أهم إنجاز للثورة المصرية حتى الآن هو أنها فتحت آفاقا جديدة للعمل العام، فانطلقت المبادرات تباعا تحث الناس على استكمال المسيرة والمسار. وكانت أبرز المبادرات التي انطلقت مؤخرا مبادرة "مصرنا" ولأن من شارك في إطلاقها شخصيات من اتجاهات مختلفة يجمعهم فضلا – عن النوايا الحسنة – أنهم من الوجوه المألوفة للإعلام، اكتسبت المبادرة زخما إعلاميا أراه زائدا عن اللازم، فأثار حولها جدلا وانقساما "تويتريا" عنيفا كالعادة. فالظرف الوحيد الذي يجمع مجتمع تويتر هو المعركة المباشرة! وكان هذا الجدال الدائر كاشفا عن بعض الأمور التي أراها تتجاوز المبادرة وتقترب من بعض المفاهيم المتعلقة بالثورة ذاتها، وهي مفاهيم لا أدّعي إحاطتي التامة بها ولكني سأحاول فيما يلي أن أقدم اجتهادا لعل صوابه أن يكون أكثر من خطئه ولعله يضيف شيئا إلى الجدل الدائر والذي سيظل دائرا.
ثوري أم إصلاحي
كان الاعتراض الأول على المبادرة أنها مبادرة إصلاحية تعترض طريق المسار الثوري. وهذا الاعتراض أراه يحمل بعض الخلط يجعلنا نحاول إعادة تعريف ما هو ثوري وما هو إصلاحي ابتداء. رأيي ببساطة، أن الإصلاح هو محاولة ترميم النظام من داخله، وفي النظم التي لا توفر الحد الأدنى من العدالة، لا يتبنى الطريق الإصلاحي إلا المتواطئون أو المنتفعون أو الطيبون المُقيدون بقيود "إدارة الواقع" العاجزون عن الحلم. أما الثورة فتكون من خارج النظام، وقد تأخذ شكل بناء نظام موازِ بديل ثم إحلال ذلك النظام الموازي بدلا من النظام القديم، أو – كما هو الحال في ثورتنا – محاولات الضغط المستمرة المتعاقبة على النظام التي تتراكم حتى تُحدث الثورة. والخلاف أراه ينشأ من تعريفنا لحدود النظام، فمنا من يتصور أن النظام هو الأشخاص. وبمجرد إسقاط الأشخاص يسقط النظام. ومنا من يتصور أن النظام هو بعض الممارسات كالفساد المالي والإداري والقمع والتزوير مثلا وبإسقاط هذه الممارسات نكون قد أسقطنا النظام (وهؤلاء هم من يختزلون الثورة ويسمّونها "التحول الديمقراطي") ومنا من يقول بأن النظام هو البنى الاجتماعية التي تقوم عليها الدولة، وبتفكيكها وإعادة تركيبها نكون قد أسقطنا النظام (وهو قريب لطرح الاشتراكيين الثوريين) ومنّا من يقول بأن النظام هو الفكرة الفلسفية التي تقوم عليها الدولة أصلا، ولن يسقط النظام إلا بإسقاط تلك الفكرة الفلسفية واستبدال أخرى بها. وطبقا لمفهوم كل منّا عن حدود النظام يتشكل مفهوم كل منّا عن ما هو ثوري وما هو إصلاحي. وأنا وإن كنت – على المستوى الفكري – أتبنى أكثر الحلول راديكالية، إلا أنني أعلم علم اليقين أنه لابد لنا من التدرج على مستوى "الفعل"، وأن راديكالية "الفعل"وإن حققت مكاسبا على المدى القريب فالخطر منها على المدى البعيد كبير.
ووفقا لما سبق أرى أن مبادرة "مصرنا" مبادرة ثورية ولكنها ربما تتبنى مفهوم "التحول الديمقراطي" فمطلقوها – كما فهمت – يحاولون مخاطبة الغالبية التي لا يمكن مخاطبتها بخطاب راديكالي، بغية تدارك ما يروّج له إعلام العسكر من محاولة اختزال الثورة في راديكالية الفكر والفعل لتأليب الشعب على الثورة وتجييش المواطنين الشرفاء الذين يهيب بهم الإعلام للدفاع عن قواتهم المسلحة! فالمبادرة تحاول أن تقدم بديلا يقترب من الغالبية بهدف إدماج أكبر عدد ممكن من الناس في عملية الضغط الممنهج على صانعي القرار الحالين والذين نتوقع قدومهم في المستقبل. وكان تراكم محاولات مماثلة هو ما صنع ثورتنا كما أسلفت.
