"الألماني" هو اسم الفيلم، الذي ما أن انتهيت من مشاهدته والسؤال المركزي الذي يشغل عقلي، هل كان "شاهين الألماني" – الشخصية التي تدور حولها أحداث الفيلم – مجرما يهدد المجتمع وعلى المجتمع أن يتوجه له إما بالإصلاح أو البتر إن لم ينصلح؟ أم أن الألماني لم يفعل إلا ما يتوجب عليه فعله؟
بداية، لاحظت في الفترة الماضية كثرة تناول الأفلام والمسلسلات للطبقات المهمشة، وانتشار لغة تلك الطبقات وحتى إنتاجهم من غناء شعبي – بالذات ما يعرف بأغاني "المهرجان" – بين أبناء الطبقات الأعلى، الذين صاروا ينظرون لأبناء تلك الطبقات المهمشة على أنهم "القرد أبو صديري" المدهش الذي يمارس دوره في التسلية، أو على أفضل تقدير صار التعامل مع أبناء تلك الطبقات وكأنهم موضوع للدراسة ليسوا بشرا، والأسوأ أن سلوك تلك الطبقة يتم التعامل معه على أنه "ظاهرة" مستقلة – يجب علاجها – ليس على أنه إحدى تجليات النظام ككل.
نعود "للألماني"، لنجد أن أمه تلخص الحكاية في ردّها على هجوم مذيعة تليفزيونية عليها وعلى ابنها حيث قالت ما معناه: "إذن من أين يأكل؟ يعمل خادما لديكم أليس كذلك؟ أنتم تركبون السيارات وتعيشون وهو يخدمكم! ألم يسأل أحد فيكم لماذا صار "الألماني" على ما صار عليه؟! " تتجلى في تلك العبارة أزمة التهميش التي يعاني منها أبناء الطبقات الفقيرة، سكان العشوائيات. فالنظام المتحكم فيه الطبقات الأعلى والذي تفرض فيه – لأسباب يطول شرحها – الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة بالذات هيمنتها عن طريق تسييد معايير "أخلاقية" لما هو صحيح وما هو خطأ، نجد أن ذلك النظام لا يعترف بأهلية من لا تنبطق عليه تلك المعايير "الأخلاقية". ووصف تلك المعايير بالأخلاقية يفترض مسبقا حيادها عن المصالح وهذا أمر يسهل اكتشاف زيفه، حيث أن تناول تلك المعايير بالتحليل يكشف لنا أنها لم تأتِ إلا لشرعنة هيمنة طبقات ما على النظام، ويتجلى ذلك في وصف أبناء الطبقات المهمشة بأن شكلهم "غلط" بدلا من أن الاكتفاء بوصفهم بأن شكلهم "مختلف" فافتراض أن شكلا ما "غلط" يستوجب افتراض أن شكلا آخر "صح" يجب على الكل أن يسعى للتشبه به وإن لم يستطع فليعلم أن ذلك لدنو في نفسه وعليه أن يرضى إذن بمكانه الأدنى من هؤلاء الذين "شكلهم صح"
هكذا ينظر المجتمع "للألماني" وهكذا يعلمه أن ينظر لنفسه. ولكن بدلا من أن نخضع لهيمنة النموذج الأخلاقي السائد في المجتمع فلنحاول أن ننظر إلى العالم بعيني "الألماني"، الذي نشأ طفلا في طبقة يعاني أفرادها العوز والحاجة التي تضطرهم إلى أن "يأكل بعضهم بعضا" بحسب وصف أمه، فتشكّل في إدراك الألماني أن الناس إما ضحية وإما جانٍ، لا وسط بينهما فأنت إن لم تستطع أن تكون من الجناة لن يتركك الناس لحالك وستتحول إلى ضحية، وأن الضحايا هم هؤلاء الفشلة الأغبياء الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. فاختار الألماني – لعلو همّته – أن يتّبع معايير النجاح التي علّمه إياها مجتمعه، وهكذا تحول "الألماني" من صبي ميكانيكي واعد إلى فتوة. ولابد لنا هنا من طرح سؤال ماذا لو كان "الألماني" وُلد لأب وأم غير أبيه وأمه، ولطبقة غير تلك التي ينتميان إليها؟! ماذا لو كان وُلد لأسرة تسكن أحد قصور المجمعات السكنية المغلقة؟! ماذا لو كان وُلد لطبقة علّمته أن النجاح هو أن يستبدل بلغته العربية لغة أجنبية ما؟! ربما لو كان ذلك قد حدث لكان "الألماني" مديرا تنفيذيا بإحدى الشركات متعددة الجنسيات وبجوار عمله يدرس ماجستير إدارة أعمال في إحدى الجامعات الأجنبية !
إذن فالأزمة ليست في شخص "الألماني" بل في السياق المجتمعي الذي علم "الألماني" أن يكون كذلك، في النظام الذي صنع "الألماني"، وأيضا الأزمة ليست في الطبقة التي ينتمي إليها الألماني، بل في النظام ككل الذي همّش تلك الطبقة ودفعها لصياغة نموذجها القيمي في ظروف غير آدمية من الحاجة والعوز، والمقصود بالنظام ليس فقط النظام السياسي، بل النظام الاجتماعي الاقتصادي بمفهومه الأوسع الذي لا يمثل النظام السياسي ومؤسسات الدولة إلا أحد تجلياته. وربما هذا ما لم يتعرض له الفيلم بشكل واضح حيث دار في أحد مشاهد الفيلم حديث على لسان ضابط شرطة يشكو عجزه عن تطبيق القانون على البلطجية أبناء الأغنياء خوفا من سطوة أهليهم ومن ناحية أخرى فإن ضابط الشرطة يشكو عجزه عن تطبيق القانون على البلطجية الفقراء خوفا مما سيحدثه ذلك من ثورة وسط أهليهم الجياع الذين يُرزقون من ورائهم، فصوّر الفيلم مؤسسة الشرطة وكأنها مؤسسة محايدة تقف بين الاثنين غير أن الحقيقة أن مؤسسات الدولة جميعها ومنها الشرطة - بل بالذات الشرطة والمؤسسة الأمنية بشكل عام - تنحاز لأصحاب الهيمنة والسطوة في المجتمع الطبقي.
إذن فما الحل؟ بالتأكيد ليس الحل في حملات توعية التي يتوجه بها أبناء الطبقات الأعلى لأبناء تلك الطبقات الفقيرة على أمل أن "ينضفوا" أي أن يصيروا مثلهم أبناء الطبقات الأعلى، فطالما ظلت الفروق الاقتصادية قائمة ستظل الفروق الثقافية قائمة ولا يمكن تجاوزها. وليس أيضا الحل في استبدال هيمنة طبقة مكان طبقة، فليست الطبقات الأعلى كلها شر وليست الطبقات الأدنى كلها خير، فكلا الطبقتين قامت بصياغة نموذجها القيمي في سياق النظام. فالحل في إسقاط النظام الطبقي بمفهومه الأوسع. ولن يسقط النظام سوى على أيدي أصحاب المصلحة الحقيقية في إسقاطه، المهمّشين فيه، أبناء الطبقات الفقيرة ... "اللي شكلهم غلط"
باسم زكريا السمرجي
18/7/2012
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذف