الجمعة، ٢٣ ديسمبر ٢٠١١

صور من مصر العشة

بفخر أقول، أنني من أبناء حي المطرية الشعبي، بفخر أقولها أنا من أبناء "مصر العشّة" ويزيد فخري بذلك ما أتاحه لي نشاطي في المجتمع المدني النظامي من التعرف على بعض ملامح "مصر القصر".

فخور بأني أحيا وسط الأغنياء، سكان "مصر العشة". نعم هم الأغنياء .. أليس الغني من استغنى؟ أليس من لم يمتلك الشيء أقرب للاستغناء عنه ممن امتلك الشيء حتى امتلكه الشيء؟! أليس الغني هو من يستطيع أن يقسم لقمته الوحيدة مع جاره دون أن ينتظر منه رد؟ أوليس من يتعمّد أن تكون العلامة التجارية لملابسه في مكان ظاهر منها فقير لتلك العلامة؟ أوليس من يُظهر هاتفه المحمول غالي الثمن هو الفقير إليه الذي لا تكتمل قيمته إلا به؟ لذلك أقول أن سكان مصر العشة المكتفين من الحياة بالقليل هم الأغنياء حقا

سكان مصر العشة – بعكس سكان مصر القصر – لا يعرفون الكلام عن المعاني ولا يصنعون خطبا رنانة حولها، بل إنهم يحيونها، يحيون المعاني، ولقد تبيّن لي ذلك بشدة في الثورة وبخاصة أثناء معارك محمد محمود، فلقد كان أبناء مصر العشة يصنعون الواقع في الصفوف الأولى ويجبرون المجلس العسكري على إعلان تاريخ محدد لانتخابات الرئاسة، بينما سكان مصر القصر يجتمعون ليناقشوا سبل الخروج من "الأزمة"!

يشفق بعض سكان القصر الطيبون على سكان العشة البسطاء الجهلاء ويودّون أن يمدوا لهم يد العون ليكونوا مثلهم، وفي هذه التدوينة أود أن أسوق بعضا من صور مصر العشة، لعلها تصل إلى بعض سكان مصر القصر فيعلمون أنهم هم الأولى بالشفقة لا غيرهم. ويتعامل بعض الباحثين مع هؤلاء البسطاء على أنهم فئران تجارب أو كتلة صماء تتحرك وفقا لتوجيهات "الحكماء" سكان مصر القصر، فإليه أسوق تلك الصور ليعلم أن لدية الكثير ليتعلمه


في الثورة

نزلت للشارع يوم 28 يناير إلى ميدان الجيزة ولم أظن أبدا أن ميدان المطرية ستندلع فيه المظاهرات، وعدت لأجد الحي بأكمله تفوح منه رائحة الحرية المسيلة للدموع وعلمت بعد ذلك أن معركة ميدان المطرية كانت من أهم معارك الثورة وحي المطرية كان من أكثر الأحياء الذي قدّم الشهداء. وبحسب رواية شاهد عيان، فما أجج المعركة إصابة سيدة كانت تحمل طفلتها أصابها الأمن برصاص الغدر - وكل رصاصهم غدر - فسقطت، تزامن ذلك مع وصول مسيرات تعزيز للميدان من الشوارع المؤدية إليه. وانتهت المعركة باحتجاز قوات الأمن في مسجد في الميدان – ظلوا يطلقون منه نيرانهم ويبادلهم الناس بالطوب – واقتحام قسم المطرية وتهريب العساكر الذين سلموا أنفسهم للثوار. الذين كانوا وهم يقتحمون قسم المطرية يقتحمون رمز القمع والرشوة والفساد وحامي حمى البلطجة في المنطقة.

استمعت لتلك الحكاية من شاهد العيان أيام اللجان الشعبية، التي استحالت بعد يومين إلى جلسات سمر ودورات لكرة القدم والطاولة والشطرنج. وكان أحد المُحرَرَين من حجز قسم المطرية يقوم باستخدام دراجته البخارية هو وزميل له بتفقد محيطنا السكني من آن لآخر للكشف عن أي هجمة للبلطجية.

