركة كفاية – كأي حركة رد فعل – غابت عنها الرؤية الجامعة التي تـُفضي إلى وضع خطط قصيرة وطويلة المدى يعمل الجميع وفقا لها حتى يصلوا إلى الهدف. أدي غياب تلك الرؤية أن يعمل الجميع وهم يحلمون بان النظام سيسقط غدا، ولمّا لم يحدث ذلك – وما كان ليحدث بالطبع – دخل الإحباط نفوس أفراد الحركة مما أدى إلى التخبط الذي أدى إلى انتحار التجربة. بقى أن نشهد لحركة كفاية بدورها البارز في تحريك المياه الراكدة ونشر ثقافة الاحتجاج في الشارع المصري بجوار إسهامها البارز في رفع سقف النقد حتى يصل إلى رئيس الجمهورية نفسه.

ثم بعد حركة كفاية انطلق في السماء نجم شباب 6 أبريل من الشارع أيضا ولكن هذه المرة من شارع الشباب وفضائه الإلكتروني لتنجح – بأساليبها المبدعة – أن تحشد شباب مصر عام 2008 بشكل غير مسبوق للمشاركة السياسية حتى وأن كانت تلك المشاركة بالتعاطف أو المتابعة. ثم لحق بشباب الحركة ما لحق بحركة كفاية ونضب معين الإبداع لديها وصارت تكرر نفسها مما أفقدها ميزتها النسبية – وهي الإبداع – وأدى بها إلى الفشل الذي أفضى إلى الإحباط ثم الدوران في نفس تلك الدائرة المفرغة التي دارت فيها كفاية من قبل.

هكذا كان الوضع قبيل ظهور الدكتور البرادعي
.

· جماهير أغلبها من الشباب بدأت في– على أقل تقدير- متابعة المشهد السياسي.

· نشطاء هدّهم الإحباط فتفرقوا إلى:

o فريق لجأ إلى طرق أبواب الغرب بحثا عن الحل الذي لن يأتي.

o وآخر أدمن الإحباط والألم – إما لمرض نفسي أو عيب عقلي – فاستمر في تكرار ممارساته التي أدت إلى الإحباط الأول بحثا عن إحباط جديد!!

o وهناك فريق استأنف العمل السياسي وهو فاقد للأمل، فصار يقوم بعمله كموظف الحكومة التقليدي يوقع في دفتر الحضور والانصراف، في المظاهرات أو سيارات الترحيلات.

· نشطاء ظلوا متمسكين بالحلم يسعون من أجله – على غير هدى – رغم الإحباطات متفائلين بغد أفضل.

· قبضة أمنية محكمة حلــّت تماما محل كل الحلول السياسية التي كان بإمكان النظام تقديمها لقوى الاحتجاج.

· الطرف الثالث وهم الأغلبية الصامتة التي تستميلها قوى المعارضة إلى المشاركة السياسية بخطابها، وتدفعها عن المشاركة السلطة الأمنية بقبضتها. وظلت حالة التعادل تلك بين خطاب قوى المعارضة وقوة القبضة الأمنية تفرض على ذلك الطرف الثالث أن يقف مشاهدا في انتظار الذي لن يأتي.



ثم بدأ الدكتور البرادعي في الظهور. بدأ على الساحة "الفيسبوكية" ثم أتى إعلانه عن نيته في الترشح لرئاسة الجمهورية لينقل ذلك الظهور على أرض الواقع، وتقبلت الجماعة الوطنية في مصر ذلك الظهور بترحاب شديد فالبرادعي 2010 مثل كفاية 2005 أتى ليكمل ما كان ناقصا في المشهد السياسي المصري وهو وجود البديل فلقد كادت أبواق الذين يدّعون ليل نهار أنه لا يوجد بديل عن الأب سوى الابن أو الاخوان أن تصمّ آذاننا، ولكن البرادعي أتى من حيث لم يحتسبوا ليطرح بقوة إمكانية وجود البديل من خارج ذلك المثلث (الأب – الابن – الإخوان ) بل من خارج المشهد السياسي تماما الذي تعمّد النظام تعقيمه منذ زمن طويل.