ورغم أني أعلم أن الأغلبية لا يمكن أن تكون ثورية، إلا أن موقع الأغلبية من الثورة كموقع "المعازيم" من الفرح. هم لا يتحملون تكاليف الفرح ولكن حضورهم هو ما يجعل الفرح فرحا
الثورة والثوار
وحتى إن كانت تلك المبادرة مبادرة إصلاحية، فثورتنا ليست بالهشاشة ولا بالسطحية التي يتصورها البعض، حتى تعطّل مسيرتها مبادرة أو حتى عدة مبادرات، فثورتنا ثورة شعبية لا يمكن لأحد أن يدّعي عليها فضلا، ولا يمكن لأحد أن يدّعي تمثيلها أو اختزالها في شخصه أو تياره الفكري، ولا حتى الذين انتخبهم الشعب بأغلبية واضحة. فالثورة أكبر من الثوار، والشعب أكبر من ممثليه.وهذا من مواطن الخلط أيضا، فترى أحد الناس يقول أن الناس قد كرهت "الثورة"وهو يقصد أن الناس كرهت شكلا معيّنا من الفعل الثوري أو فصيلا بعينه من "الثوار" و آخر يقول أن على "الثورة" أن تصلح أخطائها وهو يقصد أنه على فصائل "الثوار" التي تتناوب الأخطاء أن تصلح أخطاءها، فالثورة هي ملك الشعب كله، بل إن حتى التوفيقيون العكاشيون لا يقدرون أن يهاجموا الثورة، وإنما يدّعون أنهم يريدون أن يحافظوا على الثورة، ومن يذهبون للعباسية ينفون تماما أن يكونوا هم جماعة "آسفين يا ريس".
وكما أن الثورة أكبر من الثوار فالشعب أكبر من ممثليه، وما كان انتخاب الشعب للإخوان أو السلفيين أوغيرهم إلا اختيارا في ظرف معين بين اختيارات محدودة بحدود القدرة المالية والإعلامية، وهذا الاختيار لا يُخوّل لأي أغلبية برلمانية كانت احتكار الإرادة الشعبية والمزايدة المستمرة باسمها. فالإرادة الشعبية هي عند الشعب باستمرار والشعب هو من يحميها لا فصيل بعينه أو نخبة بعينها.
تحديات تواجه المبادرة
بالحديث عن التحديات التي تواجه المبادرة، فأرى أبرزها كالآتي:
- أن يتصور أصحاب المبادرة أنهم المظلة التي لا بد أن تمثل الثورة، وأن من مهامهم "توحيد الجهود" كما جاء في حديث الأستاذ زياد في حلقة العاشرة مساء التي تم فيها الإعلان عن إطلاق المبادرة، ولا أدري إن كانت زلة لسان أم عقيدة يعتنقها القائمون على المبادرة أم سلوكا لن يستطيعوا مقاومته حتى وإن حاولوا؟! فخطورة ذلك – حتى وإن حسنت النوايا – المساهمة في اختزال الثورة مما يسهّل تفتيتها واحتواءها بعد ذلك، ولأن ثورتنا أعمق من ذلك فلا أخشى على الثورة وإنما أخشى على الإحباط الذي سيصيب البعض جراء فشل مسعاهم
- أن تُدار تلك المبادرة بعقلية الـ Business فيكون نجاح المبادرة مرتبطا بالـ Mass Production سواء في عدد المنضمين أو المؤيدين أو في ارتفاع صوت المبادرة وعدد مرات ظهورها الإعلامي، ويتم التعامل مع الثورة على أنها منتج وتقع المبادرة في فخ المنافسة التسويقية مع المبادرات الأخرى
- أن تذهب المبادرة للمفاوضات مع السلطة وتدّعي أنها تمثل الثورة. ولا أرى عيبا كبيرا في التفاوض في بعض الأوقات، ولكن العيب أراه في ادعاء تمثيل الثورة والقدرة على تحريك الشارع
- أن تتحول المبادرة إلى مبادرة إعلامية يفوق اهتمامها بالحديث عن ما تريد فعله عن اهتمامها بفعل ما يستدعي الحديث عنه. وهذا عين ما وقعت فيه المبادرة بالفعل في الحلقة التليفزيونية التي تم فيها إطلاق المبادرة. فكان ظهور هذا العدد الكبير من الشخصيات يسبق أي فعل حقيقي، بل سبق هذا الظهور حتى بلورة رؤية يمكن تقديمها للناس، فكان الحديث في الحلقة على نمط "كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء" فوقع الناس في الحيرة، وكان النقد الأكثر واقعية والأكثر عنفا من كل المزايدات في رأيي هو إعلان كثير من الناس عن عدم الفهم، فتحولت المبادرة في أعين البعض إلى "الفنكوش" الذي لا نعرف حقيقته، ودعّم تلك الصورة ما كُتب عن المبادرة في موقعها الإلكتروني الذي كان رؤية وأهدافا ورسالة يمكن تلخيصها في جملة واحدة "احنا عايزين مصر تبقى حلوة". كان يمكن تجاوز ذلك كله والاكتفاء بفيديو قصير يتم عرضه في الفواصل بين البرامج في القنوات المختلفة يدعو الناس للانضمام إلى المبادرة والمساعدة في إنضاج الفكرة وبلورتها، بدلا من تلك الجلبة التي جلبت للمبادرة عددا من المؤيدين والمعارضين يفوق طاقتها وحقيقتها بكثير
في النهاية أرجو النجاح "الحقيقي"للجميع طالما أخلصوا النية. و أرجو من كلّ منّا أن ننتقل من مساحة "تفطيس" الأشخاص إلى مساحة "تقويم" الأفكار، فكما قلت وأكرر وسأكرر الثورة أكبر منّا جميعا، وأكثر تركيبا من أن تحيط بها أفهام أحد منّا. نحتاج لجميع المسارات وجميع الأفكار، شرط الإخلاص
(تبدو الخاتمة المنطقية لهذه الفقرة "والله الموفق والمستعان" لكن لأسباب تعلمونها جميعا سأتجنب تلك الخاتمة وأستبدل بها "والله أعلم" )
باسم زكريا السمرجي
29/12/2011