كنا نذهب لميدان التحرير صباحا، ونعود نقضي الليل ساهرين أمام البيوت نقتسم الطعام متحفزين بأسلحتنا التي لم نُضطر لاستخدامها

محمود ضاحي

محمود ضاحي هو طفل ربما عمره الآن أربعة عشر عاما. كان تلميذا في مدرسة في عزبة "أبو قرن"، تلك المنطقة التي تعاني من الفقر المدقع حتى أن أهلها يعيشون في بيوت دون أسقف وتفصل بين بيوتهم ترع الصرف الصحي، كنا ونحن طلاب في كلية الهندسة بجامعة عين شمس نعمل من خلال نشاط طلابي اسمه "علشانك يا بلدي" على تنمية تلك المنطقة من خلال عدة برامج للتنمية، وكنت أشارك في برنامج فصول التقوية، حيث نعمل على مساعدة تلاميذ الصف الثالث الابتدائي في دراستهم.

محمود ضاحي كان الفتوة بين أقرانه، وكنا نقيم لهم احتفالا في آخر العام الدراسي ونحضر لهم من المأكولات والمشروبات ما لم يسمعوا بها بهدف الاحتفال والترويح عنهم. احتفظ محمود ضاحي بنصيبه، بعد أن انقض أقرانه كلٌّ على نصيبه فأفناه. لم يذق محمود من نصيبه شيئا وظل محتفظا به حتى خرج من المدرسة مدافعا عنه ضد هجمات أقرانه الذين كانوا قد انتهوا من أنصبتهم ويتطلعون للمزيد، علمت بعد ذلك أن محمود كان يحتفظ بنصيبه حتى يذهب به لأمه وإخوته، يُطعمهم مما طعم ويسقيهم مما شرب ... أتخشون خروج محمود ضاحي للشارع، وتسمونه بلطجيا أو ثائرا في ثورة جياع؟ هل الجائع هو من يؤثر مشاركة أهله الطعام على الاستئثار به لنفسه؟ أم أن الجائع هو من لم يكترث على رقاب من يدوس ليزيد صفرا على يمين رصيده البنكي ذو الأصفار الستة والسبعة

ولا أترك محمود ضاحي وأهله إلا بعد أن أذكر لكم أننا حينما كنا نتجول في العزبة كان أهالي تلك البيوت التي لا أسقف لها دائما ما يدعوننا بكرم بالغ للشراب أو الطعام الذي ربما يكون آخر قوت في البيت

هذا هو محمود ضاحي وهؤلاء هم أهله

بعض تلاميذ عزبة أبو قرن

سلفي لا يفهم في السياسة

قبيل الانتخابات البرلمانية، وبالأخص يوم السابع عشر من نوفمبر للعام 2011 اجتمعت مع بعض أهالي المنطقة لنتناقش في أمور الانتخابات، كان المكان هو جمعية خيرية ذات مزاج سلفي وكذلك كان الحضور. بدأ أحد الحضور كلامه – وهو سلفي ذو لحية كثة، يعمل تاجرا، وأصيب بخرطوش في يده اليسري يوم 28 يناير أدت إلى تشوه دائم في أصابعه ولكنه لم يملأ الدنيا عويلا – بدأ كلامه بـ "أنا ماليش ف السياسة ولا بافهم فيها"

وكان من ضمن ما قال موجّها خطابه لمرشحي السلفيين والإخوان: "المفترض أن يخاطب المرشحون المصريين جميعا، فهم سيكونون نواب الشعب المصري بجميع طوائفه، ولكنني أشعر من خطاب الإخوان والسلفيين – وبالذات السلفيين – أنهم يظنون أنهم سيأتون نوابا للمسلمين فقط بل وللملتزمين دينيا من المسلمين" .... يبدو فعلا أنه لا يفهم في السياسة

ثم حكى عن مشكلة حدثت مع جيرانه المسيحيين في أعقاب أحداث ماسبيرو، حيث يحكي أن بعض النساء تجلس أمام البيوت في محيط متجره، يتبادلن الأحاديث المعتادة التي لا تخلو من الضحك, وبينما كنّ يتضاحكن إذا مر بهنّ نسوة مسيحيات جيران لهنّ وكنّ لتوهنّ عائدات من تشييع جثامين الضحايا فاندلعت معركة كلامية بين الفريقين انتهت بأن ذهب الجميع إلى بيته. أتى صاحبنا السلفي بالنسوة المسلمات وذهب إلى جاره المسيحي بهن يقول له أننا موجودون معا كنا، ليس لنا إلا بعض. إن اعتدى أحد على الشارع سأحميك وأحمي أهلك وستحميني وتحمي أهلي، فوافقه الرجل على الفور وتصالحوا جميعا ... ألم أقل لكم أنه لا يفهم في السياسة!