ظل ذلك الحشد في تزايد حتى وصل إلى ذروته يوم عودة الدكتور البرادعي إلى مصر يوم الجمعة 19/2/2010 وخروج المئات لاستقباله إن لم يكن الآلاف من مختلف طوائف الشعب المصري نخبته وعوامه، شيوخه وشبابه، نشطائه – الذين اعتادوا الخروج في مثل تلك التظاهرات – وشبابه العاديين – الذين كان ذلك الخروج الأول من نوعه لهم. خرجوا كلهم في مشهد مهيب كتب عنه الدكتور علاء الأسواني في مساحته الأسبوعية بجريدة الشروق يوم الثلاثاء 23/2/2010 مقالا بعنوان "مصر التي استيقظت". ومع الأمل الذي بثّته مهابة ذلك المشهد تم التجاوز عن مرور الدكتور البرادعي بسيارته مسرعا مخترقا ذلك الحشد دون أن يخرج ملوّحا لتلك المئات التي هتفت باسمه طوال النهار. فلقد كان الأمل كفيلا بغض النظر عن تلك الصغائر.

ثم بعد يوم المطار أتت حلقة العاشرة مساء يوم الأحد 21/2/2010 التي استضافت فيها منى الشاذلي الدكتور البرادعي في حلقة كانت خير دعاية لمشروع الدكتور البرادعي للتغيير، ولقد أتت ثمارها على أكمل وجه ويكفي أن نتابع معدل تزايد المنضمين لمجموعته على "الفيسبوك" بعد الحلقة، ذلك المعدل الذي بلغ 50 عضو في الثانية في بعض الأوقات. وبجوار معدل ازدياد أعضاء مجموعته على الفيسبوك ظل معدل شحن الأمل في ازدياد مضطرد حتى كتب عنه الدكتور محمد المخزنجي في جريدة الشروق يوم الخميس 11/3/2010 مقالا بعنوان "شجاعة الوداعة" يشبه فيها الدكتور البرادعي بغاندي.

ثم توجه رجال من خيرة النخبة الوطنية يوم الثلاثاء 23/2/2010 إلى منزل الدكتور البرادعي ليعلنوا من هناك تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير تحت رئاسته في تخلٍ أنيق عن الذات.

كل ذلك كان تمهيدا كفيلا بدفع مشروع الدكتور البرادعي إلى مقدمة المشهد وقد حدث ولكن لم يستثمره الدكتور البرادعي سياسيا بشكل سليم نظرا لتركيبته الشخصية كموظف مرموق لم يمارس السياسة بشكل مباشر بل ظل يعمل في أروقة الدبلوماسية الأنيقة طوال سنين عمره المديد، كما قال عنه أ. وائل قنديل في عموده بجريدة الشروق يوم الاثنين 8/11/2010

كانت كل تصرفات الرجل وتصريحاته تشي بتلك الطبيعة، غير أن سَكرة الأمل كانت دوما تُعمينا عن رؤية الحقيقة وتجعلنا نقرأ ما بين سطور الرجل ما كنا نتمنى أن يُصدِّر به سطوره نفسها. وآن الأوان الآن – بعد أن أعلن صراحة أنه لن يترشح لانتخابات الرئاسة وأن الرئيس القادم من الحزب الوطني – آن الأوان أن نعيد النظر في خسائر الدكتور البرادعي التي بدأت – في رأيي – بخسارة 6 أبريل. فشباب 6 أبريل المتـّـقد بالحماس وحب الوطن توقّع أن تكون مظاهرتهم السنوية ذلك العام مختلفة حتى وإن لم ينزل فيها الدكتور البرادعي – في قرار حكيم – فسوف يتلقون دعما معنويا منه وهو ما لم يحدث إلا على "تويتر" بجملته الشهيرة "إنه لأمر مشين" التي أصبحت مثارا للتندر والسخرية!! ليس ذلك فحسب بل إن منسق حملته الشعبية – الأستاذ الشاعر عبد الرحمن يوسف – أعانه في تحقيق تلك الخسارة الفادحة بأن كتب مقالا على الفيسبوك مهاجما لشباب 6 أبريل بعنف ونُشر المقال والشباب في الشارع يتلقون بشجاعة "مفرطة" هراوات الأمن المركزي. فكان طبيعيا أن ينفصل شباب 6 أبريل عن دعم الدكتور البرادعي وينسحبوا تماما من مشروعه مما أفقده قوى كبيرة كانت – إن تم توظيفها بشكل صحيح – ستكون رأس الحربة للتغيير في مصر.

