يبدو من الجدل الدائر الآن حول ما يتم الكشف عنه من نتاج عمل اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور – مع ربط ذلك الجدل بمسار الثورة منذ اندلاعها وحتى الآن – أننا نعاني من أزمة هوية. وعلى ما يبدو فإن تلك الأزمة ضاربة في جذور مجتمعنا إلى الحد الذي لا يمكن معه ادّعاء أن مجرد الرغبة في تجاوزها تكفي لتحقيق ذلك التجاوز، بل إن الطريق لتجاوزها هو الاشتباك معها ومحاولة فهمها ليس كقضية نظرية مستقلة بذاتها تعمل في الفراغ بل كإشكالية تتخلّق من تفاعل غيرها من القضايا في واقعنا الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي. فرغم أن كثير من المفكرين يقولون بأن الهوية ليست إلا وهما، إلا أنها أكثر الأوهام حقيقة، بل قد تصل إلى أن تكون أكثر حقيقية من الحياة ذاتها فهي لكثير من البشر علّة الوجود ومصدر المعيارية، وفي سبيلها ضحوا بحياتهم في حروب كانت في كثير من الأحيان تقوم لأسباب مختلفة. لذلك فمن التبسيط أن نتصور أن الهوية ليست إلا وهما لا حقيقة فيه.
أول ما يتبادر إلى الذهن حين التعرّض لسؤال الهوية أن المقصود هي الهوية القومية، أي وعي جماعة من الناس بموقعهم من التاريخ والجغرافيا وبالتالي حركة تلك الجماعة في العالم انطلاقا من ذلك الوعي. غير أن التفاعل الحقيقي مع سؤال الهوية يكون بمحاولة استكشاف طبقات أكثر عمقا يتجلى فيها مفهوم الهوية على الفرد والمجتمع. ومثل أن هوياتنا القومية الحديثة تشكّلت في خضم مشروع الحداثة الذي رغم تعدد مدخلاته ظلت اليد الطولى فيه للهيمنة الكولونيالية الغربية، فإن هويّاتنا داخل المجتمع في تلك الفترة تشكّلت تحت سطوة هيمنة أصحاب النفوذ في نظام تخلّت فيه الدولة عن أدوارها الواحد تلو الآخر حتى سلّمت نفسها تماما لأصحاب النفوذ في المجتمع المهيمنين على شبكات المصالح في النظام يسوقونها حيث أرادوا، ولأن الإنسان لا يولد ولديه ذلك الوعي الذاتي بهويته، بل يتشكّل وعيه بهويته في إطار تفاعله داخل المجتمع، لذلك فمن البديهي أن يتأثر وعينا بذواتنا بطبيعة العلاقات المجتمعية في ذلك النظام الذي كان لقلّة من أصحاب النفوذ والسيطرة اليد الطولى في صياغة فلسفته وتفعيلها.
لأن فلسفة النظام تحوّلت من الحشد الجماهيري على الشعارات القومية بهدف توجيه وإدارة الحيز العام، إلى خصخصة الحيز العام كان لذلك التحول تأثير على شكل العلاقات المجتمعية وبالتالي على وعينا بهويّاتنا. فلا يمكن لسياسات النيوليبرالية وفي القلب منها الخصخصة أن تقتصر على الاقتصاد، بل لابد أن تتسرب إلى المجتمع لتفتته وتخلق في مساحاته العامة تصدّعات وشروخ ينفذ منها أصحاب النفوذ ليشملوا بنفوذهم الحيز العام ويحوّلوه إلى مجموعة من المساحات الخاصة، فيتحول بذلك المجتمع إلى مجموعة من الأفراد. ليس ذلك فحسب، بل إن النظام يتسرّب إلى عقولنا ليكمل مهمته ويخلق لكل منا أوهاما بعضها فوق بعض ويدفعنا للتمترس خلفها كهوياتنا الفردية التي ننظر من خلالها لباقي البشر على أنهم "آخر" نتعامل معه اضطرارا على خلفية تعاقدية أو نتسامح معه اتقاء لشرّه، وربما في هذا الإطار نستطيع أن نفهم توجه أصحاب النوايا الطيبة من سكان "المجتمعات المغلقة Gated Compounds" للفقراء بالإحسان خوفا من ثورة الجياع، وهم يظنون أنهم يقومون بواجبهم تجاه المجتمع غير أنهم في حقيقة الأمر يقومون بواجبهم تجاه النظام.
ورغم أن "المصالح بتتصالح" ورأينا أن من رجال الأعمال الملتفين حول الرئيس مرسي المصاحبين له في رحلاته الخارجية من هم سبق وأن التفوا حول مبارك من قبل. ورغم أن الثورة حتى الآن لم تنجح في خلق هيمنة مضادة تحل محل هيمنة أصحاب النفوذ في النظام القديم بتعبير المفكر الماركسي أنطونيو جرامشي، إلا أننا نستطيع أن نجد بعض من يقتربون من الفكر الثوري بشكل أو بآخر أو بعض من ليس لهم صلة مباشرة بأصحاب النفوذ القدامى أعضاء في الجمعية التأسيسية. وربما يكون ذلك هو ما عطّل إنجاز الجمعية لمهمتها، وربما يكون ذلك السبب أيضا في دفع سؤال الهوية إلى الجمعية التأسيسية والذي نلحظه في الهوس بحماية تصور ما عن هوية الدولة. ورغم أن الدستور في نهاية الأمر لا يعدو كونه مجموعة من الأوراق التي لا تكفل حقا ولا تمنع جورا، فالدستور المصري لم يكفل حق الثورة الشعب ولم يبح التعذيب للشرطة إلا أن فهم الديناميكيات المصاحبة لآلية إنتاجه يساعدنا بشكل ما على تطوير فهمنا لبعض جوانب المجتمع.
غير أن الدستور الحقيقي هو الذي لا يُكتب، بل يخلقه الناس ويحيونه بإعادة امتلاك الحيز العام وكسر احتكار أصحاب النفوذ له، وإعادة صياغات العلاقات لتكون أكثر إنسانية نعرف فيها بعضنا البعض ونكتشف فيها مساحة المشترك، فنعرف "أنا" و"هو" في إطار الـ"نحن". ولنذكر نصيحة حسن أرابيسك لنا حين قال: "إنما المهم، المهم أوي، نعرف احنا مين وأصلنا ايه. ساعة ما نعرف احنا مين، هنعرف احنا عايزين ايه ونبدأ ونتَكّل على الله" .. "احنا" وليس "أنا"
باسم زكريا السمرجي