رسالة لأمي

بينما نتناول طعام الغداء منذ أسبوع أو يزيد قليلا إذ برسالة تستقبلها أمي على هاتفها المحمول من إحدى صديقاتها التي تشترك معها في حفظ القرآن وبعض الأعمال المجتمعية، كانت الرسالة تقول "بتحلمي بإيه لمصر؟" ضحكنا من الرسالة واستخففنا بها. وكلّمتها أمي فيما بعد لتعلم أن تلك السيدة مع مجموعة أخرى من النساء تقوم بجمع أحلام المصريين ليسلموها للإخوان لأن الإخوان ربحوا في الانتخابات وسيحكمون البلد ... "يورونا بقى هيعملوا ايه" هكذا قالت السيدة البسيطة، ربة المنزل، لأمي

صورة لبعض سيدات المطرية يدلين بأصواتهم في الاستفتاء

الصورة الأخيرة

تعمل أمي موجهة بالتربية والتعليم، وفي يوم وجدتها تحكي لنا حكاية عن مدرسة إعدادية في منطقة فقيرة جدا من مناطق المطرية. قام ناظر تلك المدرسة بالتعاون مع بعض الطلبة والإخصائيين الاجتماعيين برعاية الطلبة الأيتام في المدرسة. والتعامل مع أسرهم وبحث سبل مساعدتهم، وإذ بهم يواجهون مشكلة أخرى وهي أنهم علموا أن بعض التلاميذ يتعرضون لحالات قطع طريق من بعض الأطفال المعروفين بالاسم، وحينما بحثوا وراء هؤلاء الأطفال قطاع الطرق وجدوهم ينتمون لأسر مزدحمة بالأبناء ووجدوا آباءهم إما عاطلين عن العمل أو يعملون في أعمال لا تكفيهم، فماذا فعل هذا الفريق؟ تواصلوا مع كبار القوم في تلك المنطقة من أصحاب الأعمال وحثّوهم على توفير فرص العمل لهؤلاء الأباء، وفعلا تم التشبيك وتضاءلت ظاهرة الأطفال قطاع الطرق

كانت تلك صورا بسيطة وموجزة، فلم أحكِ عن المسيرة التي خرجت من المدرسة الثانوي أيام معارك نوفمبر تهتف يسقط يسقط حكم العسكر، ولم أحكِ عن الشباب الذين كرّموا شهداء المطرية في مؤتمر شعبي، أو عن المبادرة التي قاموا بها للتعريف بمرشحي مجلس الشعب باستخدام شبكات وصلات الدش، المبادرة التي تطورت فيما بعد لتكون إعلاما محليا

لكل تلك الصور وغيرها فخور بانتمائي لهؤلاء الأحرار، المتحررون من ربق الإذعان لمظاهر اجتماعية زائفة، يتحركون ببساطة أفقيا ورأسيا، هؤلاء الأحرار ... سكان مصر العشة



باسم زكريا السمرجي
23/12/2011

هناك ٣ تعليقات:

  1. الله عليك يا باسم كلامك كله صح و اطمئن كثير من الشعب من سكان مصر العشة حتى لو تاه بعضهم قليلا ادا ما حاول التشبه يسكان مصر القصر فاشتروا المحمول الغالى و لبسوا السنييه و لكنهم سرعان ما يعودون لاخلاق مصر العشة اخلاق الفطرة الانسانية السليمة التى لن يستطيع و لا الف زى مبارك ان يخربوها قد تغطى بتراب فساد معدومى الضمير و تتخفى وراء اشمعنا انا و لكنها تعود كالالماظ حتى لو تزارت لعشرات السنين فلتحيا اخلاق مصر العشة و يسقط يسقط حكم العسكر

    ردحذف
  2. أسلوبك جميل و كلامك أجمل و يارب مصر تبقى كلها عشه يا تبقى كلها قصر بأخلاق العشه :)

    ردحذف
  3. هى دى مصر اللى شايفينها وعايشين همومها وسط اهلها الطيبين الكادحين اللى كل تفاصيل حياتهم نضال

    ردحذف