خسارة أخرى خسرها الدكتور البرادعي بدون معونة من أحد وهي خسارة النخبة التي ارتضت أن تتخلى عن ذاتها و تعمل تحت رئاسته. واستبدل بهم الشباب. بالطبع التوجه للشباب والاتكاء عليهم محمود لكن الاستغناء بهم عن غيرهم – أمثال الدكتور حسن نافعة و الدكتور عبد الجليل مصطفى والأستاذ حمدي قنديل والدكتور علاء الأسواني والأستاذ جورج إسحق الذين ذبحوا ذواتهم على عتبات الدكتور البرادعي – مردود. وكذلك فقد الدكتور البرادعي كثيرا جدا من رصيده المعنوي الذي كان كفيلا بترسيخ مشروعه في قلوب الشعب المصري.

غير كل ذلك، فإن ما يحسب للدكتور البرادعي أنه أدخل إلى آتون المعترك السياسي فصيلا جديدا ونوعية جديدة من النشطاء وهم نشطاء الحملة الشعبية المستقلة لدعم البرادعي ومطاب التغيير الذين كان انضمام أغلبهم للحركة أول احتكاك مباشر لهم بالعمل السياسي. هؤلاء النشطاء "يتميزون" عن جميع النشطاء بنقص الخبرة السياسية، فأغلب الخبرة السياسية في بلدنا خبرة سوء قادت الكثير إلى الإحباط والتفتت، يتميز هؤلاء النشطاء الجدد أيضا بالتحقق الشخصي، فابتعادهم عن السياسة – مع قدراتهم الشخصية – أتاح لهم أن يرتقوا سلم النجاح الشخصي فنجد منهم المتفوقين أكاديميا وحاملي الماجستير والدكتوراة ونجد منهم أصحاب الأعمال والتجارات. وهذا التحقق الشخصي كان له دور كبير في أن يعملوا في السياسة باستقلالية تامة التي – مع مهاراتهم الشخصية وقدراتهم الإبداعية والإدارية – تمكنـّهم من إحداث التغيير.

إن الفرصة التاريخية التي أتيحت للدكتور البرادعي – وليس لمصر – أن يحتفظ التاريخ باسمه كنقطة تحول في تاريخ مصر بل وفي تاريخ الوطن العربي ككل ضيعها هو ولا يصح لنا أو لشباب الحملة أن يظلوا متعلقين بأذيال ثوبه فلقد ارتضى الرجل أن يكون "رقما" مضافا إلى المطالبين بالتغيير بمصر وفقط ، ولا يصح للمتحمسين للحملة أن يكونوا "رقما" مضافا إلى المحبطين في مصر، بل إن مسؤوليتهم تجاه أنفسهم وتجاه وطنهم تحتم عليهم أن يعدلوا المسار وينضموا للجماعة الوطنية بفكرهم الجديد – طبعا ليس كل فكر جديد متشابها – وإمكاناتهم اللا محدودة وتكون مجهوداتهم نحو جمع شتات القوى الوطنية خلف المطالب السبعة للتغيير ويكون دور الدكتور البرادعي معهم هو الدور الذي ارتضاه هو لنفسه – منظــِّـرا وداعيا للتغيير – لا ما تمنيناه له. فلقد اكتفى الدكتور البرادعي بدور "مولانا الوالي" في مسرحية "صح النوم" للسيدة فيروز، الذي كان ينام شهرا ثم يستيقظ ليُنفذ ثلاث معاملات لشعبه. ولا أود لشباب الحملة أن يكون دورهم هو دور "زيدون المستشار" – الذي لم ينفك يبرر ذلك النوم للشعب – وأرجو أن يكون دور شباب الحملة هو دور "قرنفل" التي سرقت الختم من الوالي وظلت هي تختم المعاملات وتنفذها في أثناء نوم الوالي ليصحو الوالي ويجد الساحة "اتغيرت واتعمرت"

عاشت مصر حرة للمصريين وبالمصريين




باسم زكريا السمرجي
10/11/2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق